الخميس، 3 ديسمبر 2015

مدارج الانحراف بالسلطة - الإنحراف في منتهاه : انحراف السلطة التأسيسية

مدارج الانحراف بالسلطة
الإنحراف في منتهاه : انحراف السلطة التأسيسية
بقلم المستشار / محمد أمين المهدي
رئيس مجلس الدولة الأسبق والقاضي السابق بالمحكمة الجنائية الدولية
 ووزير شئون مجلس النواب والعدالة الإنتقالية
منشور بمجلة الدستورية - العدد الخامس والعشرون – السنة الثانية عشر – أبريل 2014

الفكرة المحورية :

تتعدد مناحى الرقابة على الانحراف بالسلطة، وعلى وجه الخصوص فى مجال الحقوق والحريات العامة. وتمثل هذه الرقابة القضائية الدعامة الأساسية التى تقيم دولة القانون والتى تضمن حق المواطن فى الإدارة الرشيدة التى أصبحت، ومعها الحق فى التنمية وفى البيئة الصالحة، من الحقوق التى يستظل بها المواطن كقيمة عليا تعتبر مفترضاً أولياً فى الدول الديمقراطية.
فهناك الرقابة القضائية فى مجال الانحراف بالسلطة الإدارية ويمارسها
القاضى الإدارى، وهناك الرقابة القضائية على الانحراف بالسلطة التشريعية وتباشرها المحكمة الدستورية العليا، ومعها وتساندها فى ذلك مختلف الجهات القضائية وهذا النوع الأخير من الرقابة على الانحراف بالسلطة التشريعية بشَّر به منذ أكثر من خمسين عاماً فقيه الأجيال الدكتور السنهورى باشا رئيس مجلس الدولة، فكان أن لاقى اجتهاده النصيب الأوفر من قضاء المحكمة الدستورية العليا الشامخ الذى أورد فى الحديث من أحكامه، وعلى الأخص الحكم الصادر بجلسة 14 من يونيه 2012، أن تجاهل المجلس النيابى، عن قصد، المثالب الدستورية التى تعيب مشروع قانون، يصم إقرار المجلس النيابى له بعيب الانحراف التشريعى.
وفيما نحن بصدده، فمن الجدير الإشارة إلى الحكم الصادر عن المحكمة الإدارية العليا بجلسة 17 من مارس 2011 ومفاده أن الدستور يتضمن نوعين من الأحكام أولاها يتعلق بالمقومات الأساسية للمجتمع وحقوق الأفراد وحريتهم، ويتبع ذلك بحكم اللزوم المبادئ الأساسية التى تنظم السلطة القضائية، والآخر يتعلق بتنظيم السلطتين التشريعية والتنفيذية ورئاسة الدولة، ويتميز النوع الأول من الأحكام بأنها وإن تضمنها الدستور فإنها تعلو فوقه بإعتبارها ــ وفق طبيعتها ــ لصيقة بالمواطن فلا تقبل وقفاً أو تعطيلاً أو إنتقاصاً   (1). كما أن للمحكمة الدستورية العليا قضاء مفاده أن الأصل فى النصوص الدستورية أن تؤخذ متكاملة بحيث تترابــط فيما بينها بما يرد عنها التنافر أو التعارض  (2) وإنه ولئن كان ذلك فقد أوضح الفقيه المستشار دكتور / عوض المر الرئيس الأسبق للمحكمة الدستورية العليا أنه إذا " بان لقضاة الشرعية الدستورية استعصاء تأويل نصوص الدستور بما يقربها من القيم التى تعلوه، لم يعد أمامهم غير الإحتكام إلى الطبيعة الديمقراطية لنظم الحكم وإلى مبدأ الخضوع للقانون وفق الضوابط التى إلتزمتها الدول الديمقراطية سواء فى مجال الحقوق التى أقرتها أو على صعيد القيود على ممارستها التى تتوافق عليها الدول الديمقراطية فى مباشرتها لوظائفها " (3).
وترتيباً على ما سبق، فقد يكون مشروعاً التساؤل عما إذا كان من المتصور أن ينطوى الدستور ذاته على نص أو أكثر يعتوره انحراف بسلطة التأسيس. والرأى عندى أن نصوصاً فى دستور سنة 1971 بعد تعديله سنة 1980، ودستور 2012 يشوبها انحراف بواح بالسلطة التأسيسية يصمها بالعـوار. وإنه ولئن كان من الفقـه من يفرق بين نظام الدولة القانونية (Le système de l'Etat de droit) ونظام الدولة الشرعية وهى التى تكون فيها سلطة التشريـــــع، على عكـــــس النظـــــام الأول، غير خاضعـــــة لرقابــــــة المشروعيــــة الدستوريــــة (Le système de l'Etat légal) .
فعلى أى نحو يكون وصف نظام سياسى تتضمن وثيقة تأسيسه انحرافاً، سواء تمثل فى خروج عمدى عن المبادئ العامة الأساسية التى تتضمنها أو تستخلص لزاماً من أحكام الوثيقة الدستورية، أو كان الخروج، عن قصد، على القيم العليا التى تسمو على الدستور ذاته حسب تعبير القاضى والفقيه الكبير دكتور/ عوض المر، وهى تلك القيم التى تواتر العمل فى الدول الديمقراطية على تبنيها كأغراض نهائية تلتزمها نظمها على تنوعها.

 نشأة الرقابة على الانحراف بالسلطة

يُسبغ على القاضى الإدارى وصف بأنه قاضى المشروعية وقاضى الحقوق والحريات العامة، ولهذا الوصف، الذى هو مصدر فخر وعزة لكل من ينتمى لهذا الفرع من القضاء، أسبابه ودواعيه، ويمكن القول فى إيجاز بأن هذه الأسباب والدواعى تتحصل فى إعتبارين :
إعتبار تاريخى يرجع إلى أن القاضى الإدارى كان سباقاً فى مسيرة القضاء المصرى الحديث، إلى تقرير اختصاص القاضى فى رقابة دستورية القوانين، حيث أصدرت محكمة القضاء الإدارى فى 8 من فبراير سنة 1948، أى خلال أقل من عامين على إنشاء مجلس الدولة المصرى، حكماً يؤكد على حق قاضى المنازعة بل واجبه فى إنزال صحيح رقابة المشروعية على واقع المنازعة، وأولى مقتضيات المشروعية وجوب احترام التشريعات الأدنى للتشريعات الأعلى مرتبة. ولما كان الدستور على القمة فى مدارج النصوص القانونية فيتعين على التشريع ألا يعارض أحكامه، فإذا تحقق التعارض تعين على القاضى الفصل فى أى النصوص هو واجب التطبيق، ولا يعدو أن يكون التعارض صعوبة قانونية مما يتولد من المنازعة فتشملها سلطة المحكمة فى التقدير وفى الفصل لأن قاضى الأصل هو قاضى الفرع. وكان القضاء المصرى حتى صدور هذا الحكم التاريخى من محكمة القضاء الإدارى يحجم عن إنزال الرقابة الدستورية على التشريعات، بل إن الحكم الصادر من محكمة الجنايات فى ديسمبر سنة 1948 (4)، أى بعد صدور حكم محكمة القضاء الإدارى المشار إليه، توقف عند حد التحقق من الشروط الإجرائية فى التشريع المطلوب تطبيقه على المنازعة المعروضة عليه.
أما الإعتبار الثانى، الذى يتصل بمنهج القاضى الإدارى فيتحصل فى أن المساس بالحقوق والحريات العامة إنما يستند فى العمل إلى قرارات إدارية تصدرها الجهات الإدارية أو إجراءات تتخذها فى صورة لوائح عامة أو قرارات فردية، والطعن على هذه القرارات يختص بنظره القضاء الإدارى، ومن هنا كانت تسمية القاضى الإدارى بأنه قاضى الحقوق والحريات العامة.
فإذا كان القاضى الإدارى سباقاً إلى إعمال رقابة المشروعية فى كامل صورها، أى بما فيها رقابة دستورية التشريعات، فضلاً عن أنه هو الملجأ والملاذ فى شأن حماية الحقوق والحريات العامة، فإن ذلك يكشف عن أهمية الدور الذى يقوم به سواء من حيث تقرير مبدأ المشروعية أو ضمان احترام هذه المشروعية (5)
ولا يغير من أهمية دور القاضى الإدارى فى مجال الرقابة الدستورية، ما أخذ به المشرع الدستورى اعتباراً من دستور سنة 1971 من إنشاء محكمة دستورية عليا تتولى دون غيرها الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح (المادة 175 من الدستور والمادة 192 من الدستور الحالى).
فليس من شأن إسباغ الاختصاص برقابة دستوريــة التشريعــــات للمحكمــة الدستورية العليا ما يقلل من أهمية دور القاضى الإدارى فى مجال الرقابة الدستورية. أساس ذلك أن قاضى المنازعة هو الذى يحيل الدفع بعدم الدستورية أو يأذن للخصم بإقامة الدعوى أمام المحكمة الدستورية العليا. فقاضى المنازعة هو الذى بيده أن يوصل النزاع الدستورى إلى المحكمة الدستورية العليا أو يحجب عنها ذلك. فإليه يرد بدء النزاع حول الدستورية، وهو الذى يُنزل رؤيته على جدية المنازعة فى شأن الدستوريـة، ثم هو الذى يحيل أو يأذن بإقامة الدعوى الدستورية أو لا يأذن بإقامتها. فمحرك الدعوى الدستورية واقعاً وقانوناً هو فى البدء قاضى المنازعة (6)
وأزعم _ دون مبالغة_ أن القرار الصادر بالإحالة إلى المحكمة الدستورية العليا إذ يتعين، إعمالاً لحكم القانون، أن يتضمن بيان النص التشريعى المطعون بعدم دستوريته والنص الدستورى المدعى بمخالفته وأوجه المخالفة، (المادة 30 من قانون إنشاء المحكمة الدستورية العليا الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979) فهو يعرض وجهة نظر وتقدير قاضى المنازعة القريب من الواقع والمعايش لظروف المنازعة. الأمر الذى جرى معه العمل على أن يكون محل تقدير واعتبار عند تصدى المحكمة الدستوريـة العليا للفصل فى الشأن الدستورى. وفى المقابل فإن القاضى الإدارى لا شك فى أنه ينهل من مفاد أحكام القاضى الدستورى مما يحقق، فى العمل، تكاملاً مطلوباً، خاصة فى مجال حماية الحقوق والحريات العامة. (7)
فإذا كان ذلك، ولما كان القاضى الإدارى يقوم بدور هام فى رقابة دستورية التشريع على نحو ما سبق الإلماح إليه، فإنه يكون من الملائم التعرض بالبيان لنطاق الرقابة التى يمارسها القاضى الإدارى، وهو بعد قاضى المشروعية وقاضى الحقوق والحريات العامة، بصدد التنظيم التشريعى لهذه الحقوق والحريات العامة المنصوص عليها بالدستور، وعلى وجه الخصوص بيان ما إذا كان نطاق هذه الرقابة يتسع ليشمل الرقابة على الانحراف التشريعى بمناسبة تنظيم هذه الحقوق والحريات العامة.
وكل ذلك مما أتناوله فى ثلاثة مباحث : مبحث أول أعرض فيه للتناول الفقهى ويليه مبحث يبين أهم ملامح القضاء الدستورى فى هذا الشأن، ثم أخيراً أعقب ذلك بنظرة نقدية لأهم ما تضمنته التشريعات وأحكام المحكمة الدستورية العليا فى الموضوع الذى نحن بصدده.

أولاً : التناول الفقهى لموضوع مراقبة الانحراف التشريعى (8)

أ‌. نطاق الانحراف بالتشريع :

من الأصول العامة المقررة أن للمشرع، فى حدود الدستور، سلطة التشريع. فما لم يقيد الدستور المشرع بقيود محددة فإن سلطته فى التشريع هى سلطة تقديرية.
ونطاق السلطة التقديرية يكاد يستغرق النشاط التشريعى، حيث إن السلطة المحددة فى الدستور تنصرف إلى حالات قليلة من أمثلتها الحق فى المساواة أمام القانون وعدم جواز إبعاد أى مواطن عن البلاد أو منعه من العودة إليها وعدم جواز تسليم اللاجئين السياسيين، وعدم جواز مزاولة رئيس الجمهورية أو الوزير، أثناء مدة الرئاسة أو تولى المنصب الوزارى، مهنة حرة أو عملاً تجارياً أو مالياً أو صناعياً، أو أن يشترى أو يستأجر شيئاً من أموال الدولة أو أن يؤجرها أو يبيعها شيئاً من أمواله أو يقايضها عليه، فإذا خالف المشرع هذه الحدود كان التشريع باطلاً لمخالفته الدستور.
أما ممارسة باقى أنشطة التشريع فهى المجال الرحب لإعمال سلطة التقدير للسلطة التشريعية.
والرقابة على سلطة التقدير لا يحدها، على ما هو معروف إلا عيب الانحراف بالسلطة. وعلى ذلك فمنطقة الانحراف التشريعى أوسع بكثير من منطقة مخالفة التشريع للدستور، ومن هنا تبرز الأهمية القانونية والعملية للقول بإمكان المراقبة القضائية لانحراف المشرع فى استعمال سلطة التشريعية.
ومما له مجال ذكر فى هذا الخصوص، أن القاضى الإدارى مؤهل بأكثر من غيره لإستيعاب استخدام آليات الرقابة القضائية على الانحراف بالسلطة، فقد تمرس القاضى الإدارى على إعمال هذه الرقابة على القرارات التى تصدرها الجهات الإدارية، ومن ثم فليس هو بالبعيد عن هذا المجال ولا عن الحدود التى يتعين على القاضى أن يلتزمها حتى لا يحل نفسه محل السلطة المختصة بالإجراء.
ويمكن القول بأن الانحراف بالسلطة التشريعية يمثل المرحلة الثالثة فى تطور الرقابة القضائية على ركن النية، بعد نظرية التعسف فى استعمال الحق التى يعرفها القانون المدنى ونظرية الانحراف فى استعمال السلطة الإدارية التى يأخذ بها القانون الإدارى.

ب‌. معيار الانحراف فى استعمال السلطة التشريعية :

يدق التعرف على معيار للإنحراف فى استعمال السلطة التشريعية، ذلك أنه إذا صح القول بأن الانحراف فى استعمال السلطة الإدارية يقوم على معيار ذى شقين : شق ذاتى يتعلق بالأغراض والنوايا التى أضمرتها السلطة مصدرة القرار، وشق موضوعى يتعلق بإستهداف الصالح العام، فإن الأخذ بهذا المعيار وتطبيقه على الانحراف التشريعى تحوطه مآخذ كثيرة أهمها أنه من غير المتيسر دائماً، وفى كل الأحوال من غير المستساغ، افتراض نسبة غايات شخصية إلى الهيئة التشريعية، فالمفروض فرضاً أن هذه الهيئة إنما تستعمل سلطتها لإستهداف تحقيق المصلحة العامة.
وحتى فى الفروض الواقعية التى لا يخفى عن الأبصار استهدافها نفع بعض الأفراد أو الهيئات أو إيقاع الضرر بهم، فإن التشريع يحرص دائماً على إعلان التمسك بإعتبارات المصلحة العامة سنداً لصدوره(9) وفى جميع الأحوال فإنه يصعب الإقتناع أو محاولة الإقناع بمعيار للانحراف التشريعى ينطوى ولو فى شق منه على عنصر ذاتى. فإذا كان التعسف فى استعمال الحق يقوم على معيار ذاتى محض هو نية الشخص الإضرار بالغير كما هو أمر مألوف فى استعمال الحقوق الخاصة، وإذا كان الانحراف بالسلطة الإدارية يقوم على معيار ذى شقين : ذاتى وموضوعى لأن رجل الإدارة وهو يمارس سلطته العامة أقل انقياداً للدوافع الذاتية من الفرد وهو يباشر حقوقه الخاصة، فإنه لا مجال لأى معيار يقوم عليه الانحراف التشريعى، غير المعيار الموضوعى الذى لا تأتيه الذاتية من أمامه ولا من خلفه، يبرر ذلك أمران : الأمر الأول هو افتراض استهداف جهة التشريع المصلحة العامة، وهى بعد جهة مُشكلة من عدد من الأعضاء يمثلون الشعب وقد يصعب إفتراض تواطئهم على استهداف مصلحة غير المصلحة العامة. والأمر الثانى، أن مجال الإنحراف التشريعى هو مجال بالغ الدقة فلا يحتمل قيامه على غير معيار ثابت مستقر، لا مجال للخطأ فى فهم معناه ولا محل للإختلاف فى تفسيره، وإلا انعكس ذلك بأثره على صفة ثبات التشريع وسمة إستقراره، وكل ذلك من أولى متطلبات حقيق مفهوم سيادة القانون وما يتعين أن تشيعه من طمأنينة ينعم بها، أو يفترض أن ينعم بها، كل من يستظل بظلال هذه السيادة.
وفى سبيل التعرف على المعيار الموضوعى الذى يصلح معياراً للكشف عن الانحراف فى استعمال السلطة التشريعية فإنه مما يسهل تحسس معالم طريق الموضوعية إجراء التفرقة بين فروض خمسة بيانها كما يلى :
(1)    الفرض الأول : يُرجع فيه إلى طبيعة التشريع ذاتها معياراً موضوعياً. بيان ذلك أن السمة الأساسية فى التشريع هى فى كونه قاعدة عامة مجردة، فإذا صدر التشريع مستهدفاً تطبيقه على حالة فردية واحدة ففى هذه الحالة يكون المشرع قد انحرف فى استعمال السلطة التشريعية. ومعيار الإنحراف هنا هو موضوعى محض إذ لا حاجة إلى الكشف عن النوايا المستترة التى اقترنت بهذا التشريع، إذ هو فى حقيقته قرار إدارى يتعارض مع طبيعة التشريع وإن استتر بمسوحه. والمثل الذى يضرب لهذا الفرض هو صدور تشريع بإلغاء هيئة قضائية للتخلص من أعضائها ثم إعادة تشكيلها بعد مدة وجيزة بتشريع آخر. وقد حدث ذلك فعلاً فى مصر فى أغسطس سنة 1969، حيث صدرت قرارات بقانون بحل كافة الهيئات القضائية ثم أعيد تشكيل تلك الهيئات وأرفقت بالقرار بقانون بإعادة التشكيل قائمة تضمنت أسماء من رئى إبقاؤهم بهذه الهيئة أو تلك، أما من لم يرد اسمه فى إحدى تلك القوائم فاعتبر معزولاً عن الهيئة القضائية التى كان ينتمى إليها (10) فالتشريعات الصادرة بحل الهيئات القضائية فى هذه الحالة ؛ صدرت فاقدة للشروط الموضوعية للتشريع من عمومية وتجريد، حيث استهدفت عزل قضاة بذواتهم من الهيئات القضائية التى كانوا ينتمون إليها. كما يضرب الفقه مثلاً يتحقق به هذا الفرض ويتحصل فى صدور تشريع عام مجرد فى مناسبة قضية معينة منظورة أمام المحاكم ويكون التشريع مما لا ينطبق إلا على هذه القضية بالذات.
(2)     الفرض الثاني: مجاوزة التشريع للغرض المخصص الذى رسم له : ويتحقق هذا الفرض فى الحالات القليلة التى يتحدد فيها هدف مخصص لتشريع معين. ويضرب الفقه لذلك مثالين : صون الأمن والنظام العام فى تشريعات الأحكام العرفية ووقاية النظام الإجتماعى فى تشريعات الصحافة والاجتماعات العامة (11)
ففى شأن الأحكام العرفية وإذ كان التشريع المنظم لها ينص على أن الغايات المخصصة للأحكام العرفية هى صون الأمن والنظام العام، وحاجات الحرب، والتموين، فإنه إن جاز للمشرع أن يستعمل سلطة التقدير فى تحديد دائرة الأمن والنظام وحاجات الحرب والتموين فإنه إن أضاف إلى الاختصاصات المخولة للسلطة القائمة على إجراء الأحكام العرفية اختصاصات أخرى لا تدخل فى هذه الغايات المخصصة تحت ستار أنها تدخل فيها كأن أجاز للسلطة العرفية القبض على متهمين فى جرائم يقول إنها تتصل بالأغراض المحددة وهى لا تتصل أو أجاز تقييد الحريات بدعوى أن هذا التقييد قصد به تحقيق هذه الغايات وكان التقييد بعيد المدى إلى حد يجاوز الحاجة؛ كان التشريع متخطياً الغاية المخصصة ومن ثم مشوباً بالإنحراف فى استعمال السلطة التشريعية. وكذلك الحال فى شأن تشريعات الصحافة والاجتماعات العامة إذ المقصود بالنصوص الدستورية التى تنظم شئون الصحافة والاجتماعات العامة (المادتان 15 و20 من الدستور المصرى لسنة 1923) أن تستهدف ما قد يتضمن التشريع من قيود وقاية للنظام الاجتماعى، فإذا خرج التشريع عن هذه الدائرة حتى لو كان يستهدف غرضاً آخر مما يدخل فى دائرة حفظ الأمن والنظام العام، فيكون التشريع مشوباً بالانحراف. ويكفى التثبت فى هذه الحالة من أنه ولئن كانت القيود التى تضمنها التشريع قد نسبت إلى وقاية النظام الاجتماعى إلا أنها تجاوز من ناحية مجردة محضة هذه الدائرة المحددة.
(3) الفرض الثالث:  كفالة الحريات والحقوق العامة فى حدودها الموضوعية :
فإذا كانت هناك حقوق وحريات دستورية عامة مطلقة لا تقبل التقييد كحظر إبعاد المصرى فإن صدر تشريع يقيدها كان باطلاً لمخالفة الدستور، إلا ان الغالبية من الحقوق والحريات العامة ينص الدستور على أن يكون تنظيمها بقانون، مما مؤداه أن يكون للمشرع سلطة تقديرية ليقوم بهذا التنظيم.
وإذا توافرت سلطة التقدير فى مجال هذا خطره وهذه أهميته، وُجد معها الحد الذى تقف عنده، وهو حد الإنحراف بالتنظيم عن الغرض الذى قصد إليه الدستور وهو كفالة هذه الحقوق والحريات فى حدودها الموضوعية. فإذا نقضها المشرع أو إنتقص منها، تحت ستار التنظيم، كان تشريعه منطويًا على إنحراف لا مخالفًا لنصوص الدستور. أساس ذلك أن كل حق عام أو حرية عامة وكّل الدستور إلى المشرع تنظيمها بقانون، يعنى بحكم اللزوم الدستورى ضرورة التزام المشرع الغاية المخصصة له دستوريًا، وهذه الغاية هى تنظيم الحق على وجه لا ينقض معه الحق ولا ينتقص.
ويؤكد الفقه على أن هذا المعيار هو معيار موضوعى ؛ إذ ليس الرقيب على الدستورية بحاجة إلى الكشف عن الأغراض والنوايا المستترة التى اقترنت بالتشريع وقت صدوره، بل يكفى تبين أن الحق العـــــام أو الحرية العامة الذى نظمه أو نظمها المشرع قد أصبح أو أصبحت بعد التنظيم، منتقصًا منها، الأمر الذى يخرج عن الغاية التى قصد إليها الدستور. ومن الأمثلة التى يضربها الفقه على ذلك، الحق فى الاجتماعات العامة. فلو صدر تشريع ينقض حرية الإجتماعات العامة أو ينتقص منها انتقاصًا خطيرًا كان التشريع باطلاً لانطوائه على انحراف باستعمال السلطة.
وقد كان لمحكمة القضاء الإدارى قضاء بأنه إذ تبين لها أن قانون الإجتماعات هو من التشريعات التى أقرها البرلمان باعتباره قانونًا مقيدًا للحريات فيبقى القانون على أصله باعتباره كذلك، أى قيداً على الحرية، مما يتعين معه تفسيره تفسيرًا ضيقًا فلا يجوز تطبيقه إلا عند الضرروة القصوى ولا يجوز أن تتذرع به الإدارة لمنع الإجتماعـات إلا إذا اجتمعت لديها أسبـاب بالغة الخطـــورة تبرر هذا المنع. ( الحكم الصادر بجلسة 7 من نوفمبر سنة 1951 ).
ومما له مجال ذكر فى هذا المقام، الإشارة إلى ما تضمنه التعديل الدستورى، لسنة 2007 الذى تم على أحكام دستور سنة 1971، فمن ضمن ما تم تعديله نص المادة (179) التى تضمنت، بعد تعديلها، حماية الأمن والنظام العـــــــام فى مواجهة أخطار الإرهاب، فأجازت للمشـرع تنظيم أحكام خاصة بإجراءات الإستدلال والتحقيق التى تقتضيها ضرورة مواجهة هذه الأخطار بما فى ذلك عدم التقيد بإجراءات منصوص عليها بالمواد (41/1) و (44) و (45/2) وهى المواد التى وردت تحت الباب الثالث بعنوان الحريات والحقوق والواجبات العامة، وتتعلق تلك المواد أساسًا بتكييف الحرية الشخصية بأنها حق طبيعى وبحرمة المساكن التى لا يجوز انتهاكها إلا بأمر قضائى وبحرمة وسرية المراسلات البريدية والمحادثات التليفونية. ومع التوسعة التى تضمنها النص الدستورى والتى قيل فى تبريرها الخطورة التى تتمثل فى الظاهرة الإرهابية المعاصرة، إلا إنه يبقى أن أى تشريع يتصدى بتنظيم إجراءات مكافحة الإرهاب استنادًا لحكم المادة (179) من الدستور المشار اليها يتعين حتمًا ولزامًا أن يكون الغرض الأوحد منها هو حقيق مكافحة الإرهاب، فإن انحرف المشرع عن هذه الغاية فيما يضعه من تنظيم يتعرض لأحكام المواد المشار إليها على وجه التخصيص بنص المادة 179؛ كان عمله باطلاً للانحراف فى استعمال سلطة التشريع.
أما إذا خالف التشريع موادًا أخرى من الدستور غير تلك التى أُجيز له الخروج على أحكامها بنص المادة 179، فيكون عمله مشوبًا بمخالفة الدستور لا متضمنًا لانحراف بالسلطة التشريعية.
(4) الفرض الرابع: احترام الحقوق المكتسبة وعدم المساس بها فى غير ضرورة أو من غير تعويض عادل. فالأصل فى التشريعات ألا تسرى بأثر رجعى حتى لا تمس حقوقًا مكتسبة. واحترام الحقوق المكتسبة قاعدة تمتد إلى أعماق القانون الطبيعى والمبادئ الأولية للعدالة والفطرة السوية. وإذا كان الدستور يتيح، فى غير مجال العقوبات، للمشرع أن يقرر  إذا رأى ذلك، أثرًا رجعيًا للتشريع، إلا أن الإسراف فى تقرير الأثر الرجعى يُعد انحرافًا فى استعمال السلطة التشريعية. ويعطى الفقه أمثلة على الانحراف فى هذه الأحوال، ومن ذلك أن يصدر تشريع متضمنًا عقوبة مقنعة تسرى بأثر رجعى أو أن يصدر المشرع تشريعًا بوصفه أنه تفسير لتشريع سابق وما هو بالتشريع المفسِّر، وإنما هو فى حقيقته تشريع معدل يتضمن إعماله بأثر يرتد إلى تاريخ التشريع الأول.
(5) الفرض الخامس: مخالفة التشريع لمبادئ الدستور العليا والروح التى تهيمن على نصوصه :
وقد تحفظ السنهورى باشا على هذا الفرض مبينًا انه مجال اجتهاد حيث يكاد المعيار الموضوعى بشأنه ان يتاخم المعيار الذاتي، ويمكن، توخيًا لأكبر قدر من الموضوعية، استعراض أحكام الدستور فى جملتها لاستخلاص مبادئ عامة عليا تهيمن عليه وتجمع شتات أحكامه بحيث تصبح النصوص جميعها منظومة واحدة وجدت لتطبق فى تناغم وتكامل، وقد ارتأى السنهورى باشا من استعراضه لأحكام الدستور المصرى لسنة 1923 أنه يقوم على المبادئ العليا الآتية :
المبدأ الأول: مبدأ استقلال السلطة القضائية وهو مستخلص من نص تجرى عبارته بأن "القضاة مستقلون لا سلطان عليهم فى قضائهم لغير القانون".
والمبدأ الثاني: هو مبدأ الحصانة البرلمانية ويستمد من النص الذى يقضى بعدم جواز مساءلة أعضاء السلطة التشريعية عما يبدون من أفكار وآراء.
والمبدأ الثالث : هو مبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية بأن حدد الدستور لكل منها نطاقًا لا تتجاوزه.
والمبدأ الرابع : هو وجوب تقييد السلطة القائمة على إجراء الأحكام العرفية وأن يكون التقييد مقررًا فى تشريع سابق.

جـ – أهمية التمييز بين مخالفة التشريع للدستور والانحراف فى استعمال السلطة التشريعية:

يوضح الفقه بأن التمييز بين الحالتين واجب تقتضيه الدقة العلمية وتتطلبه الإعتبارات العملية. فمن الناحية العلمية، فإن من شأن إجراء هذه التفرقة تجلية الكثير من الغموض الذى يكتنف التصدى لدستورية القوانين وهو بعد أمر بالغ الحساسية يتطلب أن يكون تقديره بمعيار دقيق يجرى على كل عيب من عيوب المخالفات الدستورية وزنه دستوريًا بما يتفق وحقيق المخالفة.
وأما من الناحية العملية، فإنه يترتب على التمييز بين مخالفة الدستور والإنحراف فى استعمال السلطة التشريعية إفساح المجال لفكرة الانحراف لتستقر فى ضمير القاضى بحيث يتأكد استقلالها وذاتيتها ابتناءً على معايير موضوعية تحكم تقديرها فى إطارها الصحيح الذى يتباعد بها عن مجال التقدير الذاتى. وفى العمل، فمن الطبيعى أن يتهيب المرء من الاستمرار فى تقدير أمر الشبهة الدستورية إذا لم يوجد النص الصريح الذى يفيد ذلك. إلا أنه ومع تأصل فكرة الإنحراف التشريعى الذى لا يتطلب الإخلال بنص معين فى الدستور بل يكفى أن يتعارض التشريع مع مبادئ الدستور العليا، فإن ولوج أمر البحث فى الدستورية يكون أكثر يسراً وأيسر ارتيادًا. ومن المعروف أن الفكرة تتبلور وتتأكد إذا استقلت بذاتية خاصة وكيان مستقل، على أنه ومع ذلك فإن الانحراف فى استعمال السلطة التشريعية يبقى دائمًا طريق طعن احتياطى لا يلجأ إليه إلا حيث ينغلق مجال بحث مخالفة الدستور. 

د – إثبات الانحراف فى استعمال السلطة التشريعية : 

وإذ كان إثبات الانحراف أمرًا بالغ الدقة فإنه يلزم أن يثبت ذلك بطريق الدليل الداخلى Preuve intrinsèque  دون غيره من قرائن الأحوال الخارجية، فذلك أدنى إلى تحقيق استقرار التشريع وعدم زعزعة الثقة به، وهو بعد أحد الأسس اللازمة لاستقرار المجتمع ككل. وأسباب التشريع كما يكون تلمسها بتمحيص نصوصه نصًا نصًا، يكون أيضًا الكشف عنها من ديباجته أو بما يرد بالمذكرة الإيضاحية أو الأعمال التحضيرية له وما قد تفصح عنه المناقشات التى دارت بمناسبة بحثه بالهيئة التشريعية.

ثانياً: الملامح الرئيسيه للرقابة الدستورية على الإنحراف التشريعى بمناسبة تنظيم الحقوق والحريات العامة : 

(1) الأصل العام فى شأن رقابة الدستورية يتحصل فى تأكيد عدم وجود سلطة مطلقة فى مفهوم الرقابة القضائية على دستورية القوانين، ذلك انه حتى ولو لم يقيد الدستور المشرع بضوابط معينة ألزمه بالخضوع لها فيما يصدره من نصوص قانونية، فإن على المشرع – فى مجال تنظيمه للحقوق – أن يختار أقل القيود وأكثرها ملاءمة لتحقيق الأغراض التى يبتغيها.
كما أن ثمة أغراض نهائية ومقاصد كلية تهيمن على نصوص الدستور، فتصل بين نصوصه وتربط بينها، بحيث يتعين أن تفسر النصوص على ضوئها وأن يتقيد المشرع بمفادها. وتعبر المحكمة الدستورية العليا عن ذلك بقولها إن نصوص الدستور متآلفة فيما بينها تتجانس فى معانيها وتتضافر فى توجهاتها، فلا محل لقول بإلغاء بعضها البعض بقدر تصادمها. أساس ذلك أن إنفاذ الوثيقة الدستورية وفرض أحكامها على المخاطبين بها يفترض العمل بها فى مجموعها وشرط ذلك ولازمه النظر إلى النص الدستورى باعتبار أن له مضمونًا ذاتيًا لا ينعزل به عن غيره من النصوص أو ينافيها أو يسقطها بل يقوم إلى جوارها مقيدًا بالأغراض النهائية والمقاصد الكلية التى تجمعها. (الحكم الصادر بجلسة 5 من فبراير سنة 1994). ومفاد ما تقدم أن ثمة أغراض نهائية ومقاصد كلية يتعين أن تفسر النصوص الدستورية فى ضوئها، وعلى المشرع أن يتقيد بها وعلى الجهة القضائية فى المقابل أن تبذل الجهد كل الجهد من أجل كشفها وبيانها حتى تقيس عليها وتزن بها التشريعات التى تصدر عن جهة التشريع فتصم ما يصدر بالمخالفة لها بالانحراف التشريعي.
(2)  ومن غير المقبول مثلاً ولا بالمستساغ منطقيًا ولا الجائز دستوريًا، أن تكون السلطة التقديرية التى يملكها المشرع فى موضوع تنظيم الحقوق مغفلة الضوابط، متحررة من كل قيد. ومؤدى ذلك ولازمه أن تكون قواعد الدستور والمبادئ العامة الكلية التى يتغياها حدودًا وحواجز لاستعمال الســــلطة التشريعية اختصاصها بشأن تنظيم الحقوق والحريات العامة. وإنه ولئن كان من المفترض، فى الأصل العام، أن تتفق الأغراض التى يتبناها المشرع ومقاصد الدستور فإنه يتعين دائمًا وأبدًا أن تكون النصوص التشريعية وسائل منطقية لتحقيق أغراض الدستور، فإن انفصم اتصالها بها وقعت باطلة لانحراف المشرع بها عن الغايات المقررة دستورًا، ويحق عليها بالتالى جزاء المخالفة الدستورية.
(3)  ومما يتعين إيضاحه فى هذا الصدد، وجوب التمييز بين المقاصد التشريعية التى تخالف الدستور وتلك المقاصد التى لا تناقضه. فثمة اغراض تشريعية لا تناقض الدستور وهى تلك التى يقتضيها الصالح العام فى شأن الموضوع محل التنظيم. وعلى عكس ذلك  فثمة مقاصد قد يهدف إليها المشرع بالمخالفة لأغراض الدستور أو غاياته النهائية، وهذه المقاصد تكون محظورة لا يجوز أن يستهدفها التشريع وإلا كان مشوبًا بإساءة استعمال السلطة أو الانحراف بها. وعلى ذلك فإذا تدخل المشرع لحمايـــــة الدولة من الناقدين لها وكأنها فوق القانــون (مثال ذلك المادة (82/د) من قانون العقوبات التى تفرض عقوبة جنائية على من يذيعون أخبارًا كاذبة تمس هيبة الدولة واعتبارها، شاب عمله الإنحراف، ذلك أن حماية الدولة على هذا النحو امتهان للقانون، وهو كذلك غرض غير مشروع لا يجوز أن يظلها ليضفى حصانة على أعمالها (12). وقد أكدت المحكمة الدستورية العليا هذا المذهب فيما قضت به من أنه " من غير المحتمل أن يكون إنتقاء الأوضاع المتصلة بالعمل العام تبصيرًا بنواحى التقصير فيه مؤديًا إلى الإضرار بأية مصلحة مشروعة، وأن من غير الجائز أن يكون القانون أداة تعوق حرية التعبير من مظاهر الإخلال بأمانة الوظيفة العامة أو مواطن الخلل فى اداء واجباتها وأن النظر فى أعمال القائمين بالعمل العام، وتقويم اعوجاجهم يعتبر واجبًا قوميًا كلما نكل هؤلاء عن طبيعة واجباتهم إهمالاً أو انحرافًا " (13). واستطرد الحكم ببيان أن ما " يميز الوثيقة الدستورية ويحدد ملامحها الرئيسية هو أن الحكومة خاضعة لمواطنيها ولا يفرضها إلا الناخبون ".
(4)  وكما يتقيد التقدير فى عمل السلطة التشريعية بنوع الأغراض التى يتوخاها فإن هذا التقدير يتقيد كذلك بحقيقة أن المشرع حين يوازن ويفاضل بين البدائل إعمالاً لسلطته فى التقدير، فإن عليه أن يختار بين البدائل أنسبها " لتحقيق أغراضه وأقلها تقييدًا للحرية وأكفلها لأكثر المصالح ثقلاً فى مجال ضمانها"(14). كل ذلك بافتراض مشروعية البدائل جميعًا واتصالها بالحقوق محل التنظيم، إذ لا يجوز تنظيم الحقوق لغير مصلحة واضحة لها اعتبارها (15).
(5)  ومن الأمثلة على المصلحة الواضحة التى يكون من شأن مراعاتها تبرئة التشريع من الانحراف، حماية المصالح الوطنية باعتبار ذلك مما يستظل بوارف حماية النظام العام. وبذلك قضت المحكمة الدستورية العليا بجلسة 15 من أبريل سنة 2007 فى الدعوى الدستورية التى تتحصل فيما أثير من شبهة عدم دستورية حكم المادة (87) من قانون التجارة التى توجب إعمال أحكام القانون المصرى دائمًا على منازعات عقود نقل التكنولوجيا حتى وإن اتفق الطرفان على التحكيم بشأنها. وقد انتهت المحكمة الدستورية العليا إلى دستورية الحكم على أساس أن فكرة النظام العام هى " أن خطوط دفاع النظام القانونى عن نفسه أو الجماعة عن ذاتها من جموح الإرادة الفردية " وأنه لما كان قانون التجارة قد راعى، كما دلت عليه مذكرته الإيضاحية حماية المصالح الوطنية دون المساس بالمصالح المشروعة للطرف مورد التكنولوجيا، " بحيث يؤمن للطرف المستورد – وهو مصرى غالبًا – أسبابًا حقيقية للتكنولوجيا تضمن لها أن تكون أداة لتطوير الاقتصاد الوطنى "، فإن مسلك المشرع يكون " مما يدخل فى إطار السلطة التقديرية للمشرع فى موضوع تنظيم الحقوق، وذلك فى ضوء المفاضلة التى يجريها بين البدائل المختلفة ".
(6)  فإذا كان صحيحًا أن الأغراض النهائية للدستور قيد على سلطة التقدير المتاحة للمشرع، وأن الأغراض المختلفة للدستور التى قد يستهدفها المشرع فى قاعدة قانونية أقرها تبطلها ولو طالها غرض مشروع فى بعض جوانبها لاستحالة التحقق من مبلغ الأثر الذى كان للغرض الباطل فى تكوين القاعدة القانونية، إلا انه يكون على جهة الرقابة القضائية دائماً أن تزن مهمتها فى الرقابة الدستورية بقدر الضرورة، فلا تبطل بالتالى قانونًا لإساءة استعمال السلطة إلا إذا توافر الاقتناع لديها بأن القانون اختلط بغرض غير مشروع وأن كان لهذا الغرض دور إيجابى فى تكوين نصوص القانون.
وقد كانت هذه القاعدة أساسًا لقضاء دستورى مفاده أن التحقق من استيفاء النصوص القانونية لأوضاعها الشكلية سابق بالضرورة على الخوض فى عيوبها الموضوعية تأسيسًا على أن المقومات الشكلية للنصوص القانونية من مقوماتها الأصلية فلا يكتمل وجودها إلا باكتمالها على وجه الصحة مما يترتب عليه أن تصدى المحكمة الدستورية العليا فى العوار الموضوعى يفترض اكتمال وجود النصوص وفق الأوضاع الشكلية التى يتطلبها الدستور (16).
وإذا كانت الرقابة القضائية على نصوص التشريع التى تستهدف تحرى صحيح وجه اتفاق مقاصد التشريع مع الأغراض التى كفلها الدستور، فإن مقاصد التشريع هى التى يتعين أن تستجليها الجهة القضائية بحيث تنحصر مهمتها فى فحص ما إذا كان المشرع قد صاغ القاعدة القانونية على ضوء غرض غير مشروع أثر فى تكوينها، ويكون ذلك بإجراء المقابلة بين أغراض التشريع وأغراض الدستور توصلاً للكشف عن مجال التعارض أو تمام التوافق بينها.
(7)  وقد حددت المحكمة الدستورية العليا سمات الانحراف بالسلطة التشريعية، فأوضحت أن عيب الانحراف عيب قصدى لا يُفترض، ويتعين أن يكون الدليل عليه واشيًا بتنكب السلطة التشريعية الأغراض المقصودة من تأسيسها، وواضحـــــــًـا جليًا فى استتارها بالتالى وراء سلطتها فى مجال تنظيم الحقوق لتصرفها إلى غير وجهتها، فلا يكون عملها إلا انحرافاً عنها(17).
والأصل أن يكون المشــرع حريصًا على صون حقوق المواطنين وحرياتهم المقــــــررة دستوريًا وألا ينال منها متخفيًا وراء ستار من ولايته المنصوص عليها بالدستور. فلا يجوز أن تتخذ السلطة التشريعية من اختصاصها فى تنظيم الحقوق ستارًا لإخفاء نواياها فى الخروج بهذا التنظيم عن طبيعة الأغراض التى كان يجب أن يتوخاها.
وبذلك يكون الكشف عن الأغراض التى تتوخاها القواعد القانونية لازماً للفصل فى مدى اتفاق هذه القواعد والأغراض التى كفلها الدستور، ومن ثم يصح القول بأن سوء استعمال السلطة التشريعية لوظائفها، يعتبر فى الوقت ذاته عيبًا غائياً وقصديًا. فاعتباره عيبًا غائياً أساسه أنه ينطوى على مجاوزة السلطة التشريعية قصدًا لأغراض يتضمنها الدستور، مما يجعله بحكم الضرورة عيبًا مقصودًا يرتبط بالأغراض التى توختها سلطة التشريع.
خلاصة الأمر على ما تؤكده المحكمة الدستورية العليا هو بأن الأصل فى سلطة المشرع فى موضوع تنظيم الحقوق أنها سلطة تقديرية يفاضل المشرع من خلالها بين بدائل متعددة مرجحًا من بينها ما يراه أكفل لتحقيق المصالح المشروعة التى قصد إلى حمايتها وأن كل تنظيم للحقوق لا يجوز أن يصل فى منتهاه إلى إهدار الحقوق التى تناولها ولا أن يرهق محتواها بقيود لا تكفل فاعليتها (18) .

ثالثا : نظرة نقدية على الواقع التشريعى والقضاء الدستورى :

1.  وفى النظرة النقدية للواقع التشريعى اقتصر وحسب على استعراض التدخل التشريعى فى اختصاص المحكمة الدستورية العليا والذى استهدف اختصاصها سواء المقرر دستورياً أو الذى تضمنه قانون إنشاء المحكمة الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979. ويتحصل التدخل التشريعى الذى أعنيه فيما أدخل على قانون المحكمة من تعديل بالقانون رقم 168 لسنة 1998، ثم بالتعديل الذى تضمنته المادة 76 من دستور سنة 1971 بعد تعديلها بمقتضى الإستفتاء الذى أُعلنت نتيجته بتاريخ 26 من مايو سنة 2005. (19)
أ‌-  فأما عن التعديل التشريعى الصادر بالقانون رقم 168 لسنة 1998 الذى استهدف بالتعديل نص المادة (49) من قانون المحكمة الدستورية العليا فهو يتعلق بتحديد آثار الحكم بعدم دستورية النصوص الضريبية. فقد أدخل تعديل على نص المادة (49) المشار إليها بحيث يجرى النص بما يأتى " ويترتب على الحكم بعدم دستورية نص من قانون أو لائحة عدم جواز تطبيقه من اليوم التالى لنشر الحكم ما لم يحدد الحكم لذلك تاريخاً آخر، على أن الحكم بعدم دستورية نص ضريبى لا يكون له فى جميع الأحوال إلا أثر مباشر، وذلك دون إخلال بإستفادة المدعى من الحكم الصادر بعدم دستورية هذا النص ".
فإذا كان المشرع بهذا التعديل يفيد، بمفهوم المخالفة على الأقل، جريان آثار الأحكام الصادرة عن القضاء الدستورى بعدم دستورية نصوص تشريعية غير ضريبية بأثر رجعى، فإنه وبالنسبة لما تضمن من تنظيم لأثر الأحكام بالنسبة للنصوص الضريبية فقد انطوى تطاولاً على حقوق دستورية مما يشوبه، فى تقديرى، بالانحراف بالسلطة التشريعية (20).
  وبيان ذلك أن المادة (119) من الدستور تنص على أن " إنشاء الضرائب العامة وتعديلها أو إلغائها لا يكون إلا بقانون، ولا يعفى أحد من أدائها إلا فى الأحوال المبينة فى القانون ولا يجوز تكليف أحد أداء غير ذلك من الضرائب أو الرسوم إلا فى حدود القانون " فإذا كان ذلك صريح نص الدستور، فإن ثبوت عدم دستورية نص تشريع ضريبى مع عدم استفادة من طُبق عليهم النص المعيب من الممولين غير المدعى، من شأنه أن يلتزم هؤلاء بأداء مبالغ تمت تسميتها بأنها من الضريبة وهى ليست كذلك، فهى من وصف الضريبة براء على مايكشف الحكم الصادر من المحكمة الدستورية العليا. ولا يمكن التعليل بأى تعلة كانت، تبريراً لهذا النص. فجباية مبالغ فى غير نطاق الضريبة المشروعة هو اعتداء صارخ على المبادئ الأولية التى يقوم عليها الدستور ويتعارض مع أهم غاية من غاياته وهو إشاعة الطمأنينة بين المواطنين وتعميق شعورهم بأنهم يستظلون أولاً بالدستور وثانياً بالتشريع، فلا يمكن أن يكون هذا الأخير مصدر إجحاف بهم وإضرار محض بمصالحهم، ولا شك أن الغاية التى قيلت تبريراً لتمرير هذا التعديل وتتحصل فى أن الدولة تكون قد اعتمدت على ما تم تحصيله من الضريبة، فهو قول داحض، فمن المسلم فى مفهوم العدالة ومن المبادئ الأساسية للقانون أن أداء غير المستحق ليس بواجب، ولا يمكن أن تكون مبادرة المواطن بأداء ما يُطلب منه أداؤه من ضريبة بمقتضى قانون، ظن المواطن أنه قانون قد استوى صحيحاً حسب الأصل المفترض فى القوانين جميعاً، لا يمكن أن تكون مبادرة المواطن بهذا الالتزام عقاباً له وحائلاً بينه وبين استرداد ما دفع على أنه ضريبة وهو ليس كذلك ومن العلم العام أن كثيراً من النصوص الضريبية يكون مصحوباً بالجزاء الجنائى، فيضاف عنصر الإكراه إلى إرادة الأداء مما يستحيل معه القول بصدق أن التشريع قد استهدف غاية تعلو على الغايات التى حرص على تأكيدها الدستور والتى قرر أن المواطنين يتمتعون بها والتى تمثل مبادئ كلية تعلو حتى على نصوص الدستور. فعدم أداء شيئ على أنه ضريبة إلا بالطريق الشرعى هو أحد الأسباب الرئيسية لنشأة النظم البرلمانية، فى الأصل، جميعاً، ولا يمكن أن تعد الغاية التى استهدفها التعديل أو إستتر وراءها من الغايات الأساسية والقيم الكلية التى يقوم عليها الدستور والتى تتحصل فى مبدأ المساواة أمام القانون، وبالتالى أمام الأعباء المالية والضريبية. ومفاد ما سبق أن هذا التعديل الذى أُدخل على قانون المحكمة الدستورية العليا يكون قد انطوى على انحراف تشريعى.
ب‌-  وأما عن التعديل الثانى الذى أُدخل على نظام المحكمة الدستورية العليا فقد تضمنه التعديل الدستورى لنص المادة (76) من دستور سنة 1971. بيان ذلك أنه بمناسبة تعديل الدستور سنة 2005، بحيث يكون اختيار رئيس الجمهورية بالانتخاب بديلاً عن طريق الاستفتاء الذى كان مقرراً من قبل، فقد تضمن التعديل أن " يعرض رئيس الجمهورية مشروع القانون المنظم للانتخابات الرئاسية على المحكمة الدستورية العليا بعد إقراره من مجلس الشعب وقبل إصداره لتقرير مدى مطابقته الدستور". وبذلك يكون التعديل الدستورى الذى أُدخل على المادة (76) قد أسبغ للمحكمة الدستورية العليا اختصاصاً جديداً برقابة سابقة على مشروع قانون بعينه هو مشروع القانون المنظم للانتخابات الرئاسية، بالإضافة إلى أصل اختصاص المحكمة المقرر بالمادة (175) من الدستور، والتى تسبغ على المحكمة " الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح " بمعنى أن الرقابة التى كانت مقررة هى رقابة قضائية تتطلب أن تمارس، بحكم المنطق وطبائع الأشياء، بعد صدور التشريع وعن طريق المخاصمة القضائية بالطريق الذى رسمه قانون إنشاء المحكمة (21).
وإنه ولئن كان وجه الملاءمة ظاهراً فى ضرورة التحقق ما أمكن التحقق من دستورية التشريع المنظم للانتخابات الرئاسية، فإن هذه الغاية تتلاقى مع غاية أخرى تتعادل معها، بالأقل، فى الأهمية وفى استهدافها صالح توفير الاستقرار للنظام القانونى بكامله، ونعنى بهذا الإستفتاء على تعديل الدستور. فلا شك أن المكانة التى يحظى، أو يتعين أن يحظى بها الدستور، تتطلب أن تدور التشريعات المنظمة له جميعها فى فلك احترام هذه المكانة وتوفير كل سبيل يهدف إلى ضمان احترام الدستور الاحترام الأوفى، ويتطلب ذلك أول ما يتطلب أن يكون أى تعديل لأحكامه مما يتعين أن تراعى بشأنه كل دواعى الحرص فى اتباع جادة السبيل بشأن إجراءات التعديل شكلاً وضمان تعبيرها عن الإرادة من وراء إصدارها وهى إرادة الشعب، فبذلك وحده يتحقق مبدأ سيادة الشعب الذى هو غاية أساسية ومبدأ كلى يقوم عليه البنيان القانونى بكامله بما فيه الدستور بداهة باعتبار الدستور الوثيقة التى تحوى المبادئ التى تحكم حركة المجتمع وتضمن الحقوق والحريات العامة وتنظيم السلطات بما فيها ومن ضمنها رئيس الجمهورية.
ومع ذلك كله، وعلى وضوح الأمر بشأنه، فقد ذهب قضاء من المحكمة الدستورية العليا بأن الاستفتاء الذى يجرى بشأن التعديل الدستورى، لا يشترط فى إجرائه أن تتبع الإجراءات المنصوص عليها بالمادة (24) المعدلة من القانون رقم 73 لسنة 1956 بتنظيم مباشرة الحقوق السياسية والتى تتطلب أن يعين رؤساء اللجان العامة المشرفة على إبداء الرأى وكذلك رؤساء اللجان الفرعية من أعضاء الهيئات القضائية، تأسيساً على أن اشتراط ذلك إنما يقتصر بحكم صريح نص المادة (24) المعدلة المشار إليها على أحوال الانتخاب والاستفتاء المنصوص عليها فى المادتين (127) و (136) من الدستور، والتى ليس منها الاستفتاء على تعديل الدستور ذاته. فكأن النص يتطلب هذا الإجراء، الذى هو ضمانة لصحة العملية الانتخابية أو الإستفتاء، فيما هو أقل شأناً وخطراً ويهدر هذه الضمانة فيما هو عماد كل النظام القانونى وهو الدستور وتعديله، وبهذا المنطق قضت المحكمة الدستورية العليا فى الحكم الصادر بجلسة الأول من أكتوبر سنة 2007 استناداً إلى أن الدستور فى المادة (63) نص على حق المواطن فى الانتخاب والترشيح وإبداء الرأى فى الاستفتاء وفقاً لأحكام القانون، وبالتالى يكون قد ترك مجال التقدير للمشرع يجرى بشأنه المفاضلة بين مختلف البدائل " ولا تثريب عليه (أى المشرع العادى) إن استعمل رخصته فى التنظيم وفاضل بين البدائل المختلفة ولم يشأ أن يلتزم بما نصت عليه المادة 88 من الدستور من وجوب أن يتم الاستفتاء على التعديلات الدستورية تحت إشراف أعضاء من هيئات قضائية، بإعتبار أن هذا الإشراف واحد من ضمانات متعددة يمكن اللجوء إليها لكفالة سلامة عملية الاستفتاء وتجنبها احتمالات التلاعب بنتائجها تدعيماً للديمقراطية التى يهدف إليها ومنها الإشراف القضائى النسبى وإنشاء لجنة علىا مستقلة، ورقابة جمعيات حقوق الانسان ومنظمـات المجتمع المدنى. (الحكم الصادر فى القضية رقم 76 لسنة 29 القضائية دستورية).
ج .  ولعل المقام يكفيه استعراض الأسباب التى قام عليها حكم المحكمة الدستورية العليا، ونقتصر بالتالى على الإشارة إلى حكم آخر سبق أن أصدرته ذات المحكمة فى القضية رقم 11 لسنة 13 القضائية بجلسة 8 من يوليو سنة 2000 ومؤداه أن التفسير الصحيح لأحكام المادة (88) من دستور سنة 1971 التى كانت تنص، قبل تعديلها بالاستفتاء الذى تم فى 26 من مارس 2007 بأن " يحدد القانون الشروط الواجب توافرها فى أعضاء مجلس الشعب ويبين أحكام الانتخاب والإستفتاء على أن يتم الاقتراع تحت إشراف أعضاء من هيئة قضائية"، هو أن يرأس اللجان الرئيسية واللجان الفرعية جميعاً أعضاء من هيئات قضائية ضماناً لتحقيق التعبير عن الإرداة الشعبية وبأن هذا هو المنهج الصحيح لمفاد تقرير سيادة الشعب، فإذا كان ذلك واستهدافاً لذات الغاية وهى تحقيق سيادة الشعب، فى الاستفتاء الذى يتقرر به أساس كل النظام القانونى، فإن اختيار المشرع بدائل تتعارض مع صريح نص المادة (88) التى كان معمولاً بها وقت الاستفتاء على تعديل الدستور فيه شبهة انحراف بالسلطة التشريعية. ولعل مما له مجال ذكر أن المحكمة قد تعرضت فى حكمها لما قد يفهم أنه تقليل من أهمية التعديل الدستورى إذ قالت المحكمة " أنه وإن كان يبدو لأول وهلة أن للاستفتاء على التعديلات الدستورية أهمية خاصة قد تفوق أهمية الانتخابات التشريعية. إلا أنه لا خلاف فى أن لكل من العمليتين طبيعة خاصة "، كما تعرضت المحكمة ببيان أن حكم المادة (88) من الدستور ورد فى الفصل الخاص بالسلطة التشريعية " مجلس الشعب" ولم تشر من قريب أو بعيد إلى الاستفتاء على التعديلات الدستورية حيث ورد النص فيها على أن " يحدد القانون الشروط الواجب توافرها فى أعضاء مجلس الشعب ويبين أحكام الانتخاب والاستفتاء على أن يتم الاقتراع تحت إشراف أعضاء من هيئة قضائية " وقالت المحكمة إن النص يكون قد تضمن حكماً خاصاً بشأن مجلس الشعب " يخرج من ذلك بحكم خاص يتعين الإلتزام به فى انتخابات ذلك المجلس، احتفاءً منه بعملية الاقتراع فيها بحسبانها جوهر حق الإنتخاب ".
واعتبر الحكم هذا النص نصاً استثنائياً لا يجوز التوسع فيه أو القياس عليه. ولعله أنه يكفى بيان أن المخالفة التشريعية لا تتمثل فقط فى المخالفة الصريحة للنص، وإنما وعلى هدى أحكام المحكمة الدستورية العليا ذاتها، ينال التشريع العوار إذا تنكب الغايات العلى التى يستهدفها الدستور ويقوم عليها. فإذا كان حرص المحكمة الدستورية العليا على سلامة مشروع القانون بشأن الانتخابات الرئاسية مبرراً وقائماً على غايات مشروعة، فإن هذه الغايات أيضا، أظنها جديرة بأن تهيمن على أحكام الدستور وتستظلها إذا أُريد تعديلها. فرئيس الجمهورية سلطة مؤسّسة والدستور هو المؤسس لكل السلطات والمهيمن عليها بغاياته(22)
2. استعراض لأهم ملامح القضاء الدستورى :
(أ‌)  تطلب التشريع أن يكون المرشح لعضوية مجلس الشعب أو أحد المجالس الشعبية المحلية قد أدى الخدمة العسكرية أو أعفى من أدائها قانوناً، بحيث يمتنع على من تهرب من أداء الخدمة الترشيح، لا يمثل انتهاكا لحق عام ولا إخلالاً لمبدأ المساواة بل يقوم على أساس أن " من تحمل ضريبة الدم مقدماً روحه فداءً للوطن لهو الأقدر والأصلح على تحمل مهام العضوية بما تفرضه عليه من أعباء ذات الصلة بالشأن العام، ومن ثم فقد توافر لهذا الشرط الموضوعية التى تبرره دستورياً لارتباطه بأهدافه المتمثلة فى أن تتولى مهام الشأن العام أفضل عناصر المجتمع التى لم تتردد فى أن تلبى نداء الوطن وأداء ما فرضه عليها من واجب مقدس ". (الحكم الصادر بجلسة 13 من مايو سنة 2007 فى القضية رقم 174 لسنة 27 القضائية دستورية ").
(ب‌)   دخول المحضر مسكن المدين المحجوز عليه إستناداً لحكم المادة (353) من قانون المرافعات الذى لا يستلزم الحصول على إذن قضائى سابق بذلك ليس فيه مخالفة لحكم المادة (44) من الدستور التى تقرر حرمة المسكن وعدم جواز دخوله إلا بإذن قضائى مسبب، أساس ذلك أنه إن كان دخول مسكن المتهم بجريمة جنائية وتفتيشه بحثاً عن أدلة الجريمة لا يمكن أن يُترك لتقدير رجال الضبط القضائى لما لهذا الأمر من أهمية قصوى متعلقة بالحرية الشخصية وحرمة المسكن، مما يستلزم أن يتم أى شيئ من ذلك بإذن القاضي، فإن الأمر يختلف كلية فى حالة دخول مسكن المحجوز عليه لتوقيع الحجز على المنقولات، إذ لا يتم الحجز إلا تحت إشراف قاضى التنفيذ وبعد استنفاد كافة الاجراءات المنصوص عليها بقانون المرافعات التى تصدر عن أصل عام يقرره بأن يجرى التنفيذ تحت إشراف قاضى التنفيذ. وعلى ذلك، وإن لم تشترط المادة (353) من قانون المرافعات حصول المحضر على إذن من القاضى بدخــول المسكن، فإنها لا تكون قد خالفت حكم الدستور، وإنما تكون قد تضمنت " توازناً عادلاً بين مصلحة المدين المحجوز عليه، وبين مصلحة الدائن الحاجز ". وبذلك تكون المحكمة الدستورية العليا قد فصلت فى أمر صحة تقدير المشرع للمصالح التى يدور حولها النص المطعون فى دستوريته (الحكم الصادر بجلسة 13 من مايو 2007 فى القضية رقم 140 لسنة 27 القضائية).
 (ج) ولعل الحكم الصادر بعدم دستورية نص ورد بقرار وزير الشباب رقم 836 لسنة 2000 بإعتماد النظام الأساسى للأندية فيما تضمنه من اشتراط الحصول على مؤهل عال للترشح لعضوية مجلس إدارة النادى الرياضى الذى يزيد عدد أعضائه على ألفى عضو (صدر الحكم بجلسة 10 من يونيو سنة 2007 فى القضية رقم 85 لسنة 28 القضائية دستورية) جديراً بالـتأمل.
   فقد قام الحكم على أساس أن " قيام المجتمع على مزيج من المواطنة والتضامن الاجتماعى يعنى أن الجماعة فى إيمانها بالانتماء إلى وطن واحد واندماجها فى بنيان واحد وتداخل مصالحها واتصال أفرادها بعضاً ببعض حتى يكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه إزر بعض، ولئن نص الدستور على حظر التمييز فى أحوال معينة هى المنصوص عليها فى متن هذا النص، إلا أن هذا الحظر لا يدل البته على الحصر.."، وأنه لما كان ما تقدم، وكان توكيد السيادة للشعب هو جوهر الديمقراطية، وأن الحق فى الانتخاب والترشيح من الحقوق العامة التى كفلها الدستور وضمن ممارستها وجعلها واجباً وطنياً يتعين القيام به، وأن هذين الحقين متكاملان لا ينفصلان، ومن غير المفهوم أن يطلق المشرع حق الاقتراع للمواطنين المؤهلين لمباشرة حقوقهم، وأن يتخذ موقفاً معاكساً تماماً من ترشيحهم لعضوية مجالس إدارة الأندية ". ثم انتهى الحكم إلى القول بأنه متى كان النص الطعين باشتراطه فى المرشح لعضوية مجلس إدارة النادى الذى يضم فى عضويته ألفى عضو، دون النادى الذى يضم أقل من هذا النصاب قد فرق بين أعضاء أندية قد تكون متجاورة وهو ما يقوض حيوية الهيئة التى ينتمون إليها فضلاً عن الوطن الكبير، ذلك أن المستبعدين سوف تملأ حلوقهم مرارة الإزدراء، وربما يحسون بالدونية رغم طاقات هائلة يستطيعون تقديمها لجمعهم هذا الصغير بما ينعكس على المجتمع فى مجموعه بالحق والخير والجمال، الأمر الذى يكون معه النص الطعين قد خالف نصوص المواد 1 و3 و7 و40 من الدستور ".
   ودون الخوض فى تعليق على حيثيات الحكم وما تضمنته من إشارات إلى أمور إحتمالية ومشاعر شخصية وتقديرات ذاتية المفاهيم " الحق والخير والجمال " على ما ورد به، فإنه انتهى إلى عدم دستورية إشتراط الحصول على مؤهل عال للترشيح لعضوية مجلس إدارة النادى الرياضى الذى يزيد عدد أعضائه على ألفى عضو، تأسيساً على أن هذا النص يتضمن تفرقة وتفضيلاً واستبعاداً ينال" بصورة تحكمية من الحقوق والحريات التى كفلها الدستور أو القانون، وبالتالى يكون قد شاب النص التشريعى الانحراف بالسلطة مما يشوبه بالعوار (23)
 (د) كما أوضحت المحكمة الدستورية العليا، بمناسبة تصديها لبيان عدم دستورية النص الذى يقضى بمسئولية رئيس تحرير الصحيفة عن الجرائم التى ترتكب بواسطة الصحيفة باعتباره فاعلاً أصلياً بالتطبيق لحكم المادة (195) من قانون العقوبات التى كان نصها يجرى بأنه " مع عدم الإخلال بالمسئولية الجنائية لمؤلف الكتابة أو واضع الرسم أو غير ذلك من طرق التمثيل، يعاقب رئيس تحرير الجريدة.. بصفته فاعلاً أصلياً للجرائم التى ترتكب بواسطة صحيفته. ومع ذلك يعفى من المسئولية الجنائية :  1- إذا أثبت أن النشر حصل دون علمه، أو إذا أرشد أثناء التحقيق عن مرتكب الجريمة..."، أن الأصل فى النصوص العقابية أن تصاغ فى حدود ضيقة تعريفاً بالأفعال التى جرمها المشرع، وتحديداً لماهيتها، لضمان ألا يكون التجهيل بها موطئاً للإخلال بحقوق كفلها الدستور للمواطنين، كتلك التى تتعلق بحرية عرض الآراء وضمان تدفقها من مصادرها المختلفة ". وقد أقامت المحكمة قضاءها بعدم دستورية النص لقيامه على افتراض مسئولية رئيس التحرير جنائياً بناء على صفته هذه بإعتباره فاعلاً أصلياً لجريمة عمدية، على أسانيد كثيرة أهمها :
أن الأصل الذى تفيده حرية الصحافة أن يكون ذلك قيداً على المشرع فى استعمال سلطته التقديرية فى تنظيم الصحافة بتحديد نقطة التوازن بين حقوق الفرد وحق الجماعة، فضلاً عن أن أصل البراءة ضمانة أساسية تتنافى مع المساءلة الجنائية الإفتراضية عن جريمة عمدية.
    (هـ) كما قضت المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية نص المادة (48) من قانون العقوبات التى كانت تجرم الاتفاق الجنائى، فكان أن أوضحت المحكمة أن الرقابة القضائية التى تباشرها على النصوص العقابية تضبطها مقاييس صارمة تتفق وطبيعة هذه النصوص فى اتصالها المباشر بالحرية الشخصية التى أعلى الدستور قدرها، " مما يفرض على المشرع الجنائى أن ينتهج الوسائل القانونية السليمة سواء فى جوانبها الموضوعية أو الإجرائية لضمان ألا تكون العقوبة عاصفة بالحرية وأن تكون العقوبة التى يفرضها فى شأن الجريمة تبلور مفهوماً للعدالة يتحدد فى ضوء الأغراض الاجتماعية التى تستهدفها، فضلاً عن أنه " لا يسوغ للمشرع أن يجعل من نصوصه العقابية شباكاً  أو شراكاً يلقيها ليتصيد باتساعها أو بخفائها من يقعون تحتها أو يخطئون مواقعها، وأن " الجزاء الجنائى لا يعد مُبررَّا إلا  إذا كان واجباً لمواجهة ضرورة اجتماعية لها وزنها ومتناسباً مع الفعــل المؤثم فإن جــاوز ذلك كان مفرطاً فى القسوة مجافياً للعدالة ومنفصلاً عن اهدافه المشروعة". (الحكم الصادر بجلسة 2 من يونيو سنة 2001 فى القضية رقم 114 لسنة 21 قضائية).

رابعاً :  الانحراف فى منتهاه : الانحراف بسلطة التأسيس :

فإنه لئن كان القضاء المصرى الدستورى والإدارى، قد تصدى بتسليط رقابته على صور الانحراف التشريعى والإدارى، فإن أمر الانحراف بالسلطـة التأسيسية بقى دون أن يكون محلاً لدراسة فقهيــــة لازمة. و يبدو أن العائق النظرى الذى كان يحول دون الفصل فى أمر هذا النوع من الانحراف هو الاستتار وراء الآثار القانونية التى يقال انها تترتب على ما يتم من استفتاء الشعب على ما تتم صياغته فى مرحلة التأسيس.
وإنه ولئن كان من المقرر على وجه القطع أن الشعب هو صاحب السيادة وهو مصدر السلطات، الأمر الذى تتضمنه مختلف الدساتير المصرية، إلا أنه يلزم  مقاربة الواقع الاجتماعى المعاش بحيث يكون تقييم الاجراء على صحيح وجهه، دون الوقوف عند مفاده النظرى، بترتيب آثار ترهقه بأكثر مما هو قادر لحمله. توضيح ذلك، أن عرض النصوص الدستورية سواء حال إعداد مشروع دستور جديد أو بمناسبة إدخال تعديلات على دستور قائم، لا يتم على نحو واف محايد يتضمن بالأقل شرحاً مبسطاً للنصوص بما يقرب فهمها إلى مختلف الأذهان، فضلاً عن أن ما يعرض على الاستفتاء متى كان متضمناً، على نحو ما يتم غالباً، عدة أحكام، مما لا يتيح للمواطن أن يقيم كل حكم على حده، ولا أن يفرد لكل حكم الرأى بشأنه. الرأى عندى أنه إذا كان الحكم الذى أورده الدستور، ابتداءً أو بمناسبة تعديله، مما يتعارض مع أحكام كلية لا يقوم الدستور إلا على أساس إحترامها، سواء تعلقت بأمور لصيقة بالحقوق والحريات الشخصية التى لا تقبل انتقاصاً ولا تعطيلاً ومنها أساسيات وأصول التنظيم القضائى على نحو ما جرى به قضاء المحكمة الإدارية العليا، أو كان مما يتعارض مع القيم العلى التى تسمو فوق الأحكام المنصوص عليها على ما عبر عنه المستشار الدكتور عوض المر، فتكون تلك الأحكام فى كل الأحوال فاقدة القوة الموضوعية للسند الدستورى إبتداءً، فلا يكون من إجراء يمكن أن يرتقى بها إلى مصاف غيرها من أحكام دستورية هى على القمة، فى مدارج المشروعية. ويمكن فى هذا الشأن استعراض حكمين ورد أحدهما بدستور سنة 1971 والأخر بدستور سنة 2012، وكلاهما يشوبه فى تقديرى، عيب الانحراف بسلطة التأسيس. أما النص الأول فهو الذى تضمنته المادة (77) من دستور سنة 1971 المعدلة طبقاً لنتيجة الاستفتاء الذى أجرى يوم 22 من مايو سنة 1980 وتجرى عبارتها بأن " مدة الرئاسة ست سنوات ميلادية تبدأ من تاريخ إعلان نتيجة الاستفتاء ويجوز إعادة انتخاب رئيس الجمهورية لمدد أخري"فإذا كان رئيس الجمهورية، فى ذلك الوقت قد تم بالفعل إعادة انتخابه لمدة ثانية فى ظل النص الأصلى للمادة (77) المشار إليها والذى ما كان يجيز لرئيس الجمهورية أن يعاد انتخابه إلا لمدة واحدة، بحيث تكون أقصى مدة للرئاسة هى مدتين وحسب، فإن صياغة النص بما يفيد إطلاق مدد إعـــادة الانتخاب مما يعتبر إخلالاً جوهرياً بالميزان الذى قدره المشرع للدستور  إبتداء، فى تنظيمه للسلطات العامة وعلى وجه الخصوص تلك الأحكام التى تتصل باختصاصات رئيس الجمهورية والعلاقة بينه وبين السلطات الأخرى. فالتنظيم المتعلق بصلاحيات الرئيس الذى يتقرر فى ظل تحديد فترة قصوى لتولى الرئاسة،  لا يكون متفقاً مع إطلاق تلك المدة، وإلا ما كان المشرع الدستورى قد حدد المدة الكلية لتولى الرئاسة إبتداءً. كل ذلك دون حاجة للإفاضة فى بيان ما قيل أنه المقابل لتمرير التعديل المقترح للمادة (77) على نحو ما تم عليه. والأمر من قبل ومن بعد يتعلق بحق أصيل من حقوق المواطن المصرى فى أن يستظل بحكم رشيد يكون حصناً لحقوقه وحرياته، يستطيع من خلاله أن يمارس هذه الحقوق والحريات على النحو الذى تكشف عنه الأحكام المقررة فى هذا الشأن، سواء كان مصدرها التشريعات الوطنية أو كان استمدادها من أحكام المواثيق الدولية ذات الصلة التى وقعتها مصر وتم التصديق عليها، وتكون لها قوة القانون من تاريخ نشرها.
والنص الثانى هو الذى ورد بدستور سنة 2012 بالمادة (176) التى أتت بحكم يحدد عدد أعضاء المحكمة الدستورية العليا تحديدًا تحكميًا لا يكشف لا بذاته، ولا فى ضوء المناقشات التى دارت بشأنه، عن وجه مصلحـــة قضائيــــة يبغى تحقيقها. فإذا كان ذلك وكان الأصــــل أن عدد أعضـاء المحكمة هو ما استقرت الجمعية العامة للمحكمة الدستورية العليا على وجوب توافره بما يقتضيه حسن سير العمـل مراعاة لصالــــح انتظــــام العمــــل بها، فيكون الحكم الوارد بالمادة (176) فاقد صحيح ركن الغاية منه، وهو استهداف صالح سير العمل بالمحكمة، الأمر الذى يهوى بالحكم إلى درك الإنعدام.
ولعل هذا المثال الأخير يحيى فى الذاكرة ما تم فى سنة 1969 من صدور قرارات بقوانين بحل الهيئات القضائية جميعًا ثم إعادة تشكيلها ابتغاء التخلص من بعض رموز القضاء المصرى مما يعد مثالاً صارخًا للانحراف بسلطة التشريع (24)

الخاتمة :

لعله من الجدير الإشارة إلى أن دستور سنة 2014، ولا أقول تعديل سنة 2014، قد برأ فى تقديرى من عيوب تنزع منه عن هذا الحكم أو ذاك سنده الدستورى الذى يقيمه صحيحًا مستويًا. وإنه ولئن كان ذلك، إلا أنه يبقى أن الدستور، بما أورده من أحكام جديدة بالأخص فى مجال الحقوق والحريات العامة، عما كانت تورده الدساتير السابقة، يلقى على المحكمة الدستورية العليا أثقالاً جسامًا هى أهل لها. ولا أظننى مغاليًا إن قلت أن القضاء المصرى بمختلف جهاته وهيئاته كان الدعامة الصلبة التى ساندت، بمواقفها وأحكامها، آمال الشعب وأمانيه.

المراجع :-

(1) الحكم الصادر بجلسة 17 من مارس سنة 2011 فى الطعـــــون أرقام 20855 و 20857 و 20896 لســنة 57 القضائية.
(2) الحكم الصادر من المحكمة الدستورية العليا بجلسة 4 من يناير سنة 1992 فى القضية رقم 22 لسنة 8 القضائية .
(3)   مؤلف الدكتور عوض المر : الرقابة القضائية على دستورية القوانين ص 592 وما بعدها .
(4) وهو الحكم الصادر من محكمة الجنايات (المختلطة)، حيث أثير أمام المحكمة الدفع بعدم دستورية تعديل أدخل على قانون العقوبات بمقتضى مرسوم بقانون صدر فى 14 من أغسطس سنة 1946، ولم يعقب صدوره دعوة البرلمان إلى انعقاد غير عادى حيث ردت المحكمة على الدفع بأن المرسوم بقانون تم نشره بالجريدة الرسمية وصار تقديمه إلى البرلمان فى دورته العادية الأولى ولم يظهر بعد ذلك إقرار له أو رفض .   وقد أكدت المحكمة أن كل ما تملكه فى صدد بحث الدفع بعدم الدستورية هو التحقق مما إذا كانت الشروط الشكلية لوجود القانون فى ذاته قد توفر وجودها أم لا.
(5)  والمتطلب الأساسى لضمان تحقيق المشروعية وسيادة القانون هو وجود جهة قضاء ذات استقلال قانونى وفعلى، مُشكلة من رجال يتمتعون بالكفاءة المهنية وهم على استقلالهم فى أداء اختصاصهم يحافظون .
(6) ويصدق ذلك بحق فى ظل الآلية القانونية المقررة بقانون المحكمة الدستورية العليا .
(7) وما تجدر الإشارة إليه، أن محكمة النقض المصرية قد أعملت رقابتها على دستورية القانون (بمناسبة تطبيق قانون الكسب غير المشروع) وانتهت إلى عدم تطبيق حكم القانون لتعارضه مع الدستور أى انها أعملت رقابة الإمتناع فى ظل العمل بأحكام قانون المحكمة الدستورية العليا (حكم محكمة النقض جلسة 28/4/2004 فى الطعن رقم 30342 لسنة 70 القضائية) .
(8) الريادة الفقهية فى هذا الشأن هى لأستاذ الأجيال الدكتور السنهورى باشا فى مقاله المنشور بمجلة مجلس الدولة بعنوان " مخالفة التشريع للدستور والانحراف فى استعمال السلطة التشريعية " ومن أميز ما كتب فى هذا الموضوع رسالة الدكتور عبد العظيم شرف بعنوان " المعالجة القضائية والسياسية للانحراف التشريعى – دراسة مقارنة " طبعة سنة 2002 وأيضاً رسالة الدكتور حمدان فهمى بعنوان " حجية أحكام القضاء الدستورى وآثارها " جامعة الإسكندرية سنة 2007 .
(9)  وكثيراً ما تستخدم اعتبارات الملاءمة غطاءً للمشروعية . ولعلىّ هنا شاهد على واقع يتعلق بمشروع بدت إرهاصاته بمد سن الإحالة إلى المعاش للقضاة لأكثر من ستين سنة، وكان ذلك خلال النصف الثانى من ثمانينيات القرن الماضى . فقد صرح المستشار رئيس مجلس الدولة ورئيس المحكمة الإدارية العليا المستشار دكتور أحمد يسرى ( وكنت عضواً بالدائرة الأولى للمحكمة الإدارية العليا فى ذلك الوقت ) أنه مع تأييده لرفع سن المعاش، فإنه لا يمكنه أن يستمر فى الخدمة، بعد سن الستين فيما لو صدر القانون حيث إستفادته المحققة بهذه الميزة تتعارض مع الأمانة المهنية لوظيفته القضائية على قمة هيئة القضاء الإدارى . والشاهد أن المشروع لم يقدر له الصدور فى ذلك الوقت .
(10) عرفت هذه الواقعة ـ تاريخياً ـ، بمذبحة القضاة وكنت ممن شملتهم هذه المذبحة وقد صدرت، بعد ذلك، فى أوائل السبعينات من القرن الماضى قرارات بإعادة من تم عزلهم من القضاة إلى الهيئات القضائية التى عزلوا منها ويؤكد العميد Duguit أنه إذا اقتصر تطبيق التشريع على حالة فردية أو على شخص بالذات فإنه يفقد صفة العموم وهى الصفة اللازمة التى يجب ألا تنفك عن التشريع .
(11) واستناد الفقه إلى هذين المثالين كان أساسه المادتين (15) و (155) من الدستور المصرى الصادر سنة 1923 . 
(12)المستشار / عوض المر ( الرئيس الأسبق للمحكمة الدستورية العليا بمصر )
الرقابة القضائية على دستورية القوانين فى ملامحها الرئيسية – القاهرة – ط 2003 – ص 1383
(13) القضية رقم 42 لسنة 16 القضائية دستورية الصادر فيها الحكم بجلسة 20 من مايو سنة 1995.
(14)  قضاء مستقر منه على سبيل المثال الحكم الصادر بجلسة 15 من يونيو سنة 1996 وذلك الصادر بجلسة 4 من يناير سنة 1997.
(15) القضية رقم 5 لسنة 8 القضائية دستورية الصادر فيها الحكم بجلسة 6 من يناير سنة 1996.
(16)  المحكمة الدستورية العليا – القضية رقم 39 لسنة 9 قضائية الصادر فيها الحكم بجلسة 7 من نوفمبر سنة 1992
(17)  القضية رقم 2 لسنة 18 الصادر فيها الحكم بجلسة 7 من مارس سنة 1998.
(18)  القضية رقم 38 لسنة 16 الصادر فيها الحكم بجلسة 16 من نوفمبر سنة 1996.
(19)  علماً بأن هناك مشروع قانون بتعديل قانون المحكمة الدستورية العليا معروض امره حالياً على قسم التشريع بمجلس الدولة لمراجعة الصياغة، وينظم المشروع  الاحكام الاجرائية التى يتعين اتباعها عند نظر طعون تتعلق بنص أو أكثر فى قانونى تنظيم الانتخابات الرئاسية أو النيابية، أو اللوائح الصادرة تنفيذاً لها .
(20) وكان مشروع القانون قد عرض على الجمعية العمومية لأعضاء المحكمة الدستورية العليا لنظره وإقراره  فى جلسة عاجلة، انعقدت بعد إحالة رئيس المحكمة إلى المعاش، وقبل تعيين الرئيس الجديد .
(21) وبالفعل فقد نظرت المحكمة الطعن فى بعض مواد القانون رقم 174 لسنة 2005 بتنظيم الانتخابات الرئاسية وإن انتهت إلى رفض الدعوى، تأسيساً على أن المحكمة سبق لها ممارسة الرقابة السابقة على مشروع القانون فتكون المحكمة قد راعت ممارسة اختصاصها القضائى المقرر بالمادة (175) من الدستور من حيث الشكل، وإن حجبت عن نفسها ممارسة الرقابـــــة فعلاً . ( الحكم الصادر بجلسة 15 من يناير سنة 2006 فى القضية رقم 188 لسنة 27 القضائية ) .
(22) وكانت المادة 177 من دستور سنة 2012 تتضمن حكماً يقضى بأن رقابة المحكمة الدستورية العليا السابقة للقوانين المنظمة لمباشرة الحقوق السياسية والانتخابات الرئاسية والتشريعية والمحلية من شأنها عدم خضوع تلك القوانين للرقابة اللاحقة المنصوص عليها فى المادة 175 .
(23) وقد تجدر الإشارة إلى أن القرار بالقانون رقم 22 لسنة 2014 بتنظيم الانتخابات الرئاسية تضمن فى المادة (1) اشتراط أن يكون من يترشح لرئاسة الجمهورية حاصلاً على مؤهل عال .
(24) لمزيد من الإيضاح يرجى الرجوع إلى مقالى المنشــــور بالعدد الخاص لمجلة الدستورية الصادر فى مارس سنة 2009، تحت عنوان " القضاء الدستورى وقاضى المشروعية : رؤية من منصة القضاء الإدارى ".












ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق