الثلاثاء، 1 ديسمبر 2015

تجدد المنازعة في مركزية رقابة الدستورية

تجدد المنازعة في مركزية رقابة الدستورية
(تعليق على حكم المحكمة الإدارية العليا 
بتاريخ 8/7/2009 في الطعن رقم 1251 لسنة 48 ق عليا) 
بقلم الأستاذ الدكتور / فتحي فكري
أستاذ ورئيس قسم القانون العام كلية الحقوق – جامعة القاهرة 
منشور بمجلة الدستورية – العدد السابع عشر – السنة الثامنة – أبريل 2010

كرس الدستور الحالي في المادة 175 مبدأ مركزية رقابة الدستورية، بإناطة تلك المهمة للمحكمة الدستورية العليا وحدها.
فوفقاً لصدر تلك المادة "تتولى المحكمة الدستورية العليا دون غيرها الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح...".
وما كان منظوراً أن يكون مبدأ مركزية رقابة الدستورية موطئاً(1) لجدال حوله لسببين:
1- نص الدستور قاطع في دلالته، بما يغلق أبواب البحث عن إرادة الشارع أو اتجاه نيته.
والقاعدة المستقرة أنه لا اجتهاد مع وضوح النص.
2- استهدف الشارع الدستوري من إنشاء محكمة وحيدة يعهد لها برقابة الدستورية تفادي مثالب الرقابة من خلال أسلوب الدفع الفرعي مع ما يلازم هذا النهج من تضارب الأحكام وتناقض المبادئ، الأمر الذي يؤول إلى أوضاع تتأذى العدالة منها وعليها.
وقد أثبتت المحكمة الدستورية العليا بالغ الحرص على حفظ الحق وصيانة الحرية، ورد ما قد يحيق بهما من جور أو افتئات.
وفضلاً عن ذلك فإن المحكمة جاهدت واجتهدت في رسم الحدود بين السلطات بما يكفل إقامة التوازن بينها بأقصى ما تسمح به النصوص القائمة.
واستلهم هذا المسعى غاية نبيلة: منع التسلط وتجنب ويلاته.
وفي هذا الإطار من الطبيعي أن تعترينا الدهشة في أَحد درجاتها من محاولات تجاوز مبدأ مركزية رقابة الدستورية.
وكان لمحكمة النقض السبق في افتتاح هذا السبيل من خلال تكنيك "النسخ الضمني". وبهذه الأداة أباح القاضي العادي لنفسه تنحيه نصوص التشريعات البرلمانية التي يقدر تعارضها مع النصوص الدستورية، دون الحاجة للعودة للمحكمة الدستورية العليا(2).
وبرغم المطاعن التي واجهت هذا الاتجاه ،وجدنا القاضي الإداري يسير على ذات المنوال.
ففي حكم يعود لعام 2007 سلمت محكمة القضاء الإداري باختصاصها، حال المنازعات المستعجلة، باستبعاد تطبيق القانون المناقض للدستور إذا شابته مخالفة واضحة.
وأتيحت لنا فرصة تفنيد مسلك محكمة القضاء الإداري وبيان ما علق به معايب، لاسيما فيما يتصل بإهداره قاعدة مركزية رقابة الدستورية(3).
وظل الأمل معلقاً ألا يتسرب هذا الاتجاه إلى المحكمة الإدارية العليا بحيث يظل مبدأ مركزية الرقابة مقدراً في إطار المحكمة التي تعتلي قمة درجات التقاضي الإداري.
إلا أن الأمل سرعان ما خبا، ففي منتصف 2009 أصدرت الدائرة السادسة بالمحكمة الإدارية العليا حكماً بتعارض نص أحد القوانين مع الدستور، بالرغم من سبق رفض القاضي الدستوري للطعن بعدم دستورية هذا النص!
وحتى ينطلق التحليل من وقائع محدده ولا ينفصل عن أصوله وجذوره، فإننا سنوجز بداية مراحل النزاع الذي توج بالحكم المنوه عنه.
-      ففي 26/11/2000 تقدم الولي الطبيعي لأحد طلاب المدرسة الثانوية الجوية بطعن طلب فيه إلغاء ووقف تنفيذ قرار شطب أسم نجله من المقبولين بالكلية الجوية العسكرية، والمؤسس على زيادة وزنه عن الحدود المسموح بها.
-      بجلسة 29/9/2001 قضت المحكمة بوقف تنفيذ القرار المطعون فيه، بعد أن قدم الطاعن تقارير طبية من مستشفيات حكومية تفيد أن وزنه في الحدود المقررة، في الوقت الذي نكلت فيه الإدارة عن تقديم دفاعها.
-      طعنت الإدارة على حكم محكمة القضاء الإداري ناعية عليه مخالفة القانون والخطأ في تطبيقه وتأويله من وجهين أولهما: عدم اختصاص محكمة القضاء الإداري بنظر الدعوى حيث تختص لجان ضباط القوات المسلحة بنظر المنازعات الخاصة بالقرارات المصدق عليها من وزير الدفاع التي تصدرها مجالس الكليات العسكرية وكذا المنازعات المتعلقة بالتحاق الطلبة بهذه الكليات، ثانيهما: سقوط قرينة النكول لتعهد الإدارة تقديم براهين دفاعها حال تداول الدعوى.
-      في 8/7/2009 خلصت المحكمة الإدارية العليا إلى اختصاص مجلس الدولة ولائياً بنظر الدعوى رغم صدور حكم من المحكمة الدستورية العليا برفض الطعن على دستورية النص المُسند منازعات قبول الطلاب بالكليات العسكرية إلى لجان ضباط القوات المسلحة.
ولما كانت الجهة الإدارية قد أصرت على نكولها، وامتنعت عن تقديم المستندات الداعمة لقرارها، فقد رفض الطعن موضوعاً.
والنظرة الأولى للنزاع بمعطياته السابقة لا تقطع باتصال الموضوع بمبدأ مركزية الرقابة الدستورية.
وربما كان الباعث على ذلك أن المرات التي أثير فيها المساس بالمبدأ اتجهت المحاكم إلى التصدي بنفسها لرقابة الدستورية، حاجبة عن القاضي الدستوري القيام بمهامه وأداء واجباته.
أما في الحالة المطروحة فقد تصدت المحكمة الدستورية للنص المثار، وباشرت اختصاصها وقضت باتفاقه ونصوص الوثيقة الدستورية.
إلا أن المحكمة الإدارية العليا لم تسلم بذلك، وأصدرت حكماً يناقض صراحة ما سبق وأن أعلنه القاضي الدستوري.
وسبق تدخل المحكمة الدستورية العليا لا ينفي تجاوز مبدأ مركزية الرقابة الدستورية.
فجوهر المبدأ أن تكون الكلمة الحاسمة في المسألة الدستورية لجهة وحيدة لا يجوز الالتفاف أو الالتفات عما قضت به وخلصت إليه.
وعلى هذا النحو فإن الحكم موضع الدراسة يضاف إلى سلسلة الأحكام التي تحللت من مبدأ مركزية الرقابة الدستورية، مع مراعاة أنه أقوى في دلالته حيث أعرض صراحة عما قضت به المحكمة الدستورية العليا، ولم يسع – كما في الحالات الفائتة – إلى إيجاد مبرر لإخراج بعض الفروض من اختصاص القاضي الدستوري. 
ويثور التساؤل حول سبب هذه المجابهة.
القراءة المتعمقة للحكم وملابساته، تفيد تذبذب السياسة القضائية للمحكمة الدستورية العليا بشأن ضوابط استثناء القرارات ضد طلاب الكليات والمعاهد العسكرية من اختصاص مجلس الدولة (أولاً)، وفي محاولة لاحتواء هذا الوضع وجدنا المحكمة الإدارية العليا تصطدم بمبدأ مركزية رقابة الدستورية (ثانياً).
أولاً- تذبذب السياسة القضائية:
مثلت المادة الأولى من القانون رقم 99 لسنة 1983، قبل أو بعد التعديل، صلب الموضوع.
وحينما خرجت تلك المادة إلى حيز الوجود للمرة الأولى جرت صياغتها كالتالي: "تختص لجنة ضباط القوات المسلحة المنعقدة بصفة هيئة قضائية دون غيرها بالنظر في المنازعات الإدارية الخاصة بالقرارات النهائية المصدق عليها من وزير الدفاع التي تصدرها مجالس الكليات والمعاهد العسكرية المعدة لتخريج الضباط العاملين بالقوات المسلحة".
ولب النص إسناد المنازعة في القرارات الصادرة عن المجالس والكليات العسكرية في مواجهة طلابها إلى لجنة ضباط القوات المسلحة. وهذه المنازعات تكسوها الطبيعة الإدارية شكلاً وموضوعاً، وبالتالي الأصل أنها تقع في نطاق اختصاص مجلس الدولة صاحب الولاية العامة في المنازعات الإدارية، وفقاً للمادة 172 من الدستور، إلا أنها أخرجت من اختصاص القاضي الإداري على سبيل الاستثناء الذي يتعين ألا يطغى على القاعدة.
والمتتبع للأحكام الدستورية، سيلحظ أنها طبقت في خصوص القرارات الصادرة في شأن طلاب الكليات والمعاهد العسكرية سياسة قضائية معقولة ومقبولة، جوهرها التضييق من حالات اقتطاع المنازعات الإدارية في هذه القرارات من اختصاص مجلس الدولة (المرحلة الأولى).
وظل هذا النهج متبعاً حتى أطلت علينا عام 2006 سياسة قضائية بدت أكثر تسامحاً تجاه الاستثناء وتساهلاً مع فروضه (المرحلة الثانية).
المرحلة الأولى:
في تلك المرحلة عبرت الأحكام عن سياسة تشددية تجاه إخراج المنازعة في القرارات الصادرة ضد طلاب الكليات العسكرية، من اختصاص مجلس الدولة.
وتعبيراً عن ذلك رُبط الاستثناء محل البحث بقيدين:
- وجود مصلحة عامة.
- توافر ضرورة ملجئة.
وسنرى كيف بلورت المحكمة الدستورية العليا رؤيتها للأمرين.
1.   المصلحة العامة:
اطردت الأحكام(4) على جواز إسناد المشرع بعض المنازعات الإدارية لجهة أخرى بخلاف مجلس الدولة.
إلا أن القاضي الدستوري لم يطلق سلطة المشرع في هذا الصدد بل حدها – كما رأينا – بقيدين، أولهما المصلحة العامة.
والمتتبع للنهج القضائي في هذا الخصوص سيلمس اتجاهاً جلياً نحو التضييق.
ففي البداية قنع القاضي الدستوري بوجود "مصلحة عامة" بمعناها المجمل لإفلات المنازعة الإدارية من قاضيها الطبيعي (مجلس الدولة).
واتفاقاً مع ذلك قضي عام 1982 بأنه "من المقرر أن من سلطة المشرع إسناد ولاية الفصل في بعض المنازعات الإدارية - التي تدخل أصلاً في اختصاص مجلس الدولة طبقاً لنص المادة 172 من الدستور – إلى جهات وهيئات قضائية أخرى متى اقتضى ذلك الصالح العام...".
وترتيباً على ذلك أجيز نزع اختصاص مجلس الدولة بالفصل في طلبات رجال القضاء والنيابة العامة ومجلس الدولة بإلغاء القرارات النهائية المتعلقة بأي شأن من شئونهم من ولاية القاضي الإداري، لتسند هذه الخصومات إلى دوائر المواد المدنية والتجارية بمحكمة النقض بالنسبة لرجال القضاء والنيابة العامة وإلى احدى دوائر المحكمة الإدارية العليا بالنسبة لرجال مجلس الدولة.
وعول هذا القضاء على ما لهذه الدوائر "من قدرة على الإحاطة بشئون أعضائها وكفاية البت في أمرها"(5).
ونلمح ذات النهج في سابقة أخرى اتصلت بإناطة الطعن في مشروعية قرارات الاعتقال إلى محكمة أمن الدولة طوارئ بدلاً من مجلس الدولة.
فإقراراً باختصاص محكمة أمن الدولة طوارئ، أعلن القاضي الدستوري "أن المادة 172 من الدستور حين نصت على أن (مجلس الدولة هيئة قضائية مستقلة يختص بالفصل في المنازعات الإدارية والتأديبية) فقد أفادت تقرير الولاية العامة لمجلس الدولة على المنازعات الإدارية والدعاوى التأديبية بحيث يكون هو قاضي القانون العام بالنسبة لهذه الدعاوى والمنازعات وأن اختصاصه لم يعد مقيداً بمسائل محددة على سبيل الحصر كما كان منذ إنشائه. غير أن هذا النص لا يعني غل يد المشرع العادي عن إسناد الفصل في بعض المنازعات الإدارية والدعاوى التأديبية إلى جهات قضائية أخرى متى أقتضى ذلك الصالح العام...".
وبالبناء على ما تقدم قضى بأن "المشرع إذ كفل للمعتقل حق التقاضي بما خوله له من التظلم من الأمر الصادر باعتقاله أمام جهة قضائية وذلك في حدود ما يملكه المشرع – وفقاً لنص المادة 167 من الدستور – من إسناد الفصل في بعض المنازعات الإدارية لجهة قضائية أخرى غير مجلس الدولة تحقيقاً للصالح العام... فإنه لا يكون قد خالف حكم المادة 172 من الدستور"(6).
ويبدو أن تزاحم الاستثناءات وزحفها نحو المبدأ(7) (اختصاص مجلس الدولة بالمنازعات الإدارية) كان دافعاً لتبدل السياسة القضائية وجهة دفتها.
ووفرت القرارات الخاصة بطلاب الكليات والمعاهد العسكرية المناسبة لإرساء معالم التغيير على صعيدين:
- لم يعد يكفي مطلق المصلحة العامة لإيراد استثناء جديد على اختصاص مجلس الدولة بالمنازعات الإدارية.
فالفرض أن كل التشريعات تتغيا المصلحة العامة وتستهدفها، ولذا لا يغدو الحديث عن تلك المصلحة بشكل مجمل أو كلي بمثابة قيد حقيقي.
ومن هنا كان التحول في السياسة القضائية لتطلب مصلحة عامة ظاهرة وواضحة تقف وراء الاستثناء وتدعم وجوده، أو حسب تعبير القاضي الدستوري أن تكون المصلحة العامة "مقطوعاً بها، ومبرراتها الحتمية لا شبهة فيها".
وعزز ضابط المصلحة العامة، بمفهومه الجديد، بالضرورة الملجئة، بحيث ينحصر الاستثناء في إطاره الصحيح، وتظل القاعدة باسطة لظلها دون تراجع محسوس أو انحسار ملموس.
وكان منطقياً أن يعلن القاضي الدستوري خضوع تقدير المشرع للضابطين المشار إليهما لرقابته.
فمجلس الدولة "بنص المادة  172 من الدستور – هو قاضي القانون العام في المنازعات الإدارية والدعاوى التأديبية، ما فتئ قائماً عليها، باسطاً ولايته على مختلف أشكالها وتعدد صورها، لما كان ما تقدم وكانت المادة (65) من الدستور تنص على أن تخضع الدولة للقانون، وأن استقلال القضاء وحصانته ضمانان أساسيان لحماية الحقوق والحريات، وكان الدستور قد أكد في المادة (165) أن المحاكم هي التي تتولى السلطة القضائية، فإنه إذا ما قدر المشرع ملاءمة إسناد الفصل في بعض الخصومات استثناءً إلى إحدى الهيئات ذات الاختصاص القضائي فإن سلطته في هذا الشأن تكون مقيدة بعدم الخروج على نصوص الدستور، وعلى الأخص تلك التي تضمنتها المواد 40، 68، 165، 172 بل يتعين عليه التأليف بينها في مجموعها، وبما يحول دون تناقضها فيما بينها أو تهادمها، ومن ثم فلا يجوز – على ما أطرد عليه قضاء هذه المحكمة – إيلاء سلطة القضاء في منازعات بعينها إلى غير قاضيها الطبيعي إلا في أحوال استثنائية تكون الضرورة في صورتها الملجئة هي مدخلها، وصلتها بالمصلحة العامة – في أوثق روابطها – مقطوعاً بها، ومبرراتها الحتمية لا شبهة فيها، وهذه العناصر جميعها ليست بمنأى عن الرقابة القضائية لهذه لمحكمة، بل تخضع لتقييمها، بما لا يخرج نص أي من المادتين (68 و 172) من الدستور عن أغراضها التفافاً حولها، بل يكون لمضمونها مجاله الطبيعي الذي حرص المشرع الدستوري على عدم جواز إهداره، ذلك أن ما يقرره الدستور في المادة (167) لا يجوز اتخاذه موطئاً لاستنزاف اختصاص المحاكم أو التهوين من تخصيص الدستور بعضها بمنازعات بذواتها باعتبارها قاضيها الطبيعي وصاحبة الولاية العامة بالفصل فيها".
وحينما كان على القاضي الدستوري بيان موقفه من إقصاء منازعات طلاب الكليات والمعاهد العسكرية، من دائرة مجلس الدولة، خلص إلى عدم دستورية المادة الأولى من القانون رقم 99 لسنة 1983 معولاً على التخلف التام للضابطين الواجب توافرهما لمثل هذا الاستثناء.
فالمصلحة العامة منتفية بالنظر، إلى أن طلاب الكليات والمعاهد العسكرية يصدر بشأن دراستهم قرارات إدارية كأقرانهم بالكليات الخاضعة لإشراف وزارة التعليم العالي.
"وكان يلزم إعمالاً للأصل المقرر بنص المادة 172 من الدستور أن ينعقد الاختصاص بنظرها جميعاً – دون تفرقه - لمحاكم مجلس الدولة باعتباره قاضيها الطبيعي، إذا كان ذلك فإن النص الطعين إذ أفرد المنازعات المتعلقة بطلاب المعاهد العسكرية بنظام قضائي خاص يشذ عن نظام التداعي الأصلي في شأن المنازعات قاطبة منحياًً ما بين هذه النظائر - المتحدة معطياتها – من توافق، مفترضاً تخالفها فيما بينها، إنما يخل بما يتعين قيامه من قواعد موحده في شأنها عامة، ويخص هذا الفريق من الطلاب دون جموعهم – بالتنظيم المطعون فيه – مع أنهم – في عمومهم – إزاء حق التقاضي فيما ينشأ عن دراستهم من أنزعة ذوو مراكز قانونية متماثلة".
ولم يختلف الحال بالنسبة لشرط الضرورة الملجئة.
فبحثاً عن هذا الضابط كان من المنطقي أن نولي وجهتنا شطر الأعمال التحضيرية التي جاء نص عباراتها كالتالي:
"صدر القانون رقم 96 لسنة 1971 في شأن الطعن في قرارات لجان الضباط للقوات المسلحة المنعقدة بهيئة قضائية بنظر المنازعات الإدارية الخاصة بالقرارات النهائية التي تصدرها لجان الضباط بالقوات المسلحة. كما نص على إنشاء لجنة قضائية بكل فرع من أفرع القوات المسلحة تختص بالفصل في باقي المنازعات الإدارية الخاصة بضباط القوات المسلحة ثم صدر القانون رقم 123 لسنة 1981 بشأن خدمة ضباط الشرف وضباط الصف والجنود بالقوات المسلحة ونص في المادة 129 منه على تشكيل لجان قضائية عسكرية تختص بالفصل في المنازعات الإدارية الخاصة بضباط الصف والجنود ذوي الراتب العالي بالقوات المسلحة.
"ولما كان العمل قد أثبت أن هناك بعض المنازعات الإدارية تنشأ عن القرارات النهائية المصدق عليها من وزير الدفاع التي تصدرها مجالس الكليات أو المعاهد العسكرية لتخريج الضباط العاملين بالقوات المسلحة.
"وتوحيداً للأحكام والقواعد والإجراءات التي تسري على الطعن في القرارات الإدارية الصادرة في القوات المسلحة... فقد رؤى التقدم بمشروع القانون المرافق".
ولم يرتض القاضي الدستوري هذا التبرير المستمد من الرغبة في توحيد القواعد السارية على الطعون في القرارات الإدارية الصادرة في القوات المسلحة، فطلاب "المعاهد العسكرية لا يندرجون قبل تخريجهم ضمن الضباط العاملين في القوات المسلحة، بما مؤداه أن أنزعتهم الإدارية(8) إنما تزايلها وتنفلت منها تلك الطبيعة الخاصة التي أملت أن تختص تلك اللجنة – دون غيرها – بنظر منازعات أولئك الضباط في القرارات الإدارية المتعلقة بشئونهم الوظيفية والانضباطية، ومن ثم فإن قياس أولاهما على آخراهما هو قياس في غير محله".
وكان طبيعياً أن تخلص المحكمة – بعد ما سلف – إلى عدم دستورية نص المادة الأولى من القانون رقم 99 لسنة 1983 فيما تضمنه من إطلاق اختصاص لجنة ضباط القوات المسلحة المنعقدة بصفة هيئة قضائية دون غيرها بالنظر في المنازعات الإدارية الخاصة بالقرارات النهائية المصدق عليها من وزير الدفاع التي تصدرها مجالس المعاهد العسكرية المعدة لتخريج الضباط العاملين بالقوات المسلحة في شأن الطلاب المقيدين بها"(9).
ومفاد هذا القضاء:
* الأصل دخول المنازعة في القرارات الصادرة في مواجهة طلاب المعاهد العسكرية في اختصاص القاضي الإداري.
وإذا قدر المشرع الحاجة للعهود ببعض هذه المنازعات لجهة أخرى، فعليه حصر الاستثناء في أضيق نطاق ممكن، إعمالاً لقاعدة عدم جواز التوسع في إعمال الاستثناء.
* أن النص المقضي بتنكبه للدستور اقتصر على الطالب المقيد بالمعاهد العسكرية، وبالتالي لا يمتد إلى قرارات الاستبعاد من القبول بالمعاهد العسكرية، بحسبان أنها تصيب مجرد مرشح لا من اجتاز متطلبات القبول وبات طالباً.
وتمشياً مع ذلك قضت المحكمة الإدارية العليا بقبول الطعن بعدم قبول خريج مدرسة ثانوية حربية بإحدى الكليات العسكرية، بالرغم من استيفائه لكافة الشروط المتطلبة.
ودحضاً للدفع بعدم الاختصاص الولائي لمجلس الدولة أبانت المحكمة الإدارية العليا أنه "طبقاً لنص المادة (3) من القانون رقم 92 لسنة 1975 في شأن النظام الأساسي للكليات العسكرية يتم الإعلان والتحقق من توافر الشروط اللازمة في طالبي الالتحاق لكل كلية وإجراء اختبارات قبولهم على حسب المستويات المقررة وانتقاء العدد المطلوب منهم بمعرفة مكتب تنسيق القبول بالكليات العسكرية وهو ما يخرج الاختصاص بنظر المنازعات الإدارية في شأن قراراته الصادرة بانتقاء العدد المطلوب من طالبي الالتحاق بالكليات العسكرية عن ولاية لجنة ضباط القوات المسلحة المنعقدة بصفة هيئة قضائية بصريح نص المادة الأولى من القانون رقم 99 لسنة 1983 سالفة الذكر والتي قصرت اختصاص هذه اللجنة على القرارات الإدارية النهائية الصادرة من مجالس الكليات والمعاهد العسكرية المعدة لتخريج الضباط العاملين بالقوات المسلحة، وبذلك يدخل الاختصاص بنظر المنازعات الإدارية في قرارات مكتب تنسيق القبول بالكليات العسكرية سالفة الذكر في ولاية محاكم مجلس الدولة باعتباره صاحب الولاية العامة بنظر المنازعات الإدارية طبقاً لنص المادة 172 من الدستور والمادة (10) من قانون مجلس الدولة الصادر بالقانون رقم 49 لسنة 1972..." (10).
قصارى القول أن المبادئ القانونية أعملت – خلال هذه الحقبة - بما يحول دون قيام منازعة جدية حول تطبيقها.
إلا أن تيار التغيير سرعان حرك الأوضاع في اتجاه أعطى الفرصة لجدل محتدم، وهو ما فتح صفحة المرحلة الثانية من السياسة القضائية.
المرحلة الثانية:
تمثلت بداية تلك المرحلة في تعديل المادة الأولى من القانون رقم 99 لسنة 1983 المقضي بعدم دستوريتها(11).
وأضحت المادة في صياغتها الجديدة تنص على أن "تختص لجنة ضباط القوات المسلحة المنعقدة بصفة هيئة قضائية دون غيرها بالفصل في كافة المنازعات الإدارية الخاصة بالقرارات النهائية التي تصدرها مجالس الكليات والمعاهد العسكرية المعدة لتخريج ضباط القوات المسلحة فيما عدا قرارات فصل الطلاب لسبب يتعلق باجتيازهم لما يعقد لهم من اختبارات دراسية تتماثل في طبيعتها التعليمية مع أقرانهم طلاب الجامعات والمعاهد العليا.
"كما تختص هذه اللجنة دون غيرها بالفصل في كافة المنازعات الإدارية الخاصة بالقرارات النهائية الصادرة عن مكتب تنسيق القبول بالكليات والمعاهد العسكرية المعدة لتخريج ضباط القوات المسلحة".
 وللوهلة الأولى يبين أن التعديل المثار كان رد فعل على أحكام قضائية دستورية وإدارية.
فمحاولة لتحجيم الإطلاق الذي شاب المادة الأولى من القانون رقم 99 لسنة 1983 والذي أفضى للحكم بعدم دستوريتها، أخرج الشارع من نطاق اختصاص لجنة ضباط القوات المسلحة قرارات فصل طلاب الكليات والمعاهد العسكرية لسبب يتعلق بالاختبارات الدراسية المعقودة على غرار امتحانات طلاب الجامعات والمعاهد العليا.
ولوضع نهاية لقضاء المحكمة الإدارية العليا باختصاص القاضي الإداري بقرارات مكتب تنسيق القبول بالكليات والمعاهد العسكرية، أضيفت فقرة للمادة محل البحث تسند الاختصاص بالقرارات المشار إليها للجنة ضباط القوات المسلحة.
وسرعان ما طرحت الفقرة المضافة أمام القاضي الدستوري بمناسبة الطعن على قرار مكتب تنسيق القبول بالكليات والمعاهد العسكرية باستبعاد طالب من الالتحاق بالكلية الجوية.
وانتهت المحكمة الدستورية العليا إلى دستورية الفقرة المستحدثة، وفي حيثيات حكمها أسندت موقفها لدعامتين:
الأولى- جواز إخراج بعض المنازعات الإدارية من نطاق اختصاص مجلس الدولة كلما تطلبت المصلحة العامة ذلك.
فنص المادة 172 من الدستور "لا يعني غل يد المشرع العادي عن إسناد الفصل في بعض المنازعات الإدارية والدعاوى التأديبية إلى جهات قضائية أخرى متى اقتضى ذلك الصالح العام".
الثانية- أعضاء اللجان المعنية لهم خبرة ودراية تجعلهم الأقدر على الفصل في المنازعات الخاصة بقرارات مكتب تنسيق القبول بالكليات والمعاهد العسكرية.
وباستعارة عبارات الحكم نقرأ: "وحيث أن إسناد الفصل في المنازعات التي قد تنشأ عن القرارات النهائية التي تصدر عن مكتب تنسيق القبول بالكليات والمعاهد العسكرية إلى لجنة ضباط القوات المسلحة المنعقدة بصفة هيئة قضائية، يجد سنده فيما يتوافر في أعضاء هذه اللجنة، والتي تتكون من قادة أفرع القوات المسلحة منضماً إليها مدير إدارة القضاء العسكري، من معرفة ودراية بطبيعة الدراسة في الكليات والمعاهد العسكرية وما تستلزمه من ضرورة توافر شروط خاصة طبية وبدنية ونفسية في الطلاب المتقدمين للالتحاق بتلك الكليات والمعاهد، ومن ثم فإن هذه اللجنة تكون هي الأقدر على تفهم طبيعة المنازعة المعروضة عليها، وتقرير ملاءمة القرار الصادر من مكتب تنسيق القبول بالكليات والمعاهد العسكرية في ضوء معايير القبول التي تقررها القيادات العامة للقوات المسلحة"(12).
وتفحص القضاء الأخير للمحكمة الدستورية العليا يلحظ تحولاً في موقفها من استثناء بعض المنازعات الإدارية من اختصاص مجلس الدولة.
فقد خفت قيود إعمال الاستثناء، بحصرها في المصلحة العامة بمفهومها العام.
وهكذا عدنا إلى القضاء المرسى إبان المحكمة العليا، والأحكام الأولى للمحكمة الدستورية العليا(13).
وقد سبق التنويه بأن المصلحة العامة على إطلاقها ليست بقيد مميز، فهي غاية كل تشريع، بل أي عمل يصدر عن السلطات العامة قاطبه.
ولذا فإن الأحكام التي تطلبت مصلحة عامة جلية وناطقة بذاتها، هي الأجدر بالمعاضدة والمساندة.
كما أن القضاء الأخير اسقط ضابط الضرورة الملجئة، للخروج على المادة 172 من الدستور.
ولا مراء في أن صياغة استثناء على اختصاص مقرر بنص دستوري يجب ربطه بقيود تحفظ للنص قوامه وللمبدأ نطاقه.
ومن ثم فإن الضرورة الملجئة كانت قيداً متقبلاً.
ولا ندري كيف أسقطها الحكم الأخير للمحكمة الدستورية العليا؟
والأهم أن حكم المحكمة الدستورية العليا، وإن اكتفى بالمصلحة العامة، لم يكشف عن وجه المصلحة في منح لجنة ضباط القوات المسلحة الاختصاص بنظر الطعون ضد قرارات مكتب تنسيق القبول بالكليات والمعاهد العسكرية.
والتبرير بقدرة تلك اللجان غير مقنع:
-   ما تردد عن دراية اللجان يعد أقرب إلى دواعي التعديل، ودواعي التعديل شيء، والغاية شيء آخر، والدوائر المتقاطعة بينهم لا تعني تطابقهم.
-    - الاستهداء بالمبدأ الذي تقرر في حكم المحكمة الدستورية العليا عام 2000 من أن نزع الاختصاص بالمنازعات الإدارية الخاصة بطلاب الكليات والمعاهد العسكرية من مجلس الدولة بصورة شاملة، يتجاوز نطاق الاستثناء، كان من شأنه القضاء بعدم دستورية الفقرة الثانية.
فالفقرة الجديدة تتشابه، مع الفقرة الأولى المقضي بعدم دستوريتها، من منظور سجها الاختصاص بقرارات مكتب تنسيق القبول بالكليات والمعاهد العسكرية بصورة كلية من مجلس الدولة وإيكالها إلى لجنة ضباط القوات المسلحة.
بل أن الحكم بعدم دستورية تلك الفقرة كان أولى، لأن الفقرة المقضي بعدم دستوريتها كانت تتعلق بطلاب مقيدين بالمعاهد العسكرية، أما الفقرة المضافة فتنصرف إلى مرشحين للقبول.
ولا مراء في أن القيد بالمعهد العسكري أوثق من حيث عري الرابطة من مجرد الترشيح.
ولذا إذا سمحنا باللجوء للقاضي الإداري بالنسبة للطالب المقيد، فمن الضروري إتاحة تلك الفرصة للشخص المرشح.
وإذا قدرت المحكمة توافر أسباب تدفعها إلى إطلاق اختصاص لجنة الضباط بالمنازعة في قرارات مكتب التنسيق العسكري، فكان لزاماً عليها بسطها، حتى لا تبدو اتجاهاتها متعارضة، وسياساتها متناقضة.
يضاف لكل ما تقدم أن قضاء المحكمة الدستورية العليا قد يدفع بعض الجهات التي يتطلب الالتحاق بها خوض اختبارات مماثلة لتلك التي تجري في الكليات العسكرية (كلية الشرطة مثلاً) إلى استصدار قانون يخرج منازعات القبول بتلك الجهات من مجلس الدولة، ليعهد بها إلى لجان مناظره للجان الضباط. كل ذلك رغم أن عرض تلك منازعات على مجلس الدولة زهاء أربعة قرون لم يلق معارضة، وأسفر عن مبادئ مستقرة وازنت بين السلطة التقديرية للجهات المعنية في التحاق الطلاب بها، وبين الحق الدستوري في التعليم والمساواة وتكافؤ الفرص.
وهكذا تفتقد مثل تلك القوانين، حال صدورها، لمبررات سنها قبل أن تدب الحياة في جنباتها.
ثانياً- اصطدام المحكمة الإدارية العليا بمبدأ مركزية رقابة الدستورية:
في إطار المعطيات سالفة البسط جاء حكم المحكمة الإدارية العليا سنة 2009 بقبول الطعن على قرار عدم قبول طالب بالكلية الجوية.
وكان على المحكمة أن تبرر سند اختصاصها بعد أن قضت المحكمة الدستورية العليا عام 2006 بدستورية إسناد مثل تلك المنازعات إلى لجنة ضباط القوات المسلحة.
وفي معرض طرح تلك المبررات تردد أن "المحكمة الدستورية العليا وقد قضت في حكمها الأول الصادر بجلسة 9/9/2000 في الدعوى رقم 224 لسنة19 قضائية دستورية... بعدم دستورية نص المادة رقم (1) من القانون رقم 99 لسنة 1983 فيما تضمنه من إطلاق اختصاص لجنة ضباط القوات المسلحة المنعقدة بصفة هيئة قضائية دون غيرها بالنظر في القرارات الإدارية النهائية الصادرة في المنازعات الإدارية والمصدق عليها من وزير الدفاع والتي تصدرها مجالس المعاهد العسكرية المعدة لتخريج الضباط العاملين بالقوات المسلحة في شأن الطلاب المقيدين بها، فإن مقتضى هذا الحكم هو إلغاء أو إعدام هذا النص إعمالاً لمقتضى الأثر العيني للحكم، فإذا ما أصدر المشرع بعد ذلك قانوناً بتعديل أحكام القانون رقم 99 لسنة 1983 المشار إليه قضى فيه بحذف أو إلغاء النص المقضي بعدم دستوريته ثم أورد نصاً آخر في ذات القانون يناقض تماماً حكم المحكمة الدستورية العليا سالف الإيراد، فإن مقتضى ذلك أن المشرع عّدل هذا القانون شكلاً بحذف النص المقضي بعدم دستوريته بينما أبقى على مضمون النص وجوهره في الحقيقة والواقع عندما أضاف – بموجب القانون رقم 152 لسنة 2002 – فقرة ثانية إلى المادة (1) من القانون رقم 99 لسنة 1983 آنف الذكر حيث نصت هذه الفقرة المضافة على أن تختص لجنة ضباط القوات المسلحة "دون غيرها بالفصل في جميع المنازعات الإدارية الخاصة بالقرارات النهائية الصادرة من مكتب تنسيق القبول بالكليات والمعاهد العسكرية المعدة لتخريج ضباط القوات المسلحة" فإن هذا يعني أن المشرع – وحسبما سلف بيانه – ألغى النص المقضي بعدم دستوريته من حيث الشكل، ولكنه أبقى على مضمونه بموجب الفقرة المضافة بالقانون رقم 152 لسنة 2002 سالف الإيراد".
وبعد أن حددت المحكمة موقفها من مسلك المشرع بإصداره القانون رقم 152 لسنة 2002، عرجت على قضاء المحكمة الدستورية العليا الصادر عام 2006 مضيفة أنه "في ظل هذا النص المضاف أصدرت المحكمة الدستورية العليا حكمها بجلسة 7/5/2006 في الدعوى رقم 199 لسنة 25 ق دستورية والذي قضى برفض الدعوى بعدم دستورية هذا النص المضاف "حيث أن هذا الحكم يعتبر عدولاً من المحكمة الدستورية العليا عن حكمها الأول الصادر بجلسة 9/9/2000 في الدعوى رقم 244 لسنة 19 قضائية، وأن هذا العدول هنا يعتبر أمراً غير جائز بل غير متصور إعمالاً للأثر العيني للحكم الأول الذي ألغى النص المشار إليه، ذلك أن المحكمة الدستورية العليا تكون والحال هكذا قد استنفدت ولايتها تماماً في الفصل في هذه المنازعة ولم يعد بوسعها معاوده التصدي والنظر في مدى دستورية نص سبق لها أن قضت بعدم دستوريته، وعليه يكون حكم المحكمة الثاني الصادر بجلسة 7/5/2006 قد ورد بشأن نص منعدم أي ورد على غير محل مما يتعين معه الالتفات عنه حفاظاً على حجية حكم المحكمة الدستورية العليا الأول ورفعاً للتناقض بينه وبين حكمها الثاني، فضلاً عن الالتزام بالشرعية وسيادة القانون سيما نص المادة 172 من الدستور التي أكدت على الاختصاصات والمهام الدستورية التي يضطلع بها مجلس الدولة بحسبانه قاضي القانون العام في كافة المنازعات الإدارية والتي يدخل ضمنها بطبيعة الحال كافة المنازعات الطلابية في مختلف مراحل التعليم أياً كانت مدارسه ومعاهده وكلياته المدنية منها والعسكرية"(14).
ولنا على هذا الحكم ثلة تعليقات:
1) المحكمة الإدارية العليا بالسطور المقتبسة نصاً من حيثيات حكمها نصبت نفسها كجهة رقابية على المحكمة الدستورية العليا.
ومن هنا نفهم إقرارها للحكم الدستوري الصادر سنة 2000، ورفضها لحكم ذات المحكمة لعام 2006.
وهذا المسلك يخالف نص المادة 174 من الدستور الواصف للمحكمة الدستورية العليا بأنها هيئة قضائية مستقلة، أي أنها ليست جزءاً من القضاء العادي أو الإداري.
ومن تبعات هذا الاستقلال أن القاضي العادي أو الإداري ليس جهة تقييميه لأحكام المحكمة الدستورية العليا.
وإذا كان القاضي الإداري ليس جهة تقييم، فهو أيضاً ليس جهة طعن على الأحكام الدستورية، ليطبق ما يشاء وينحي ما يشاء.
فأياً ما كانت وجهة النظر في حكم القاضي الدستوري، فليس من بد من تنفيذه وإعمال مقتضاه.
2) الإشارة إلى أن حكم القاضي الدستوري لعام 2000 أفضى إلى استنفاد ولاية المحكمة الدستورية العليا، مما كان يحول دونها والتعرض للفقرة الثانية من المادة الأولى من القانون رقم 99 لسنة 1983 يهدر مبدأ مركزية الرقابة الدستورية.
فهذا المبدأ لا يتيح لغير المحكمة الدستورية العليا التصدي للمسألة الدستورية على أي وجه.
والقول بغير ذلك يناقض نص الوثيقة الدستورية المانح مهام رقابة الدستورية لجهة واحدة ووحيدة: المحكمة الدستورية العليا.
والأهداف بلغ ما بلغ نبلها لا تتحقق بالافتئات على النصوص الدستورية، أو حتى الالتفاف حولها بحثاً عن ثغرة تفرغها من مضمونها وتجرها بعيداً عن مقاصدها وتوجهاتها.
3) المحكمة الإدارية العليا في غمرة مجاهدتها لتعزيز موقفها اختلط الأمر عليها.
فقد أعلنت أن القانون رقم 152 لسنة 2002 أبقى على المادة الأولى المقضي بعدم دستوريتها من حيث المضمون.
ورتبت المحكمة على ذلك نتيجة مؤداها أنه ما كان يجوز للقاضي الدستوري أن يعرض للنص مرة أخرى بعد إعلان عدم دستوريته.
والحقيقة أن النص المسنون عام 2002 اختلف عن النص السابق من زاويتين:
•       أخرج النص من اختصاص لجنة ضباط القوات المسلحة قرارات فصل طلاب الكليات والمعاهد العسكرية لأسباب دراسية.
وحاول المشرع بذلك تقييد الإطلاق الذي شاب النص المحكوم بمخالفته للدستور.
•       أضيفت فقرة جديدة تتعلق بالمرشحين للقبول بالكليات والمعاهد العسكرية، ووضعهم يختلف عمن قيد فعلاً بتلك الجهات.
وهذا الشطر من النص لم تبد المحكمة رأيها فيه عام 2000، لأنه ببساطة لم يكن قد استحدث بعد.
علماً بأن النزاع الذي طرح على المحكمة الإدارية العليا كان يتعلق بالفقرة المضافة، وتلك الفقرة طرحت على المحكمة الدستورية مرة واحدة، ولم تتناقض المواقف بشأنها وحسم القاضي الدستوري مصيرها، بإعلان اتفاقها مع الدستور.
4) يتصل بما سبق أن ما خلصت إليه المحكمة الإدارية العليا يتعارض مع حجية الأحكام الدستورية.
فطبقاً للقضاء الثابت، فإن الحجية المطلقة للأحكام الدستورية محدده بالنص المطروح دستوريته وحسم أمره فعلاً.
 وتعبيراً عن ذلك قضى بأن "الحجية المطلقة للأحكام الصادرة في الدعاوى الدستورية لا يفارق نطاقها النصوص التشريعية التي كانت مثاراً للمنازعة حول دستوريتها، وفصلت فيها المحكمة فصلاً حاسماً بقضائها، أما غيرها ما لم يكن مطروحاً عليها ولم تفصل فيه فعلاً فلا تمتد إليه تلك الحجية"(15).
 كلمة تعقيبيه:
لا جدال في خطورة تجاوز محكمة في مكانة المحكمة الإدارية العليا لمبدأ مركزية الرقابة الدستورية، إلا أن الإنصاف يجعلنا لا نحملها وحدها تبعات ذلك فالأزمة القائمة تدعونا إلى الإلحاح بشدة على ضرورة اهتمام القاضي الدستوري بإعلان بواعث تنقله من سياسة قضائية إلى أخرى مغايرة.
 وهذا النهج لا يرضي الشعور بالعدالة فحسب، وإنما يمنع كذلك من العثور على مشجب تعول عليه المحاكم هنا أو هناك لتخطي الأحكام الدستورية.
وأخيراً لا مفر من توجيه نداء إلى السلطة التشريعية، بالتقيد بالأحكام الدستورية شكلاً وموضوعاً.
 فرداً على القضاء بعدم دستورية المادة الأولى من القانون رقم 99 لسنة 1983 لما تضمنته من إطلاق نزع خصومات طلاب الكليات العسكرية من القاضي الإداري، أعاد المشرع إصدار النص مستبعداً منه فقط قرارات الفصل لسبب دراسي.
 وتتكاثر الشكوك حول أن الاستبعاد المشار إليه يحد حقيقة من إطلاق النص بما ينقيه من وصمة عدم الدستورية.
 ولقد كشف المشرع عن نهجه حينما شفع التقييد المحدود بإضافة فقرة ثانية توسع مساحة المنازعات المقصاه من مجلس الدولة لإسنادها للجنة شئون الضباط. (قرارات مكتب تنسيق القبول بالكليات والمعاهد العسكرية).
وإذا أراد المشرع العمل على إزالة الالتباس الذي ساهم في صنعه، والتشابك الذي خلفه، عليه المسارعة في إلغاء الفقرة الثانية من المادة الأولى من القانون رقم 99 لسنة 1983 المعدل عام 2002، مع إعادة صياغة الفقرة الأولى بما يتفق وطبيعة الاستثناء ونطاقه.
       ويحدونا الرجاء في أداء كل جهة لدورها، حتى لا تظل أزمة مركزية الرقابة متأججة وتبعاتها قائمة متحدية.
-------------------------------------------
(1) سنحت الفرصة للقاضي الدستوري ليؤكد المبدأ، بإعلانه أن المادة 175 من الدستور عهدت للمحكمة الدستورية العليا دون غيرها "بتولي الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح على الوجه المبين في القانون، ثم صدر القانون المنظم لأوضاعها مبيناً اختصاصاتها، محدداً ما يدخل في ولايتها حصراً، مستبعداً من مهامها مالا يندرج تحتها، فخولها الاختصاص المنفرد بالرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح، مانعاً أي جهة من مزاحمتها فيه، مفصلاً طرائق هذه الرقابة وكيفية إعمالها، وذلك كله على النحو المنصوص عليه في المواد (25، 27، 29) منه، وهي قاطعة في دلالتها على أن اختصاص المحكمة لدستورية العليا في مجال الرقابة الدستورية منحصر في النصوص التشريعية أياً كان موضوعها، أو نطاق تطبيقها، أو الجهة التي أقرتها أو أصدرتها، ذلك أن هذه النصوص هي التي تتولد عنها مراكز قانونية عامة مجردة، وما يميزها كقواعد قانونية، هو أن تطبيقاتها مترامية، ودائرة المخاطبين بها غير متناهية، والآثار المترتبة على إبطالها – إذا أهدرتها هذه المحكمة لمخالفتها الدستور – بعيدة في مداها. وتدق دائماً ضوابط الرقابة على مشروعيتها الدستورية، وتقارنها محاذير واضحة. وكان لزاماً بالتالي أن يؤول أمر هذه الرقابة إلى محكمة  واحدة بيدها زمام إعمالها، كي تصوغ لنفسها معاييرها ومناهجها، وتوازن من خلالها بين المصالح المثارة على اختلافها، وتتولى دون غيرها بناء الوحدة العضوية لأحكام الدستور بما يكفل تكاملها وتجانسها، ويحول دون تفرق وجهات النظر من حولها وتباين مناحي الاجتهاد فيها".
المحكمة الدستورية العليا – 3/12/1994 – مجموعة أحكام المحكمة – ج (6) ص380؛
المحكمة الدستورية العليا – 2/12/1995 – مجموعة أحكام المحكمة – ج (7) – ص226.
وانظر من الأحكام السابقة:
المحكمة الدستورية العليا – 4/5/1985 – مجموعة أحكام المحكمة – ج (3) ص209.
 (2) لمزيد من التفاصيل راجع مقالنا: مركزية الرقابة الدستورية وإمكانية امتناع المحاكم عن تطبيق النصوص المخالفة للدستور – مجلة القانون والاقتصاد – كلية حقوق القاهرة - 2005 – ص7 وما بعدها.
(3) راجع مقالنا: إثارة المسألة الدستورية أثناء طلب وقف تنفيذ القرارات الإدارية – مجلة الدستورية – العدد 16 – ص26 وما بعدها.
(4) لم يختلف الحال في ظل المحكمة العليا عنه في إطار المحكمة الدستورية العليا. فبمناسة بحث جواز إخراج المنازعة في قرارات لجان تحديد الأجرة المنصوص عليها في القانون رقم 52 لسنة 1969 بشأن إيجار الأماكن، من نطاق القاضي الإداري أبانت المحكمة العليا أن تقرير الدستور للولاية العامة لمجلس الدولة بنظر المنازعات الإدارية "لا يعني غل يد المشرع عن إسناد الفصل في بعض المنازعات الإدارية والدعاوى التأديبية إلى جهات تأديبية أخرى على أن يكون ذلك على سبيل الاستثناء من الأصل العام المقرر بالمادة 172 من الدستور وبالقدر وفي الحدود التي يقتضيها الصالح العام، وعلى هذا النحو يعمل المشرع بالتفويض المخول له في المادة 167 من الدستور بشأن تحديد الهيئات القضائية واختصاصاتها وتنظيم طريقة تشكيلاتها مع مراعاة الأصل العام المقرر بالمادة 172 من الدستور بشأن اختصاص مجلس الدولة بالفصل في المنازعات الإدارية والدعاوى التأديبية باعتباره صاحب الولاية العامة على هذه الدعاوى وتلك المنازعات".
المحكمة العليا – 29/6/1974 – مجموعة أحكام المحكمة (من إنشاء المحكمة حتى نوفمبر 1976) ص178.
وفي سابقة لاحقة، أكدت المحكمة العليا موقفها من جواز إسناد بعض المنازعات الإدارية لغير مجلس الدولة، وبناء عليه خلصت إلى رفض الطعن بعدم دستورية القرار بقانون رقم 173 لسنة 1957 والذي حظر الطعن على قرارات لجنة ضباط القوات المسلحة.
وتوصلاً لتلك النتيجة أضفت المحكمة الصفة القضائية على اللجنة المشار إليها لتعرج إلى سبب إخراج منازعات أفراد القوات المسلحة من اختصاص القاضي الإداري موضحة أن "المصلحة العامة وطبيعة الأوضاع في القوات المسلحة تستلزم وضع المنازعات الإدارية الخاصة بأفراد هذه القوات في يد أسرتهم العسكرية باعتبارها القاضي الطبيعي لتلك المنازعات بالنظر إلى الصلة الوثيقة بين أداء الضابط لمهام وظيفته العسكرية وبين ما يصدر في شأنه من قرارات إدارية بدءاً بقرار إلحاقه بالخدمة العسكرية ونهاية بقرار إنهاء تلك الخدمة...".
المحكمة العليا – 7/2/1976 – مجموعة أحكام المحكمة – (من إنشاء المحكمة – نوفمبر 1976) ص328.
(5) المحكمة الدستورية العليا – 16/5/1982 -  مجموعة أحكام المحكمة – ج (2) ص50.
 (6) المحكمة الدستورية العليا – 16/6/1984 – مجموعة أحكام المحكمة – ج (3) ص80.
في تقييم هذا القضاء راجع مؤلفنا:
الاعتقال – دراسة للمادتين الثالثة والثالثة مكرراً من قانون الطوارئ – 1989 – ص133 وما بعدها.
(7) في تفاصيل أبرز هذه الاستثناءات راجع على سبيل المثال:
عبد الناصر على عثمان حسين – استقلال القضاء الإداري – 2007 – ص376 وما بعدها، وأنظر كذلك:
يسري العصار – مدى دستورية استثناء بعض المنازعات من اختصاص القضائين العادي والإداري – مجلة مصر المعاصرة – عدد أكتوبر 2004 – ص101 وما بعدها.
(8) المراد المنازعات الخاصة بدراسة الفئة المعنية، وبالتالي لا ينصرف عدم الدستورية إلى القرارات الانضباطية، وإن صدرت بحق الطلاب بالمعاهد والكليات العسكرية.
المحكمة الدستورية العليا – 4/8/2001 – مجموعة أحكام المحكمة – ج (9) ص1055.
وليس هنا مقام التعليق على هذا القضاء، ولذا نكتفي بذلك التلميح.
(9) المحكمة الدستورية العليا – 9/9/2000 – مجموعة أحكام المحكمة – ج (9) – ص709.
(10)  المحكمة الإدارية العليا – 15/5/1994 – مجموعة الأحكام –  السنة (39) ج (2) – ص1367.
(11) القانون رقم 152 لسنة 2002.
(12) المحكمة الدستورية العليا – 7/5/2006 – مجموعة أحكام المحكمة – ج (11) المجلد (2) ص 2592.
(13) راجع ما سبق.
(14) المحكمة الإدارية العليا – 8/7/2009 – الطعن رقم 1251 لسنة 48ق.ع - غير منشور.
 (15) المحكمة الدستورية العليا - 9/9/2000 – مجموعة أحكام المحكمة - ج (9) - ص709.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق