الجمعة، 4 ديسمبر 2015

الشريعة الإسلامية مصدر رسمى للقانون أم مصدر موضوعى للتشريع

الشريعة الإسلامية 

مصدر رسمى للقانون أم مصدر موضوعى للتشريع

قراءة فى نص المادة الثانية من الدستور
بقلم الأستاذ الدكتور / سامى جمال الدين
بكلية الحقوق –  جامعة الإسكندرية
منشور بمجلة الدستورية - العدد الثاني والعشرون – السنة العاشرة – أكتوبر 2012

تقديم : 
القانون بمعناه الواسع ، هو فى جوهره تعبير عن إرادة الدولة ، فهذه الإرادة دون غيرها تمثل المصدر الوحيد للقواعد القانونية ، ولكن الدولة لا تعبر عن إرادتها بأسلوب واحد بعينه ، وإنما تختلف طرق التعبير عن هذه الإرادة باختلاف السلطة العامة الموكول إليها التعبير عنها ، ومن هنا تتعدد مصادر القاعدة القانونية بتعدد السلطات العامة التى تعبر عن إرادة الدولة ،
وإذ من المحتمل وقوع التعارض أو التناقض يبن هذه القواعد.  ومن ثم التنازع بين السلطات أو الهيئات التى تولت إقرارها ، فقد استقر الأمر على تدرج القواعد القانونية من حيث قوتها أو مرتبتها الإلزامية ، بحيث تعلو بعضها على بعض فتخضع القاعدة الأدنى مرتبة للقاعدة الأعلى مرتبة ، فلا تستطيع مخالفتها وإلا غدت غير مشروعة وحق عليها البطلان والإلغاء ، كما أن المرجع فى تحديد القوة القانونية للقاعدة يعود إلى مرتبة السلطة التى أصدرت هذه القاعدة والإجراءات المتبعة لذلك.
وليست ثمة مشكلة بصدد تحديد مراتب التشريعات وفقاً لمصدرها ، ولما كانت السلطة التأسيسية أعلى مرتبة من السلطات المؤسسة باعتبارها هى المنشئة لها ، وكانت السلطة التشريعية أعلى من السلطة التنفيذية فى مجال التشريع ، على أساس أن هذه السلطة التشريعية هى المختصة أصلاً بوظيفة التشريع ، فى حين أن السلطة التنفيذية تختص بذلك استثناء ، فإن الدستور الصادر عن السلطة التأسيسية يعلو القانون الذى تسنه السلطة التشريعية ، كما تعلو هذه القوانين على اللوائح التى تصدرها السلطة التنفيذية ، وعليه تنحصر المشكلة فى المصادر الرسمية غير المقننة أو المصاغة صياغة تشريعية ، وهى تتمثل فى المبادئ العامة للقانون والقواعد العرفية . والراجح فقهاً وقضاءً أن القواعد العرفية لا تتمتع بقوة إلزامية تعلو أى تشريع ، كما أن الفقه الحديث والقضاء الدستورى فى فرنسا ومصر يذهب إلى تمتع المبادئ العامة للقانون بالمرتبة الإلزامية التى تعادل مرتبة الدستور، أو على الأقل فإنها تلى الدستور فى تدرج القواعد القانونية وتسبق التشريع الصادر عن البرلمان من حيث القوة الإلزامية لها .
وللقضاء دور بالغ الأهمية فى الكشف عن المبادئ العامة للقانون حيث يعمل على استخلاصها من الروح العامة للتشريع وضمير الجماعة ، مستعيناً فى ذلك بالقواعد القانونية القائمة وأسس نظام الحكم فى الدولة ووثائقها القانونية والسياسية التى تتضمن الخطوط العريضة والاتجاهات العامة السياسية للدولة ، بحيث تعتبر المبادئ العامة بمثابة تفسير من جانب القضاء للضمير العام للمجتمع ولإرادة المشرع أو بالأحرى لإرادة التشريع ، التى تتأسس على الفلسفة العامة السائدة فى الدولة وتتولد عن مقومات المجتمع الفكرية والفلسفية ، حيث يستهدى بها المشرع والقضاء فيما يقومان به من خلق للقواعد القانونية .
والمقومات الأساسية للمجتمع فى مصر تتبلور فى الإيمان بالله وبرسله والمبادئ الأخلاقية السامية ، والقيم والتقاليد الأصلية للأسرة المصرية والتربية الدينية والتراث التاريخى للشعب ، والعدل والحرية الشخصية للمواطنين وحرمه حياتهم الخاصة ، وغير ذلك من الأسس الأخرى التى يقوم عليها المجتمع المصرى ، ويهتم المشرع الدستورى غالباً بتحديد البعض منها مثلما ورد فى الأبواب الأربعة الأولى من دستور 1971 .
ولذلك يحرص كل مشرع على أن يضمن فيما يشرعه أن يكون وليد هذه المقومات، وثيق الصلة بواقع المجتمع ، مسايراً لحالته الاجتماعية والسياسية والدينية ، متفقاً مع عادات هذا المجتمع وتقاليده وآدابه ونظمه وعقائده ، ومن هنا يحرص المشرع فى الدول الإسلامية على أن تكون القوانين متفقة مع تعاليم الإسلام الذى تتعبد به الجماعة فى هذه الدول ، بأن تأتى مسايرة لعقائدهم ونظمهم محافظة على تقاليدهم وآدابهم ، وهم الكثرة الساحقة فى تلك الدول ، وإلى ذلك يرجع السبب فى حرص المشرع الدستورى فى عديد من الدول العربية على النص فى دساتيرها على أن الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع (مصر) أو مصدر رئيسى للتشريع (الكويت والبحرين) أو أساس التشريع (سلطنة عمان) (1)
وقد أثارت صياغة هذه النصوص الدستورية الجدل حول تفسيرها وتحديد مدلولها، وما إذا كانت تعنى أن الشريعة الإسلامية هى فقط مصدر موضوعى أو مادى للتشريع ، ومن ثم فهى لا تحمل التزاماً للكافة بإتباعها ، إذ هى فقط خطاب للمشرع بشأن المصادر الموضوعية التى يستمد منها تشريعاته الوضعية ، أم أنها تتجاوز ذلك إلى حد الإلزام بها كمصدر رسمى للقانون ، إلى جانب مشكلة تحديد  مدى التزام المشرع بمبادئ الشريعة الإسلامية فى مصر وهل يقتصر على مقاصدها أم يمتد إلى أحكامها ، وما هو مدلول أحكام الشريعة وهل يختلف عن مدلول الفقه الإسلامى حيث يحتاج الأمر فى هذه الحالة إلى تحديد مرجعية دينية لتفسيره أم لا ، وهى مشكلات قانونية ودستورية وليست دينية فقط مما يتطلب منا عرض موقف القضاء والفقه الدستورى بصددها وذلك على النحو الآتى :
          أولاً : مدلول اصطلاح الشريعة الاسلامية:
          يغفل الكثير من المشتغلين بدراسة الدين الاسلامى- سهواً أو عمداً- أن يشيروا فى كتاباتهم إلى أن الأحكام الشرعية الإسلامية تتنوع إلى أحكام الهية قطعية وأحكام فقهية إجتهادية، وأن التزام المسلم والدولة الإسلامية بإتباع الدين الإسلامى يقتصر كأصل عام على الالتزام بالأحكام الالهية القطعية دون الأحكام الفقهية الاجتهادية، ولذلك فإننا نفضل أن توصف الأحكام الالهية القطعية وحدها بأنها أحكام الشريعة الإسلامية باعتبارها أحكاماً أو بالأحرى قواعد ملزمة بطبيعتها، خلافاً للآراء الاجتهادية التى لا تحظى بصبغة الإلزام ولا بطبيعة الأحكام، وهى ما يمكن وصفها بأنها من الفقه الإسلامى.
          وترجع أهمية التمييز بين الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامى إلى أن عملية التشريع فى الدولة الإسلامية أو التى ينص دستورها على أن دين الدولة هو الإسلام، تختلف بإختلاف النصوص التى يستمد منها المشرع قواعده وأحكامه، فالله سبحانه وتعالى ألزم المؤمنين بالطاعة فى قوله تعالى: "ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم* فإن تنازعتم فى شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلاً"- سورة النساء- آية (59). وتتمثل طاعة الله فى طاعة الأحكام الشرعية الواردة فى القرآن الكريم، كما تتمثل طاعة الرسول فى طاعة ما ورد فى السنة الصحيحة من أحكام شرعية. وكلتاهما طاعة مطلقة غير قابلة للخلاف أو التنازع ولا مجال فيها للاجتهاد أو محاولة الاقناع والامتناع أو المجادلة حول أهدافها وأغراضها أو نتائجها أو دوافعها ومبرراتها وبواعثها، إذ لا مجال بشأنها سوى التسليم التام بأمر الله ورسوله، على حين أن طاعة أولى الأمر تتبدى فى طاعة ما يصدرونه من قوانين وأوامر وقررات وأحكام قضائية، ولكنها طاعة قابلة للتنازع فى حالة الخلاف عند تطبيقها، فهى ليست طاعة مستقلة، وسبيل حل هذا الخلاف هو العودة إلى الله ورسوله أى إلى مبادئ وأحكام الكتاب والسنة الصحيحة القطعية إذا وجدت، وإلا تعين الالتزام بأمر الولى واجتهاده التزاماً بطاعته كما ورد فى النص، مع ملاحظة أن الأصل فى ولاة الأمر هو التعدد، أى تعدد السلطات ومن يملكون حق الأمر باسمها (مبدأ الفصل بين السلطات)، وهم يضمون إلى جانب الحاكم ومن يفوضه القضاه ومن فى حكمهم والسلطة المختصة بالتشريع فى الدولة الاسلامية، ومن ثم فإن التنازع قد يقع فيما بينهم أو بين أحد ولاة الأمر وأفراد المجتمع، كما أن رضاء هؤلاء بتصرفات ولى الأمر ينفى وقوع التنازع وبالتالى الحاجة إلى حسمه.
          واستناداً إلى ما تقدم فإن أحكام ومبادئ الشريعة الاسلامية هى مجموع القواعد القطعية التى شرعها الله تعالى فى القرآن والسنة النبوية الصحيحة، ولا تحتمل شكاً ولا تأويلاً، وليست بالتالى موضع اجتهاد ولا محل خلاف، ولا تتغير بتغير الأحوال أو الزمان أو المكان، ولا يسوغ للمسلمين أن يتفرقوا فيها، وتمثل فى مجموعها الأصول والثوابت والعقائد والمبادئ والأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التى شرعها الله لتنظيم بعض جوانب حياة الفرد والمجتمع على الأرض، ومن ثم يلتزم أولى الأمر أى الحكام والسلطات العامة فى الدولة الإسلامية بإعمالها التزاماً كاملاً، فلا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق.
          غير إنه يلزم ملاحظة أن أحكام الشريعة الإسلامية لا تشمل كل احتياجات الإنسان فى النظام الاجتماعى الذى يضم مجموعة القوانين التى يحتاجها المجتمع لتنظيم شتى الروابط والعلاقات تفصيلاً، لأن شمولية الشريعة لكل شئ وفقاً لقوله تعالى "ما فرطنا فى الكتاب من شئ" تنصب بالدرجة الأولى على الكليات والاطار العام لحركة الانسان والمجتمع، أما التفاصيل والجزئيات فأمرها متروك للمسلمين يعالجونها بحسب مقتضيات ومصالح الزمان والمكان والأحوال بما يحقق حاجات الناس ويلبى مطالبهم ويساير أغراضهم المعتبرة، لذا فإن الأحكام الشرعية فى هذا الجانب بالذات جاءت فى الغالب "أصولاً كلية" و"قواعد عامة" مقرونة بعللها حتى يفهم أن الحكم فيها يجب أن يكون مصاحباً لعلته، فإذا زالت العلة ارتفع الحكم وتبدل بآخر، وبذلك تركت النصوص مجالاً رحباً لحركة العقل المجتهد حسب دواعى التطور التاريخى والاجتماعى ومتطالباته، فالشريعة الإسلامية فى مثل هذه الأمور تعنى بالمقاصد والغايات وليس الوسائل والسبل والنظم التى تحقق هذه المقاصد وتلك الغايات، ولذلك تتضمن الشريعة الإسلامية كثيرًا من المبادئ العامة، والعديد – أى قليل – من الأحكام الشرعية التفصيلية.
          وعليه يمكن تعريف الشريعة الإسلامية بأنها مجموعة المبادئ والأحكام الشرعية القطعية التى سنها الله سبحانه وتعالى للناس جميعاً على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ، ووفقاً لذلك فإن "أحكام" الشريعة الإسلامية يتوافر بشأنها خصائص أحكام القانون والشرع أو بالأحرى خصائص القاعدة القانونية، وعلى رأسها العمومية والتجريد والقابلية للتقنين ، ومن ثم تتمتع هذه الأحكام بقيمة تشريعية ملزمة للكافة باعتبارها جزء من البناء القانونى للدولة وتحتل مكانة عليا فيه، وهى فى تقديرنا تقع على رأس المبادئ العامة للقانون، الملزمة بطبيعتها وبذاتيتها للكافة ، أما "مبادئ" الشريعة الإسلامية ، فإنها بالقطع تتمتع بالإلزام كالأحكام، ولكنها ملزمة أساساً للسلطات العامة أى ولاة الأمر، حيث تظهر الحاجة إليها عند التنازع بينهم أو معهم، فيكون حل هذا التنازع كما قلنا سلفاً برده إلى كتاب الله وسنة رسوله الصحيحة، ليس من خلال "أحكام" الشريعة الملزمة بطبيعتها وذاتيتها، وإنما من خلال "مبادئ" الشريعة التى يتعين على ولاة الأمر وخاصة السلطة التشريعية فى الدولة الإسلامية الإلتزام بها فى تصرفاتهم سواء كانت تشريعات وقوانين أم أحكام قضائية أو أوامر إدارية أو سيادية أم معاهدات واتفاقيات دولية أو أية صورة أخرى لهذه التصرفات.
          وقد تواترت أحكام المحكمة الدستورية على الربط بين مبادئ الشريعة الإسلامية والأحكام القطعية فيها، فقضت صراحة بأن "الأحكام الشرعية التى اعتبرها الدستور المصدر الرئيسى للتشريع بموجب نص المادة (2) منه هى تلك القطعية فى ثبوتها ودلالتها، باعتبار أن هذه الأحكام وحدها هى التى لا تحتمل اجتهاداً، وليست كذلك الأحكام الظنية فى ثبوتها أو دلالتها أو فيهما معاً، وهى التى تتسع لدائرة الاجتهاد فيها تنظيماً لشئون العباد، وحماية لمصالحهم"(2)، وبأنه "لايجوز لنص تشريعى أن يناقض الأحكام الشرعية القطعية فى ثبوتها ودلالتها... والتى يكون الاجتهاد فيها ممتنعاً، لأنها تمثل من الشريعة الإسلامية مبادئها الكلية وأصولها الثابتة التى لا تحتمل تأويلاً أو تبديلاً، ومن غير المتصور تبعاً لذلك أن يتغير مفهومها بتغير الزمان والمكان، إذ هى عصية على التعديل ولا يجوز الخروج عليها أو الالتواء بها عن معناها... ولا كذلك الأحكام الظنية غير المقطوع بثبوتها أو بدلالتها أو بهما معاً، ذلك أن دائرة الاجتهاد تنحصر فيها ولا تمتد لسواها، وهى بطبيعتها متطورة تتغير بتغير الزمان والمكان، لضمان مرونتها وحيويتها، ولمواجهة النوازل على اختلافها"(3)، كما قضت المحكمة بأن "الاجتهاد وإن كان حقاً لأهل الاجتهاد ، فأولى أن يكون هذا الحق مقرراً لولى الأمر، يبذل جهده فى استنباط الحكم الشرعى من الدليل التفصيلى، ويعمل حكم العقل فيما لا نص فيه توصلاً لتقرير قواعد عملية يقتضيها عدل الله ورحمته بعباده، وتسعها الشريعة الإسلامية التى لا تضفى قدسية على آراء أحد من الفقهاء فى شأن من شئونها، ولاتحول دون مراجعتها وتقييمها وإبدال غيرها بها بمراعاة المصلحة الحقيقية التى لا تناقض المقاصد العليا للشريعة، فالآراء الاجتهادية لاتجاوز حجيتها قدر اقتناع أصحابها بها، ولايساغ تبعاً لذلك اعتبارها شرعاً مقرراً لايجوز نقضه..." (4)
ثانياً: مدلول اصطلاح الفقه الإسلامى:
          يخلط جانب كبير من علماء الدين الإسلامى بين أحكام ومصادر كل من الفقه الإسلامى والشريعة الإسلامية، فبعضهم يراها كلها فقهاً إسلاميا وآخرون يرونها جميعاً شريعة إسلامية، وفريق يرى أن الفقه الإسلامى هو العلم بالأحكام الشرعية أياً كان مصدرها، على حين يذهب فريق آخر منهم إلى أن الفقه الإسلامى هو تلك الأحكام ذاتها.
والصحيح فى تقديرنا أنه إذا كانت أحكام الشريعة الإسلامية وفقاً لما تقدم هى الأحكام القطعية ثبوتاً ودلالة فى القرآن والسنة الصحيحة، وهى بذلك لا تتغير ولاتتبدل لصلاحيتها لكل زمان ومكان وفى جميع الأحوال بسبب مصدرها الالهى، فيلتزم المشرع بتقنينها وإعمالها، فإن الفقه الإسلامى يتمثل فى الفهم البشرى للأحكام الشرعية غير القطعية، نصوصاً ومقاصداً، وهذا الفهم قابل للاختلاف والتغيير باختلاف الظروف والأحوال، فالفقيه يعبر عن فهمه لدلالة النصوص غير قطعية الدلالة، وقد يوافقه على ذلك الفهم غيره ويخالفه آخر، وقد يعدل نفس الفقيه عنه، فاجتهادات الفقهاء ليست هى الشريعة حتى وإن كانت مقبولة فى عصرهم، إذ قد تكون غير مقبولة فى عصرنا لتغير الأحوال، ومن ثم يرجع إليها للاستئناس أو الإسترشاد وليس للتقيد أو الالتزام، وبالتالى لا يتقيد بها المشرع إلا إذا رأى أنها تتوافق مع متطلبات العصر الحاضر، ولا تخالف بالطبع أحكام الشريعة الإسلامية القطعية، وتتسق مع مبادئ ومقاصد هذه الشريعة، وبذلك يمكن أن نطلق على هذه الأحكام الاجتهادية اصطلاح الفقه الإسلامى، ومصادرها الرأى والإجتهاد بصفة عامة.
وعليه يمكن تعريف الفقه الإسلامى بأنه تراث الأمة من الأحكام الاجتهادية الظنيه، وضعها واستنبطها المجتهدون وأصحاب الرأى فى العصور الماضية فى مسائل المعاملات التى اقتضت حاجة جماهير المسلمين ومصالحهم تشريعها، وذلك من خلال طرق الاستنباط والاجتهاد والاستدلال من الأدلة الكلية أو العلم بها. وتخضع هذه الأحكام لقاعدة "تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان والأحوال " لتكون قادرة دوماً على مواجهة المشكلات الواقعية، ولذلك فهى قواعد مرنة بطبيعتها- خلافاً لأحكام الشريعة الإسلامية- قابلة للتغيير بحسب اقتضاء المصلحة لذلك زماناً أو مكاناً أو حالاً، إذ أنها تتبدل مع تبدل المصلحة، وبالتالى تظل موضوعاً للنظر والاجتهاد واختلاف الفقهاء بصدد كل مالم يرد فيه من الشرع دليل يفيد اليقين، ولذلك فإن الفقه الإسلامى بطبيعته غير قابل للتقنين، لأن اختيار مذهب معين وتحويله إلى دين منزل وهو جهد انسانى بشرى معنى بما هو متغير بتغير المجتمعات ومطالب الانسان، من شأنه جمود هذا الفقه وإحداث الفرقة بين المسلمين وشيوع التقليد وحلوله محل الاجتهاد والتنكر للعمل وبراهينه وإهدار لنعمة التدبر وملكه البحث، مما أدى إلى محنة الفقه الإسلامى أو أزمته التى نعيشها حالياً ومن زمن بعيد والتى ترجع أساساً إلى اعتماد التقليد منهجاً للفقه بدلاً من الاجتهاد فانتهى حال المسلمين إلى التفرق شيعاً وأحزاباً، مما لا يجوز معه وصف هؤلاء المقلدين المتعصبين بالفقهاء.
          لذلك فالمطلوب اليوم بالحاح انقاذ الإسلام من النقل ومن التقليد والتبسيط والتسطيح واسترداده من الشارع والعصبية والشكليات الطقوسية، وعدم الوقوف عند اجتهاد هذه المذاهب . والوقوع فى اسرها، وترديد مقولة " هذا ما وجدنا عليه أباءنا أو أسلافنا". وهى مقولة حاربها القرآن بشدة ودحضها الرسول الكريم مراراً قولاً وعملاً، ومن ثم يلزم تجاوز هذه الاجتهادات إلى اجتهاد يتوافق مع العصر الذى نعيشه بلا تعصب مذموم ولا مذهبية ضيقة، بتفعيل العقل الفقهى ليكون عقل فهم ونقد لا مجرد حفظ وترديد، يدرك العلة ويرمى المقصد ويستهدف الغايات التى قررها المولى فى القرآن وجسدتها سنة المصطفى عليه السلام فى حياة الانسان ، بعيداً عن أساليب الساسة وحبائلهم، وبالتالى نبذ توظيف الدين سياسياً لأن الحاجة عميقة إلى دين لا يسيس وإلى سلطة لا تُدين، وصحيح الدين خلاف صحيح السياسة، ففى الدين صفاء ونقاء القصد والجوهر، خلاف السياسة التى لا نقاء ولا صفاء فى جوهرها أو مقاصدها، بل لغط ومناوشات وغوغائية وديموجاجية وارتزاق، فقد تسبب التوظيف السياسى للإسلام إلى ظهور ما يسمى بالإسلام السياسى بديلاً عن الإسلام الدينى ومختلفاً عن الإسلام بالمعنى التاريخى المستقر فى المجتمعات الإسلامية، تحت مزاعم التطوير والتحديث واستعادة روح الإسلام، ولكنه أدى فى حقيقة الأمر إلى الجمود على حرفية النص وإلى التعصب لاجتهاد بعينه، وهو شر من عصبية الجاهلية التى حاربها الإسلام، لأنه يضيع الحق ولا يعين على نصرته، ويؤدى إلى الخلط بين فكر شيخ المذهب وقدسية النص الدينى، بل ويقدس خطاب عالم الدين ويجعله أكثر أهمية من النص الدينى، فيقوم عالم الدين بالتفسير والافتاء والتدخل فى كل شئون حياتنا مما أسفر عن صورة مشوهة للإسلام والمسلمين، ولعل الحل يكمن – كما نادى الدكتور مصطفى كمال وصفى – بحظر قيام الفرق الدينية فى الدولة، أو كما قال الدكتور مصطفى الشكعة أن يكون الإسلام بلا مذاهب.
          وقد حرصت المحكمة الدستورية العليا فى مصر على ترسيخ ما تقدم بشأن الآراء الفقهية والاجتهادية ، فقضت فى عديد من أحكامها بضرورة الاجتهاد فى المسائل الاختلافية التى لا يجوز أن تكون أحكامها جامدة بما ينقص كمال الشريعة وحيويتها، ولمواجهة النوازل على اختلافها، تنظيماً لشئون العباد بما يكفل مصالحهم المعتبرة شرعاً، ولا يعطل بالتالى حركتهم فى الحياة، على أن يكون الاجتهاد دوماً وواقعاً فى إطار الأصول الكلية للشريعة بما لا يجاوزها ، ملتزماً ضوابطها الثابتة، متحرياً مناهج الاستدلال على الأحكام العملية والقواعد الضابطة لفروعها ، كافلاً صون المقاصد العامة للشريعة بما تقوم عليه من حفاظ على الدين والنفس والعقل والعرض والمال... فالاجتهاد ليس إلا جهداً عقلياً يتوخى استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، وهو بذلك لا يجوز أن يكون تقليداً محضاً للأولين، أو افتراء على الله كذباً بالتحليل أو التحريم فى غير موضعيهما، أو عزوفاً عن النزول على أحوال الناس والصالح من أعرافهم..... وإن إعمال حكم العقل فيما لا نص فيه، مرده أن شريعة الله جوهرها الحق والعدل، والتقيد بها خير من فساد عريض، وانغلاقها على نفسها ليس مقبولاً ولا مطلوباً، ذلك أنها لا تمنح أقوال أحد من الفقهاء فى شأن من شئونها قدسية تحول دون مراجعتها وإعادة النظر فيها، بل وإبدالها بغيرها. فالآراء الاجتهادية فى المسائل المختلف عليها ليس لها فى ذاتها قوة متعدية لغير القائلين بها، ولا يجوز بالتالى اعتبارها شرعاً ثابتاً متقرراً لايجوز أن ينقض ، وإلا كان ذلك نهياً عن التأمل والتبصر فى دين الله تعالى، وإنكاراً لحقيقة أن الخطأ محتمل فى كل اجتهاد، بل إن من الصحابة من تردد فى الفتيا تهيباً ومن ثم صح القول بأن اجتهاد أحد من الفقهاء ليس أحق بالاتباع من اجتهاد غيره، وربما كان أضعف الآراء سنداً، أكثرها ملاءمة للأوضاع المتغيرة، ولو كان مخالفاً لآراء استقر عليها زمناً... وتلك هى الشريعة الإسلامية فى أصولها ومنابتها، متطورة بالضرورة، نابذة الجمود،  لا يتقيد الاجتهاد فيها – وفيما لا نص عليه – بغير ضوابطها الكلية، وبما لا يعطل مقاصدها التى ينافيها أن يتقيد ولى الأمر فى شأن الأحكام الفرعية والعملية المستجيبة بطبيعتها للتطور، لآراء بذاتها لا يريم عنها، أو أن يقعد باجتهاده عند لحظة زمنية معينة تكون المصالح المعتبرة شرعاً قد تجاوزتها. (5)
          خلاصة القول اذن أنه لا يجوز الخلط فى الأحكام الشرعية الإسلامية بين الأحكام القطعية وتلك الظنية فى النصوص، فمن الضرورى التمييز بين الثابت بالنص والثابت بالاجتهاد، وبين الأصول والفروع، فالالتزام كل الالتزام للأحكام القطعية التى تمثل أحكام الشريعة الإسلامية، وما عداها فهى الاسترشاد والاستفادة، وبصفة عامة يلتزم أولى الأمر فى الدولة الإسلامية وعلى رأسهم الحاكم ومن يفوضه وأعضاء السلطتين التشريعية والقضائية بالنصوص القطعية ثبوتاً ودلالة فقط، سواء تضمنت أحكام شرعية أم مبادئ للتشريع، وهى التى يتوافر بشأنها الخصائص التى تميز الشريعة الإسلامية، على خلاف الأحكام الظنية الاجتهادية التى تندرج تحت مدلول الفقه الإسلامى، مما يدفعنا إلى التساؤل عما إذا صارت أحكام الشريعة الإسلامية ومبادئها مصدراً رسمياً للقانون يلتزم بها أو بالأحرى بعدم مخالفتها المشرع عند التشريع، كما يلتزم بها القضاء فى أحكامه باعتبارها من عناصر البناء القانونى فى الدولة، وفى ذات الوقت يمكن لكليهما – أى المشرع والقاضى – أن يستعين ويستفيد بالأحكام الاجتهادية أو الآراء الفقهية كمصدر مادى أو موضوعى للتشريع بالنسبة للمشرع، ولاستخلاص المبادئ العامة للقانون المستمدة منها لإعمالها فى الأحكام القضائية بالنسبة للقضاء، إذا كانت فى تقديره تتوافق وتتلاءم مع الفلسفة القانونية السائدة فى المجتمع، وكل ذلك على نحو ما سنفصله تالياً.

ثالثاً- الشريعة الإسلامية مصدر موضوعى للتشريع:
          يتجه الرأى الراجح فقهاً إلى أن القاعدة القانونية، لها على الأقل مصدر مادى أو موضوعى ، ويقصد به الحقائق الموضوعية التى تقدم جوهر القاعدة القانونية ومادتها الأولية، سواء كانت حقائق تاريخية أو اقتصادية أو سياسية أو ثقافية أو دينية، وغير ذلك من الحقائق التى تكون مضمون أو موضوع القاعدة، ومصدر رسمى وهو الذى يحدد شكل القاعدة القانونية ويضفى عليها صفة الوضعية أو الشرعية، ومن ثم يصبغ على القاعدة قوة الإلزام، وهى تتمثل فى مصر فى التشريع بصورة الثلاثة (الدستور والقانون واللائحة) والعرف والقضاء أو بالأحرى المبادئ العامة للقانون التى يستنبطها القضاء ويكشف عن وجودها ويقررها فى أحكامه.
          والمبادئ العامة للقانون هى فى الأصل مصدر مادى أو موضوعى للقانون، فهى تختلف عن مصادر القانون الأخرى فى أنها تسبق خلق القواعد القانونية الوضعية التى تعبر عن إرادة الدولة، إذ تمهد لهذه الإرادة الطريق الذى تعبر به عن نفسها، فمنها يستوحى المشرع القواعد والأحكام التى يضمنها التشريعات التى يسنها، وفيها يجد القاضى الحل العادل للنزاع المطروح أمامه إذا لم يعثر على قاعدة تشريعية يمكن تطبيقها عليه، بيد أن طبيعة المبادئ العامة للقانون تتغير عندما يستقبلها المشرع فى نصوص القانون أو الدستور مثلاً، وعندما يرجع القاضى إليها ويقررها فى أحكامه ويستند إليها فى تحديد القواعد القانونية اللازمة لحل المنازعات أمامه، فهنا تتحول المبادئ العامة إلى مصدر رسمى للقانون، حيث تغدو هذه المبادئ من القواعد التشريعية فى الحالة الأولى، وتعدو مصدراً مستقلاً ومتميزاً فى الحالة الثانية، ما دام عنصر الإلزام قد توفر فى هذه القاعدة القانونية.
          ولا ريب فى أن اتخاذ الشريعة الإسلامية مصدراً موضوعياً للتشريع هو أمر لا يحتاج إلى النص عليه، فأحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية ما زالت بعد النص- فى المادة (2) من الدستور فى مصر- كما كانت قبله مصدراً موضوعياً أو مادياً للتشريع، ولذلك ذهبت غالبية الفقه- فى ظل النص بأن مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسى للتشريع- إلى أن هذا النص ينصرف بطبيعة الحال إلى اتخاذها مصدراً موضوعياً، إذ لا يسبغ هذا النص على أحكام الشريعة قوة إلزام ذاتية، ولذلك فإن أحكامها مازالت بعد النص كما كانت قبله مجرد قواعد دينية لا تكسب قوة الإلزام التى تحظى بها قواعد القانون إلا إذا تدخل المشرع فقننها، وفى هذه الحالة تصبح تلك الأحكام ملزمة بتقريرها تشريعياً لا بذاتها، أى بسلطان الدولة لا بسلطان الدين، بدليل أن النص موجه إلى المشرع، لا إلى الكافة ولا إلى القضاء فهو يلفت نظر المشرع إلى وجوب استلهام قواعده فى كل ما يعرض له من أمور مما تقرره الشريعة الإسلامية.
          وبالرغم من تعديل النص على نحو ما أشرنا، إلا أن الغالبية الفقهية رأت أن هذا التعديل لا يغير من الأمر شيئاً، فانه فقط- كما ورد فى تقرير اللجنة الخاصة المشكلة فى مجلس الشعب للنظر فى مبدأ تعديل الدستور- يزيل من الأذهان أية مظنة فى عدم التزام المشرع بالالتجاء إلى مبادئ الشريعة الإسلامية لاستمداد الأحكام المنظمة للمجتمع منها فى كافة نواحى الحياة.
          وقد أيد القضاء بصفة عامة هذه الاتجاهات- فى ذلك الوقت- حيث ذهب القضاء الإدارى إلى اعتبار النص الوارد فى المادة الثانية من الدستور، خطاب موجه إلى السلطة التشريعية (المشرع) وأنه ليس للمحاكم أن تمتنع عن تطبيق مواد القوانين السارية بحجة تعارضها مع أحكام الشريعة الإسلامية، لما فى ذلك من تعرض لدستورية هذه المواد مما يخرج عن اختصاصها، حيث تختص بذلك المحكمة الدستورية العليا فى مصر دون غيرها.... ولأن نص المادة الثانية- حتى بعد تعديلها- هى خطاب موجه إلى السلطة التشريعية لدراسة الشريعة الإسلامية دراسة شاملة وتتولى بالتنظيم الأحكام التفصيلية، مدنية كانت أو جنائية أو اقتصادية أو دولية أو غيرها. (6)، وعلى السلطة التشريعية أن تبحث فى التشريعات الوضعية القائمة لتنقيتها من النصوص التى تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية، لتتدفق نقيه فى شرايين التشريعات المختلفة .... وإلى أن ينبثق هذا النظام التشريعى ويستكمل قوته الملزمة، فإن التشريعات السارية فى الوقت الحاضر، تظل نافذة بحيث لا يسوغ لأية جهة إدارية مخالفتها بحجة تنفيذ قواعد الشريعة الإسلامية، أو تضع من القواعد ما يتعارض مع هذه القوانين بمقولة تطابقها مع أحكام هذه الشريعة، وإلا أصبح النظام القانونى فى الدولة مسخاً تبرأ منه كل الشرائع. (7)
          أما عن القضاء الدستورى، فإن قضاء المحكمة العليا يختلف عن قضاء المحكمة الدستورية العليا، وخاصة بعد إجراء التعديل الدستورى عام 1980، فقد قضت المحكمة العليا فى 3/7/1976 بأن "ما نصت عليه المادة الثانية من الدستور بأن مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسى للتشريع تستهدف توجيه الشارع إلى استلهام قواعد التشريع من مبادئ الشريعة الغراء، أما تخير المشرع مذهب دون مذهب أو أرجح الأقوال فى مذهب من المذاهب وإلزام القضاء التقيد به، فهو من المسائل التى يترخص فيها بسلطة تقديرية وفقاً لما يراه ملائماً لظروف المجتمع بلا معقب عليه فى تقديره، إذ يسوغ للشارع- بما له من سلطان- أن يجمع الناس على رأى واحد يرفع به الخلاف ويقيد به القاضى كى ينزل الجميع على حكمه ويأثم من يخالفه لأن طاعة ولى الأمر واجبة فيما ليس فيه مخالفة للشرع ولا معصية، وأساس هذا الجمع هو تيسير تعريف القاضى والمتقاضى على السواء بما يحكم أعمال الناس من قواعد، تحقيقاً لاستقرار العلاقات وثبات الأحكام وإرساء للحق والعدل والمساواة. (8)
          ويبدو جلياً من قضاء المحكمة العليا أنها رأت من مبادىء الشريعة الإسلامية مصدراً موضوعياً خالصاً للمشرع، الذى يتمتع بسلطة تقديرية فى ظل هذا النص فى اختيار مذهباً دون آخر أو أرجح الأقوال فى مذهب من المذاهب وفقاً لما يراه ملائماً لظروف المجتمع بلا معقب عليه فى تقديره، مما يؤكد بوضوح أن هذه المحكمة تفسر الشريعة الاسلامية بأنها الفقه الاسلامى بمذاهبه المختلفة بعيداً عن فكرة الأحكام القطعية ومدلول المبادىء، وهو الأمر الذى نلاحظ أن المشرع الدستورى فى دولتى الكويت والبحرين قد اعتنقاه، حيث حددا فى المذكرة التفسيرية للدستور الكويتى عام 1962 والدستور البحرينى عام 2002، وهى ملزمة للكافة ولها قوة الدستور فى كلتا الدولتين وفقاً لنظامهما الدستورى. مدلول "الشريعة الاسلامية" بأنها تعنى "الفقه الاسلامى" دون تحديد لفقه مذهب محدد أو اجتهاد معين ليستمد منه المشرع فيهما تشريعاته، بما لايدع مجالاً للشك فى أن الشريعة الاسلامية فى هاتين الدولتين ليست سوى أحد المصادر الموضوعية أو المادية التى يمكن للمشرع الالتجاء إليها أو لغيرها عندما يقوم بسن تشريعاته فيهما، وهو الأمر الذى يفرغ فى تقديرنا هذا النص الدستورى من كل مضمون.
          لذلك رأى المشرع الدستورى فى مصر بمناسبة تعديل دستور 1971 لأول مرة عام 1980 أن الوقت قد حان لإزالة هذا الخلط بين الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامى(9) من خلال إعادة صياغة نص المادة الثانية من الدستور لتكون "مبادىء الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع"، واستطاعت المحكمة الدستورية العليا بحصافتها المشهود بها لها، أن تضع الضوابط والمفاهيم الصحيحة لهذا النص المعدل، والتى رأينا فى مؤلفنا" تدرج القواعد القانونية ومبادىء الشريعة الإسلامية" المنشور عام 1985، أن مقتضاها أن ترتقى مبادىء الشريعة الإسلامية لتكون مصدراً رسمياً للقانون، إلى جانب كونها مصدراً موضوعياً للتشريع.
رابعاً – مبادىء الشريعة الإسلامية مصدر رسمى للقانون:
من المؤكد أن قراءة نص المادة الثانية من الدستور تعطى انطباعاً أولياً بأن الدستور قد اعتبر الشريعة الإسلامية مصدراً موضوعياً رئيسياً للتشريع، بل والمصدر الموضوعى الرئيسى له لأن إصطلاح مصدر للتشريع يختلف فى دلالته عن القول بأنها مصدر للقانون. غير أننا نتفق مع استاذنا الدكتور عبدالحميد متولى – رحمه الله - فى أن مبادىء الشريعة الإسلامية تمثل نوعين من المصادر: فهى تعد أولاً مصدراً موضوعياً وخاصة مصدراً تاريخياً.... وتعد ثانياً مصدراً رسمياً (بداهة) حيث إن النص عليها فى الدستور كمصدر للتشريع قد أسبغ على مبادئها (أى الشريعة) صفة الالزام.
والحقيقة أن المصادر الموضوعية للتشريع يجوز أن تكتسب صفة الالزام بالنسبة للمشرع على وجه الخصوص، ولكنها لاتكون قابلة للإعمال بذاتها كقواعد قانونية عامة مجردة إلا إذا أخذ المشرع بها وأتم صياغتها صياغة قانونية أو بالأحرى قام بتقنينها ومن ثم حولها إلى قواعد تشريعية قابلة للتطبيق المباشر، كما أنها تتحول أيضاً إلى مصدر رسمى للقانون إذا أقر القضاء باعتبارها من المبادىء العامة للقانون وكشف عن استقرارها فى ضمير الجماعة باعتبارها قواعد قانونية أساسية تعكس مقومات المجتمع العليا، أو على الأقل باعتبارها قواعد عرفية ملزمة لمن تعارف عليها من أفراد أو سلطات فى المجتمع.
وعليه فإن المصادر الموضوعية تتحول إلى مصادر رسمية إذا توافر لها عنصر الإلزام إما عن طريق التشريع إذا كان المشرع ملتزماً باتباعها، أو عن طريق العرف أو القضاء من خلال المبادىء العامة للقانون. والشريعة الإسلامية بمعناها السابق شرحه وخاصة الأحكام القطعية فيها يتوافر بشأنها بغير خلاف خصائص القاعدة القانونية بما فيها عنصر الالزام، وبالتالى تكون قابلة للإعمال بذاتها مثل كافة القواعد القانونية الأخرى، أما مبادىء الشريعة الإسلامية والتى تتضمن أيضاً مقاصدها فإنها ولئن تمتعت بصفة الإلزام تجاه المشرع بصريح نص الدستور إلا أن ذلك لاينفى صفتها الملزمة تجاه القاضى أيضاً بوصفها من المبادىء العامة للقانون.
ويسترعى الانتباه فى هذا الصدد أن المشرع الدستورى قد يعترف صراحة بأن الشريعة الإسلامية بصدد بعض الموضوعات تعد مصدراً رسمياً، وهو الأمر الذى يستفاد من نص المادة (11) من دستور 1971 مثلاً، وبموجبه "تكفل الدولة التوفيق بين واجبات المرأة نحو الأسرة وعملها فى المجتمع ومساواتها بالرجل فى ميادين الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية دون إخلال بأحكام الشريعة الإسلامية" بما يعنى أن الدولة بسلطاتها الثلاثة لا تستطيع أن تخرج على أحكام الشريعة الإسلامية فى الموضوعات المشار إليها فى هذا النص، وإلا كان عملها المخالف – سواء كان تشريعاً أو عملاً إدارياً أو حكماً قضائياً- باطلاً لمخالفة الدستور بسبب الإخلال بأحكام الشريعة الإسلامية التى تتمتع فى هذه الحالة بقوة الزامية أعلى من القانون إذا اتصلت بتلك الموضوعات.
          ووفقاً لما تقدم اضطرد قضاء المحكمة الدستورية العليا على أن "ما نص عليه الدستور فى مادته الثانية – بعد تعديلها فى سنة 1980 – من أن مبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع، إنما يتمخض عن قيد يجب على السلطة التشريعية أن تتحراه وتنزل عليه فى تشريعاتها الصادرة بعد هذا التعديل، فلا يجوز لنص تشريعى أن يناقض الأحكام الشرعية القطعية فى ثبوتها ودلالتها، باعتبار أن هذه الأحكام وحدها هى التى يكون الاجتهاد فيها ممتنعاً لأنها تمثل من الشريعة الإسلامية مبادئها الكلية وأصولها الثابتة التى لاتحتمل تأويلاً .. وتنصب ولاية المحكمة الدستورية العليا على مراقبة التقيد بها وتغليبها على كل قاعدة قانونية تعارضها، ذلك أن المادة الثانية من الدستور تقدم على هذه القواعد أحكام الشريعة الإسلامية فى أصولها ومبادئها الكلية، إذ هى إطارها العام وركائزها الأصلية التى تفرض متطلباتها دوماً بما يحول دون اقرار أيه قاعدة قانونية على خلافها، وإلا اعتبر ذلك تشهياً وإنكاراً لما علم من الدين بالضرورة، ولا ينطبق ذلك على الأحكام الظنية غير المقطوع بثبوتها أو دلالتها أو بهما معاً، ذلك أن دائرة الاجتهاد تنحصر فيها ولا تمتد لسواها ........ على أن يكون الاجتهاد دوماً...... كافلاً صون المقاصد العامة للشريعة بما تقوم عليه من حفاظ على الدين والنفس والعقل والعرض والمال. (10)
          وتبريراً لقصر التزام المشرع فيما يقره من النصوص التشريعية بأن تكون غير مناقضة لمبادئ الشريعة على التشريعات الصادرة بعد تعديل نص المادة الثانية من الدستور عام 1980، قضت المحكمة الدستورية العليا بأن الدستور اعتبر مبادئ الشريعة الإسلامية "أصلاً يتعين أن ترد إليه هذه النصوص أو تستمد منه لضمان توافقها مع مقتضاه ، ودون ما إخلال بالضوابط الأخرى التى فرضها الدستور على السلطة التشريعية وقيدها بمراعاتها والنزول عليها فى ممارستها لاختصاصاتها الدستورية ، ولما كان المقرر كذلك أن كل مصدر تُرد إليه النصوص التشريعية أو تكون نابعة منه ، يتعين بالضرورة أن يكون سابقاً فى وجوده على هذه النصوص ذاتها ، فإن مرجعية مبادئ الشريعة الإسلامية التى أقامها الدستور معياراً للقياس فى مجال الشرعية الدستورية ، تفترض لزوماً أن تكون النصوص التشريعية المدعى إخلالها بمبادئ الشريعة الإسلامية ـ وتراقبها هذه المحكمة - صادرة بعد نشوء قيد المادة الثانية من الدستور التى تقاس على مقتضاه ، بما مؤداه: أن الدستور قصد بإقراره هذا القيد أن يكون مداه من حيث الزمان منصرفاً إلى فئة من النصوص التشريعية دون سواها ، هى تلك الصادرة بعد نفاذ التعديل الذى أدخله الدستور على مادته الثانية ، بحيث إذا انطـوى نص منها على حكم يناقض مبادئ الشريعة الإسلامية ، فإنه يكون قد وقع فى حومة المخالفة الدستورية، ولما كان هذا القيد هو مناط الرقابة التى تباشرها هذه المحكمة على دستورية القوانين واللوائح ، فإن النصوص التشريعية الصادرة قبل نفاذه تظل بمنأى عن الخضوع لحكمه "(11) .
خامساً – خلاصة البحث ونتائجه:
          محصلة القول مما تقدم من قراءة متأنية للمادة الثانية من الدستور أن أحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية ليست فقط مصدراً موضوعياً للتشريع، وإنما باتت كذلك مصدراً رسمياً للقانون وذلك على النحو الآتى:
          1 – أحكام الشريعة الإسلامية الملزمة هى فقط الأحكام القطعية فى ثبوتها ودلالتها وبذلك تعد مصدراً رسمياً للقانون، وهى فى ذلك لا تحتاج إلى مرجعية لتحديدها أو لتفسيرها، فهى بطبيعتها قطعية الدلالة، ولكن لأن هذه الأحكام هى صلب الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة قطعية ، ونزولاً على مقتضى الآية الكريمة الواضحة "اطيعوا الله وأطيعوا الرسول" وهو أمر صريح للذين أمنوا، فإن الأمر مع صعوبات الحياة المعاصرة يستلزم بالحاح أن يتم تجميع هذه الأحكام القطعية الإلهية فى الكتاب والسنة وتقنينها وصياغتها صياغة قانونية بسيطة لضمان علم الكافة بها سواء من الأفراد أم السلطات، ولعلنا نناشد مؤسسة الأزهر الشريف أن تتولى هذه المسئولية وتكون لها الأولوية القصوى فى نشاطه وعمله وخاصة إذا تم إقرار المادة الثانية من الدستور القادم كما هى عليه الآن، وشريطة ألا يكون ثمة خلاف حقيقى حول قطعية هذه الأحكام الشرعية، بما يؤدى إلى توحيد كلمة المسلمين حولها، بعيداً عن الفرقة والتعصب المذهبى المقيت.
          2 – المبادئ والمقاصد التى تحويها الشريعة الإسلامية وتمثل أصولاً وكليات ثابتة وقطعية هى مصدر موضوعى ملزم للمشرع يلتزم باتباعها فى تشريعاته، إضافة إلى التزام القضاء بتطبيقها فى المنازعات المطروحة أمامه باعتبارها من المبادئ العامة للقانون وخاصة فى حالة غياب النصوص التشريعية.
          3 – الأحكام الشرعية ظنية الثبوت والدلالة وكذلك الأحكام ظنية الثبوت ولو كانت قطعية الدلالة، تعد مصدراً موضوعياً غير ملزم لولاة الأمر فى الدولة من الحكام أو السلطات العامة، سيما السلطتين التشريعية والقضائية، فهى محل لاجتهاد ولى الأمر ويجوز التنازع معه عندما يثور الشك حول مدى التزامهم بالمبادئ والمقاصد الشرعية للتشريع الإسلامى.
          4 – الأحكام الشرعية قطعية الثبوت ظنية الدلالة هى فى الأصل مصدر موضوعى غير ملزم ، ولكنها فى تقديرنا لها قدر من الإلزام، حيث يتعين التقيد بها وإعمالها على نحو ما يراه ولى الأمر بصدد دلالتها ولكن دون مخالفة هذه الدلالات والخروج عنها باختيار دلالة أخرى مالم تكن متوافقة تماماً مع المبادئ والمقاصد التى يتعين التزامها فى التشريع الإسلامى، فإذا كان اجتهاد ولى الأمر فى هذا الإطار تعين طاعته نزولاً على أمره سبحانه وتعالى بطاعة أولى الأمر دون أن يخل ذلك بإمكانية التنازع معه فى اجتهاده.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع
(1)      نصت المادة (2) من دستور 1971 بعد تعديله عام 1980 على أن "مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع" وهو ذات النص الوارد فى الإعلان الدستورى الصادر فى 30/3/2011.
          كما تجدر الإشارة إلى أن المشرع الدستورى المصرى يتمسك بأن يكون الاصطلاح هو "مبادئ الشريعة الإسلامية" وليست أحكامها أو "الشريعة الإسلامية" بصفة عامة مثلما فضل المشرع الدستورى فى الدول العربية المشار إليها .
(2)      حكمها فى 6/7/2008 قضية 111 لسنة 27 ق. "دستورية"، منشور بالجزء (12) مجلد (2) من مجموعة أحكام المحكمة ص 1150.
(3)      حكمها فى 19/12/2004 قضية 119 لسنة 21 ق. "دستورية"، منشور بالجزء (11) مجلد (1) من مجموعة أحكام المحكمة ص 1143.
(4)      حكمها فى 5/7/1997 قضية 82 لسنة 17 ق. "دستورية"، منشور بالجزء (8) من مجموعة أحكام المحكمة ص 693- راجع كذلك حكمها فى 6/1/1996 قضية 5 لسنة 8 ق. "دستورية" منشور بالجزء (7) ص 347.
(5)      راجع أحكامها فى 15/5/1993 قضية 7 لسنة 8 ق . دستورية، وفى 26/3/1994 قضية 29 لسنة 11 ق . دستورية ، وفى 6/1/1996 قضية 5 لسنة 8 ق . دستورية ، وفى 16/11/1996 قضية 26 لسنة 16 ق . دستورية ، وفى 5/7/1997 قضية 82 لسنة 17 ق . دستورية ، وفى 3/5/1997 قضية 18 لسنة 14 ق . دستورية ، وفى 5/12/1998 قضية 28 لسنة 15 ق . دستورية.
(6)      المحكمة الإدارية العليا فى 3/4/1982 القضية 239 لسنة 27 ق، مجلة العلوم الإدارية 1 لسنة 26 العدد الأول يونيو 1984 ص 163.
(7)     المحكمة الإداريـة العليا فى 24/11/1991 القضيـة 483 لسنة 34 ق ، المجموعة السنة 37 ص 245.
(8)      المحكمة العليا فى 3/7/1976 القضية 10 لسنة 5 ق. دستورية، المجموعة الجزء الأول ص 432.
 (9)   وتأكيداً لذلك ورد فى تقرير اللجنة الخاصة التى أعدت مشروع تعديل المادة الثانية من الدستور عام 1980 بشأن مقاصد هذا التعديل، أنها "تلزم المشرع بالالتجاء إلى أحكام الشريعة الإسلامية للبحث عن بغيته فيها مع الزامه بعدم الالتجاء إلى غيرها، فإذا لم يجد فى الشريعة الإسلامية حكماً صريحاً، فان وسائل استنباط الأحكام من المصادر الاجتهادية فى الشريعة الإسلامية تمكن المشرع من التوصل إلى الأحكام اللازمة والتى لاتخالف الأصول والمبادىء العامة للشريعة...".
وفى تقديرنا أن المشرع الدستورى فى هذا التقرير أراد أن يميز بين المصادر الاجتهادية فى الشريعة الإسلامية والتى تمثل الفقه الإسلامى وبين أحكام الشريعة الإسلامية الصريحة ويقصد بها الأحكام القطعية ثبوتاً ودلالة بما يمكن وصفها بأنها صريحة وهذه هى أحكام الشريعة الإسلامية بمعناها الفنى الدقيق.
(10)  حكمها فى 1/7/2007 القضية 70 لسنة 22 ق. دستورية، المجموعة الجزء (12) المجلد الأول ص 580.
(11)  حكمها فى 1/7/2007 القضية 26 لسنة 22 ق . دستورية ، المجموعة الجزء (12) المجلد الأول ص 572.


هناك تعليق واحد: