الجمعة، 4 ديسمبر 2015

الرقابة الدستورية على اللائحة البرلمانية

الرقابة الدستورية على اللائحة البرلمانية

بقلم المستشار الدكتور / عبد العزيز محمد سالمان

رئيس هيئة المفوضين بالمحكمة الدستورية العليا

منشور بمجلة الدستورية - العدد الحادي والعشرون – السنة العاشرة – أبريل 2012

يحدث كثيراً في فترات التحولات السياسية أن تنداح الفواصل الدستورية بين السلطات بحيث تختلط وظائف السلطة التشريعية بأمور التنفيذ والعكس الأمر الذي يلقى على عاتق الفقه الدستوري الكثير من المهام التي يجب أن يبادر إليها دون تهادن أو تهاون، لعل أهمها إعادة التذكير بمبدأ فصل السلطات، ووضع الفواصل والضوابط الدقيقة بين السلطات ، وبيان أوجه التعاون بينها. والفكر الثوري مهما بلغ - في الدول الديمقراطية أو تلك التي تتحول نحو الديمقراطية الحقيقية - لا يمكن أن يجعل من البرلمان قاضياً، ولا من القاضي مشرعاً ولا يجعل للسلطة التنفيذية دوراً في ممارسة أي من هاتين الوظيفيتين إلا إذا خولها الدستور هذا الدور.
فيجب أن نحافظ على الحدود الدستورية بين السلطات الثلاث، وأن نحفظ لكل سلطة استقلالها التام مع ضبط حدودها ضبطاً كاملاً يحول دون تغول تخوم تلك السلطة.
ويأتي البرلمان - بمجلسيه - في مقدمة هذه السلطات الثلاث التي ينبغي أن يُكفل له الاستقلال الكامل في أداء وظائفه، ونرده - في الوقت ذاته - عن تجاوز حدود هذه الوظيفة.
والبرلمان - في فترات التحول السياسي - هو الذي يلعب الدور الرئيسي في التحول الديمقراطي، فلا يمكن تحقيق الديمقراطية الحقيقية دون برلمان يمثل المواطنين تمثيلاً حقيقياً ويعبر عن مصالحهم وتطلعاتهم.
ولا يمكن أن يكون البرلمان عنصر قوة للديمقراطية إلا إذا كان ممثلاً للجماهير، أي مفرزاً نتيجة انتخابات حرة ونزيهة، وبالتالي فإن الديمقراطية تهدف إلى قيام برلمان شعبي سليم، كما أنها تعتمد في الوقت ذاته على وجود برلمان قوي.
ونحن نريد من برلمان الثورة أن يكون برلماناً قوياً مستقلاً، نريد أن ننسى برلمان ما قبل الثورة الذي كان مهمشاً وليس له دور حقيقي في التشريع ولا في الرقابة على أعمال الحكومة، فلم يكن دوره سوى دور شكلي يوقع على ما يريده الحاكم، يخلو من التعددية الحزبية، وإن وجدت فلا تكون إلا تجميلاً لوجه الحزب الحاكم، لها دور مرسوم لا تتجاوزه.
وتناول كيفية إنشاء برلمان قوي مستقل أمر يخرج عن نطاق بحثنا، وإنما نتناول جزئية نراها ضرورة لتدعيم مركز البرلمان وتأكيد استقلاله ألا وهي "لائحة البرلمان" وكيفية صدورها متوافقة مع الدستور؟ وما هي طبيعتها القانونية، وكيف توضع لوائح البرلمان في النظم الدستورية المختلفة، وما هي المشكلات التي تثيرها محاولات رقابة دستوريتها في مصر، وما هو العلاج الناجع الذي يتيح لنا مراقبة دستورية هذا النوع من القواعد القانونية؟.
اللوائح الداخلية للبرلمان:
إذا كان الدستور يتمثل في مجموعة القواعد القانونية التي تنظم السلطات داخل الدولة والعلاقة بين هذه السلطات بعضها البعض، وحقوق الأفراد وحرياتهم.......
فإن اللائحة الداخلية للبرلمان تشترك مع الدستور في القيام بجانب كبير من هذه الوظيفة ، إذ تتولى التنظيم الداخلي لواحدة من أهم السلطات الثلاثة، بل أهمها على الإطلاق ألا وهي السلطة التشريعية، ذلك أن اللائحة الداخلية للبرلمان تتضمن القواعد المتعلقة بتشكيل واختصاصات الأجهزة الرئيسية له، وكيفية أداء البرلمان وأجهزته للوظيفة التشريعية والرقابية المنوطة به، والإجراءات والوسائل اللازمة للقيام بها، كنظام توجيه الأسئلة وطرح موضوع عام للمناقشة، وإبداء الرغبات وطلبات الإحاطة ونظام تقديم الاستجواب وموعد مناقشته وأصول وإجراءات طرح الثقة بالحكومة سواء كلها أو تحديد مسئولية عضو بعينه من أعضاءها وإجراءات التحقيقات البرلمانية.... الخ ما تتناوله اللوائح الداخلية بالتنظيم.
فالموضوعات التي تتناولها اللائحة البرلمانية لا شك أنها ذات طبيعة دستورية، وكان من المفترض أن تنظمها نصوص الوثيقة الدستورية ذاتها (2) .
- وبعض الدساتير المقارنة بالفعل تتضمن كثير من التفصيلات التي تحتويها لائحة البرلمان.
ومن الأمثلة على ذلك المادة (44) من الدستور اللبناني المعدل سنة 1990 حيث تجرى على أن "في كل مرة يجدد المجلس انتخابه يجتمع برئاسة أكبر أعضائه سناً ويقوم العضوان الأصغر سناً بوظيفة أمين. ويعمد إلى انتخاب الرئيس ونائب الرئيس لمدة ولاية المجلس كل منهما على حدة بالاقتراع السري وبالغالبية المطلقة من أصوات المقترعين. وتبني النتيجة في دورة اقتراع ثالثة على الغالبية النسبية، وإذا تساوت الأصوات فالأكبر سناً يعد منتخباً.
" وفي كل مرة يجدد المجلس انتخابه، وعند افتتاح عقد تشرين الأول من كل عام، يعمد المجلس إلى انتخاب أمينين بالاقتراع السري وفقاً للغالبية المنصوص عليها في الفقرة الأولى من هذه المادة.
"وللمجلس، ولمرة واحدة، بعد عامين من انتخاب رئيسيه ونائبه وفي أول جلسة يعقدها، أن ينزع الثقة من رئيسه أو نائبه بأكثر من الثلثين من مجموع أعضائه بناء على عريضة يوقعها عشرة نواب على الأقل، وعلى المجلس، في هذه الحالة، أن يعقد على الفور جلسة لملء المركز الشاغر".
كذلك ما أوردته المادة (131) من الدستور المصري سنة 1971 من أن "لمجلس الشعب أن يكون لجنة خاصة أو يكلف لجنة من لجانه بفحص نشاط إحدى المصالح الإدارية أو المؤسسات العامة، أو أي جهاز تنفيذي أو إداري، أو أي مشروع من المشروعات العامة، وذلك من أجل تقصي الحقائق وإبلاغ المجلس بحقيقة الأوضاع المالية أو الإدارية أو الاقتصادية أو إجراء تحقيقات في أي موضوع يتعلق بعمل من الأعمال السابقة.
وللجنة في سبيل القيام بمهمتها أن تجمع ما تراه من أدلة، وأن تطلب سماع من ترى سماع أقواله، وعلى جميع الجهات التنفيذية والإدارية أن تستجيب إلى طلبها، وأن تضع تحت تصرفها لهذا الغرض ما تطلبه من وثائق أو مستندات أو غير ذلك".
ونلمح ذات النهج في دستور السودان الصادر عام 2005 حيث تنص المادة 87/1 منه على أن ... تسقط العضوية في الهيئة التشريعية القومية بقرار يصدره المجلس المعني في أي من الحالات التالية:
أ - العلة العقلية أو الجسدية المعقدة.
ب- الإدانة في جريمة تتعلق بالأمانة أو الفساد الأخلاقي.
ج- الغياب عن دورة كاملة للمجلس المعني دون إذن أو عذر مقبول.
د- الإعلان في المجلس المعني عن تقديمه استقالته مكتوبة.
هـ- تغيير الانتساب السياسي أو الصبغة السياسية أو الحزب الذي انتخب العضو بموجبه لعضوية المجلس الوطني.
و- الإعفاء بموجب قرار يصدره المجلس التشريعي الولائي المعني بأغلبية ثلثي أعضائه في حالة الممثلين في مجلس الولايات.
ز- تولي منصب وزير في حكومة جنوب السودان أو منصب والي أو منصب وزير ولائي.
ح- الوفاة.
والسلطة التأسيسية شعوراً من جانبها بأهمية ما تضمنه اللائحة من موضوعات تنتظمها تجد نفسها مضطرة إلى التخلي عن دورها  في الوقوف عند العموميات والهبوط إلى وصف الجزئيات وتكثر هذه الظاهرة في الحالات التي تمر فيها الدولة بتحول في فكرها السياسي (3) .
- أهمية الرقابة على دستورية اللائحة البرلمانية:
تتميز قواعد اللوائح البرلمانية بأنها تنظم العمل الداخلي للبرلمان كمؤسسة نيابية من ناحية، ومن الناحية الأخرى فإنها القواعد الحاكمة لقيام أعضاء البرلمان بممارسة مهامهم البرلمانية من تشريع ورقابة على عمل السلطة التنفيذية (الحكومة).
وشأنها شأن أي أطر قانونية، يجب النظر إليها من الزاويتين القانونية/ الشكلية والسياسية/الواقعية معاً (4).
- فالنظام الداخلي للمؤسسة التشريعية من حيث إنه ينظم سير مؤسسة دستورية ذات أهمية خاصة في النظام السياسي تكون له تأثيرات سياسية كبرى حتى إن بعض الفقهاء الدستوريين الكلاسيكيين اعتبروه بسبب ذلك "دستوراً بشكل آخر وامتداداً له أو تفسيراً"، إذ أنه بطبيعته الدستورية يجاوز البعد التنظيمي ويفوقه، فما ينتظم علاقات المجلس التشريعي بالحكومة لا يمكن أن يكون قرارات تنظيمية بالمعنى التقليدي وإنما تكون ذات طبيعة دستورية.
فضلاً عن أن وضع الأنظمة الداخلية قد يكون مدخلاً لمخالفة أحكام الدستور أو لمجاوزة تفسير النصوص الدستورية تفسيراً سليماً.
وتأسيساً على ذلك وبالرغم من النص في معظم الدساتير على ضرورة أن تستقل البرلمانات بوضع لوائحها الداخلية باستقلال تام ترسيخاً لمبدأ فصل السلطات، فإن كثيراً من هذه الدساتير قد قيدت هذه السيادة وهذا الاستقلال بوجوب إخضاع اللائحة لمراقبة دستوريتها (5) .
ولعل الهدف من ذلك هو الحيلولة دون أن يتخذ النظام الداخلي للبرلمان ذريعة لتوسيع اختصاصاته أو التعدي على اختصاصات الحكومة أو عرقلة نشاطها فضلاً عن رد البرلمان إلى الحدود الدستورية المرسومة له.
- فأهمية النظام الداخلي للبرلمان بمجلسيه، وأهمية الرقابة على دستوريته، لا يمكن إنكارها ولا التشكك في جدواها والعمل على تنظيمها ومحاولة تطويرها مع تطور النظام السياسي للدولة محتم على من يبتغي تجسيد قيم السيادة الشعبية والحرية والمساواة وتعميق المشاركة السياسية. ذلك أن البرلمانات هي قاعدة النظام الديمقراطي المعاصر.
فالبرلمان هو المؤسسة الأقرب ارتباطاً بالجمهور وانفتاحاً عليه، حيث تدور مناقشاته على تنوعها في مناخ من الشفافية والعلنية، على الأقل إذا قورن بالسلطة التنفيذية. وبعبارة أخرى فإن السمة المميزة للبرلمان أحد مؤسسات الحكم الديمقراطي هي أن مناقشاته تكون - عادة - معروضة أمام الجمهور.
كما أن البرلمان هو المؤسسة الوحيدة في نظام الحكم التي تجمع بين وظيفيتين رئيسيتين، فهو هيكل نيابي يعبر عن مشاعر وآراء المواطنين، كما أنه من الناحية الأخرى آلية تشريعية تصنع القوانين التي تحكم الدولة بأسرها.
ولعل اجتماع هاتين الوظيفتين في البرلمان هو مصدر أهميته الفريدة بين مؤسسات النظام الديمقراطي. والبرلمان هو المؤسسة التمثيلية الأساسية في الدولة، وقد ارتبط بذلك قيامه بدور هام في مجال الوعي السياسي وخلق رأي عام متطور. والبرلمانات فوق هذا وذاك تتميز بأنها تعمل في إطار من مبدأ المساواة بين جميع أعضائها لا فرق بين أغلبية أو معارضة، لا فرق بين رئيس المجلس وأحد الأعضاء، فالحقوق والواجبات البرلمانية واحدة (6).
ولأن البرلمانات بهذه الأهمية فإن القواعد التي تشكل النظام الداخلي لها وكيفية مباشرة أعضاؤها لوظائفهم وانعكاسات كل ذلك على السلطات الأخرى وحقوق المواطنين يكون لها من الأهمية القصوى بما يكون معه الحرص على أن تأتي هذه القواعد نموذجاً لتوافقها مع الدستور وحرصها على المساواة وحرية التعبير والتعاون بين البرلمان وسائر سلطات الدولة ويتجسد كل ذلك في:
1- أن التنظيم اللائحي للمناقشات يجب ألا يتعارض مع حرية التعبير عن التعبير عن الرأي والفكر لجميع الأعضاء ومع تنوع الاتجاهات والانتماءات السياسية والحزبية داخل البرلمان. وفي هذا الشأن فإن الاختلافات الحزبية أو الانتماءات السياسية لا تنتقص من الحق الطبيعي في أن يكون للجميع وعلى قدر المساواة حق المشاركة في اللجان النوعية والخاصة داخل كل مجلس، وحق الاشتراك في قيادة البرلمان، ولجانه.
2- أن التنظيم اللائحي للمناقشات وإصدار القرارات البرلمانية ما هو إلا جزء من منظومة متكاملة تأتي فيها اللائحة - على نحو ما سنرى - في مرتبة قانونية تلي الدستور والقانون ومن ثم فإن من حق العضو أن يحتج بأحكام الدستور والقانون إذا وجد أن اللائحة لا تتيح له حرية النقاش أو تحول دون إبداء رأيه بحرية تامة.
3- أن التنظيم اللائحي يجب أن يضمن التعاون بين البرلمان والمؤسسات السياسية والدستورية الأخرى ويحول دون الافتئات على الحقوق الدستورية لأي منها.
4- أن تنظيم ووضع اللائحة الداخلية يجب ألا يكون معقداً إلى درجة يصبح فهمها والتعامل معها أمراً يصعب على الكثيرين من المتخصصين وأهل الخبرة أنفسهم، وهو أمر يتناقص مع الوظيفة المفترض للائحة ودورها في التيسير على العضو وتمكينه من ممارسة مهامه، فلا يصبح أمامه سوى أحد طريقين:
إما الاكتفاء بالحد الأدنى من دراسة واستيعاب اللائحة للوفاء بالمتطلبات الشكلية للعضوية (مثل نظام الحضور، وطريقة التصويت) أو بذلك جهد كبير في التكييف مع التعقيدات اللائحية مستخدماً في ذلك قدرات خاصة (مهنية، أو ذاتية أو حزبية)، وهي مسألة لا تتوافر للكافة، أو معتمداً على الأمانة العامة للبرلمان، الأمر الذي يزيد من الاعتماد على الفنيين وربما يحول العضو إلى ممثل للأدوار وليس فاعلاً مستقلاً (7) .
- الطبيعة القانونية للوائح البرلمانية ومكانتها:
تنظم اللوائح البرلمانية أموراً ذات أهمية خاصة، جلها من طبيعة دستورية خالصة، لكن لا تستطيع الدساتير أن تتضمنها لخروجها على طبيعة الدساتير التي تضع الفلسفات الكبرى والخطوط العريضة والقواعد الكلية لسائر الأمور التي تنظم أحوال الدولة، تاركة التفصيلات والقواعد الجزئية للقواعد القانونية الأخرى على اختلاف درجاتها وهذا الكلام أصدق ما يكون في ظل الدساتير الجامدة التي تتطلب إجراءات خاصة في وضعها وتعديلها. وإذا كانت اللوائح الداخلية لمجلس البرلمان تصاغ في صورة قواعد عامة ومجردة تنظم عمل البرلمان وكيفية مباشرة أعضائه لحقوقهم وواجباتهم ولا تتناول أموراً خاصة بكل عضو بصورة فردية، أو تنظم مركزاً ذاتياً لأي من أعضائه أو رئيسه، فإنها من الناحية الموضوعية تعد قواعد قانونية ذات طبيعة دستورية لتعلقها بإحدى سلطات الدولة (السلطة التشريعية).
- لكن تثار الصعوبة حول تحديد مكانتها بين القواعد القانونية داخل الدولة:
فالقواعد القانونية ينتظمها تدرج هرمي يقع في قمته الدستور، يليه التشريعات الصادرة عن البرلمان والقرارات بقوانين الصادرة عن رئيس الجمهورية، يلي ذلك اللوائح التي تصدرها السلطة التنفيذية وفي قاعدة الهرم تقع القرارات الإدارية (8).
- وإذا أردنا تحديد المكانة القانونية للوائح البرلمان بين قواعد القانون نجد صعوبة، لأن طريقة وضع اللوائح الداخلية ليست واحدة في جميع النظام القانونية، بل تختلف من دولة إلى أخرى، على ما سنوضحه بعد قليل. ففي بعض الدول تصدر اللوائح البرلمانية بقرار من البرلمان وفي دول أخرى تصدر اللوائح بقانون، وفي نظم أخرى تصدر اللوائح عن طريق السلطة التنفيذية.
ومن ثم فإن اللوائح التي تصدر بقانون تأخذ ذات مرتبة التشريعات، أما التي تصدر من السلطة التنفيذية فلا ترقى إلى هذه المرتبة وإنما تكون في ذات مرتبة اللوائح أما تلك التي تصدر بقرار من البرلمان فإنها وإن كانت لا ترقى إلى مرتبة التشريعات فإنها تعلو على اللوائح التنفيذية، ويمكن اعتبارها في مرتبة وسطى بين التشريعات واللوائح، ويتعين - من ثم - ألا تخالف القواعد الدستورية ولا القواعد التشريعية، ذات الصلة.
- طرق وضع اللوائح الداخلية للبرلمان:
يمكننا رصد أربعة طرق لإصدار اللوائح الداخلية للبرلمانات في النظم الدستورية المختلفة:
1- وضع اللائحة الداخلية بقانون:
في هذه الحالة توضع اللائحة الداخلية بقانون يأخذ ذات شكل التشريع ويمر بذات المراحل التي يمر بها أي تشريع من اقتراح ومناقشة وتصويت وإقرار وإصدار، ثم النشر في الجريدة الرسمية وهذه الطريقة تعني أن السلطة التنفيذية، تباشر دور ما في عملية وضع اللائحة البرلمانية وهي عملية الإصدار.
- ويذهب البعض من الفقه إلى أنه وإن كانت اللائحة البرلمانية تصدر بقانون إلا أن السلطة التنفيذية لا تملك أي سلطات حيال القانون الصادر باللائحة البرلمانية، وبصفة خاصة لا تملك سلطة الاعتراض عليها في مرحلة الإصدار لأن ذلك يتعارض مع استقلال السلطة التشريعية ومنحها الحرية - في إطار القواعد الأعلى بطبيعة الحال - لتنظيم أجهزتها وسير عملها.
فلا تملك السلطة التنفيذية إلا إصدار القواعد المصاغة من البرلمان لتنظيمه الذاتي كأمر ضروري لاكتساب شكل القانون، وإن لم تتخذ إجراءاته(9) .
- ومع احترامنا وتقديرنا لهذا الرأي والباعث الذي يقوم عليه ومع أهمية الحفاظ على استقلال البرلمان.
فإننا نرى أن للسلطة التنفيذية أن تمارس بالنسبة للوائح البرلمانية ذات الدور الذي تمارسه بالنسبة للتشريعات طالما أن اللائحة ستصدر في صورة قانون، لأن استقلال البرلمان بوضع قواعد تنظيم العمل داخله وتحديد حقوق الأعضاء وواجباتهم داخل البرلمان وعلاقتهم بالحكومة، وكذا تحديد حقوق المتعاملين مع البرلمان وخاصة الحكومة، لا ينفي أن يضع البرلمان في لائحته نصوصاً يفتأت من خلالها على حقوق الحكومة ووضعها داخل البرلمان، أو يقيد من دورها، ومن ثم فإن إتاحة الفرصة لاعتراض الحكومة قبل الإصدار قد يؤدي إلى التزام البرلمان حدوده الدستورية خاصة في النظم التي لا تعرف رقابة دستورية لوائح البرلمان.
- ومن الدساتير التي أخذت بهذه الطريقة:
- الدستور اليمني حيث تنص المادة 66 منه على أن : "يضع مجلس النواب لائحته الداخلية متضمنة سير العمل في المجلس ولجانه وأصول ممارسته لكافة صلاحياته، ولا يجوز أن تتضمن اللائحة نصوصاً مخالفة لأحكام الدستور أو معدلة لها ويكون صدور اللائحة وتعديلها بقانون".
- دستور دولة قطر سنة 2004:  حيث يجري نص المادة (97) منه على أن "يضع مجلس الشورى لائحته الداخلية متضمنة النظام الداخلي وطريقة سير العمل في المجلس، وأعمال لجانه، وتنظيم الجلسات، وقواعد المناقشة، والتصويت، وسائر الصلاحيات المنصوص عليها في هذا الدستور. وتحدد اللائحة الجزاءات التي تقرر على مخالفة العضو للنظام، أو تخلفه عن جلسات المجلس أو اللجان بدون عذر مقبول، وتصدر اللائحة بقانون".
- وتتميز هذه الطريقة - في خصوص بحثنا - أنها تسهل مراقبة دستورية اللوائح البرلمانية في البلاد التي تعرف الرقابة على دستورية القوانين على اعتبار أن اللائحة الداخلية تندرج في عداد القوانين.
2- وضع اللائحة الداخلية بموافقة السلطة التنفيذية:
في مثل هذه الحالة تسيطر السلطة التنفيذية على كافة المقدرات وتستحوذ على سائر السلطات في الدولة ومن بينها الاختصاصات التشريعية، ولكن مجاراة للشكل الديمقراطي تنشئ مجالس نيابية لكن لا تمنحها اختصاصاتها كاملة ومن ذلك على سبيل المثال:
دستور دولة الإمارات العربية المتحدة حيث تنص المادة (85) منه على أن "يكون للمجلس أمين عام، يعاونه عدد من الموظفين يتبعون المجلس مباشرة.
وتتحدد اللائحة الداخلية للمجلس شروط خدمتهم واختصاصاتهم، ويتولى المجلس وضع لائحته الداخلية، وتصدر بمرسوم يصدره رئيس الاتحاد بموافقة مجلس الوزراء.


وتحدد اللائحة الداخلية اختصاصات رئيس المجلس ونائبيه والمراقبين، وبوجه عام كل ما يتعلق بشئون المجلس ولجانه وأعضائه وهيئة أمانته وموظفيه، وقواعد وإجراءات المناقشة والتصويت في المجلس واللجان، وغير ذلك من شئون، في حدود أحكام هذا الدستور".
وواضح من هذا النص أن قبول مجلس الوزراء وإقراره لللائحة الداخلية للبرلمان هو العامل الحاسم لاكتسابها الصيغة القانونية وإمكانية العمل بها (10).
3- وضع اللائحة الداخلية بقرار من البرلمان:
في مثل هذه الحالة يتولى البرلمان وضع لائحته بنفسه وبمطلق حريته ودون تدخل من أي طرف آخر، فالبرلمان له كامل الحرية في وضع لائحته، كما أن له الحرية في تعديلها في أي وقت يراه.
وتتميز هذه الطريقة بأنها تؤكد استقلال البرلمان وعدم تبعيته.
وفي هذه الطريقة ينتفي أي دور للسلطة التنفيذية، فلا يجوز لها المساهمة في سن اللائحة سواء كانت المساهمة تتعلق باقتراح أو الاعتراض عليها أو حتى المشاركة في النقاش حولها.
ومن الدساتير التي أخذت بهذه الطريقة الدستور البلجيكي في المادة (60) منه، والدستور الروماني سنة 1991 في المادة 61/1 منه، والدستور اللبناني في المادة 43 منه والدستور السوري في المادة (65) منه والتي يجري نصها على أن "يضع مجلس الشعب نظامه الداخلي لتنظيم أسلوب العمل وكيفية ممارسة مهامه".
والدستور الكويتي في المادة (117) منه والتي يجري نصها على أن "يضع مجلس الأمة لائحته الداخلية متضمنة نظام سير العمل في المجلس ولجانه وأصول المناقشة والتصويت والسؤال والاستجواب وسائر الصلاحيات المنصوص عليها في الدستور. وتبين اللائحة الداخلية الجزاءات التي تقرر على مخالفة العضو للنظام أو تخلفه عن جلسات المجلس أو اللجان بدون عذر مشروع." (11) 
ومن الدساتير التي سارت على هذا النهج أيضاً الدستور المصري الصادر عام 1971 في المادة (104) منه على نحو ما سنرى فيما بعد.
4- وضع اللائحة بمعرفة البرلمان لكن لا يعمل بها إلا بعد التأكد من دستوريتها:
في هذه الحالة يترك للبرلمان كامل الحرية في أن يضع لائحته الداخلية نفسه. وفي حالة البرلمان المزدوج يستقل كل مجلس بوضع لائحته، لكن لا يعمل باللائحة إلا بعد التحقق من مطابقتها لأحكام الدستور. ويصدق ذلك أيضاً على اللائحة التي تنظم عمل البرلمان مجتمعاً في هيئة مؤتمر.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك:
- فرنسا في ظل دستور 1958:
فقد جرى نص المادة (61) منه على أن "يجب أن تحال إلى المجلس الدستوري القوانين الأساسية قبل صدورها، وكذلك النظام الداخلي لمجلسي البرلمان، قبل بدء نفاذها، ويصدر المجلس الدستوري حكماً بشأن مطابقتها للدستور. وتحقيقاً لنفس الغاية يجوز أن يحيل رئيس الجمهورية، أو رئيس مجلس الوزراء أو رئيس الجمعية الوطنية، أو رئيس مجلس الشيوخ أو ستون نائباً من نواب الجمعية الوطنية أو ستون عضواً من أعضاء مجلس الشيوخ القوانين البرلمانية إلى المجلس الدستوري قبل صدورها. وفي الحالات المنصوص عليها في الفقرتين السابقتين، يجب أن يصدر المجلس الدستوري حكماً في غضون شهر واحد. لكن إذا كان الأمر عاجلاً، تخفض الفترة إلى ثمانية أيام، بناء على طلب الحكومة.
وفي هذه الحالات تؤدي إحالة القوانين إلى المجلس الدستوري إلى توقف المهلة الزمنية المحددة لصدورها." (12)   .
- الرقابة على دستورية اللوائح البرلمانية في فرنسا هي رقابة وجوبية تباشر عليها قبل تطبيقها، وتحريكها لا يكون تلقائياً إنما لابد من إحالتها من جانب رئيس الجمعية الوطنية أو رئيس مجلس الشيوخ، ولا يستطيع أي منهما النكول عن الإحالة، وإنما الترخص يكون في موعد الإحالة وإن كان تأخرهما في عرضها مؤداه بالضرورة تأخر تطبيقها. ذلك أن اللوائح البرلمانية لا يجوز تطبيقها قبل الفصل في دستوريتها.
ومناط المراجعة القضائية لتلك اللوائح هو صدورها فعلاً عن الجمعية الوطنية أو مجلس الشيوخ، ويندرج في مفهوم اللوائح البرلمانية تلك التي تصدر عن هاتين الجمعيتين منعقدتين في شكل مؤتمر (13) .
- وإذا قضى بعدم دستورية نص أو أكثر تعين أن تعيد صياغتها الجمعية التي أصدرتها سواء كانت الجمعية الوطنية أو مجلس الشيوخ آخذة في اعتبارها مضمون القرار الصادر بعدم الدستورية.
وعلى رئيسها أن يعرض مشروع اللائحة في صورتها الجديدة مرة ثانية للمراجعة القضائية.
وسواء أبطل المجلس الدستوري اللائحة البرلمانية أو وجه البرلمان إلى طرائق تطبيقها فإنهم يتقيدون بقرار المجلس رغم إيمانهم بأن اللوائح البرلمانية لا تنظم غير شئونهم الداخلية التي يفترض استقلالهم بها.(14)
- والرجوع إلى قضاء المجلس الدستوري في شأن اللوائح البرلمانية فصلاً في دستوريتها، يدل على حرصه - وفي إطار سياسته القضائية - على صون حقوق البرلمانيين في مواجهة الحكومة، وضمان امتيازاتهم قبلها، ولم يقبل المجلس بالتالي محاولة البرلمانيين تخويل أنفسهم مزايا حرمهم الدستور منها، أو تقرير اختصاص لهم يجاوز الحدود التي أذن الدستور لهم بها، كتوسيعهم من اختصاص لجان التحقيق والمراقبة البرلمانية، ومساءلتهم الحكومة في غير الأحوال المنصوص عليها في الدستور، أو تقييدها بزمن معين تدلي فيه ببيان أو إلزامها بأولوياتهم التي يحددون بها المسائل التي يناقشونها جلساتهم.
وكما قاوم المجلس محاولة البرلمانيين الانقضاض على حقوق الحكومة، وامتيازاتهم قبلهم، فقد حرص بالقوة ذاتها على إجهاض كل محاولة للحكومة تتوخى بها خفض الوظيفة البرلمانية بما يزيد من قسوة القيود التي فرضها الدستور. وفي هذا الإطار كفل المجلس للبرلمانيين الحق في تكوين تجمعاتهم السياسية داخل البرلمان، وحفظ الطبيعة الشخصية لأصواتهم، وصان لهم الحق في تعديل لوائحهم على نحو يمكنهم من أداء أعمالهم البرلمانية بطريقة أفضل (15) .
- ومن الدول التي سارت على ذات النهج الفرنسي:
* المملكة المغربية: فقد أورد الفصل (81) من الدستور المغربي "..... تحال القوانين التنظيمية قبل إصدارها الأمر بتنفيذها، والنظام الداخلي لكل من مجلس البرلمان قبل الشروع في تطبيق إلى المجلس الدستوري ليبت في مطابقتها للدستور".
* دستور الجزائر: أعطت المادة (115) من الدستور الجزائري لمجلس البرلمان الحق في وضع نظاميها الداخلي والتصديق عليه وفي ذلك تقرر "يعد المجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمة نظامها الداخلي ويصادقان عليهما".
أما المادة (165) فقد خولت المجلس الدستوري الاختصاص الوجوبي بالفصل في دستوريتهما فقد نصت على أن "يبدي المجلس الدستوري بعد أن يخطره رئيس الجمهورية رأيه وجوباً  في دستورية القوانين العضوية بعد أن يصادق عليها البرلمان، كما يفصل المجلس الدستوري في مطابقة النظام الداخلي لكلمن غرفتي البرلمان للدستور، حسب الإجراءات المذكورة في الفقرة السابقة".
* دستور تونس المعدل سنة 2002: نص في الفقرة الثالثة من الفصل (74) على أن "يعرض النظام الداخلي لمجلس النواب والنظام الداخلي لمجلس المستشارين على المجلس الدستوري قبل العمل بهما وذلك للنظر في مطابقتهما للدستور أو ملاءمتهما له".
* دستور موريتانيا: حيث نصت المادة (86) منه على أن "تقدم للمجلس الدستوري القوانين النظامية قبل إصدارها والنظم الداخلية للغرفتين البرلمانيتين قبل تنفيذها وذلك للبت في مطابقتها للدستور" (16) .
- رقابة دستورية اللوائح الداخلية للبرلمان في مصر:
جرى نص المادة (104) من الدستور المصري الصادر سنة 1971 على أن "يضع مجلس الشعب لائحته لتنظيم أسلوب العمل فيه وكيفية ممارسة وظائفه" (17) .
وينطبق ذات النص على مجلس الشورى عملاً بأحكام المادة (205) من ذات الدستور والتي يجري على أن "تسري في شأن مجلس الشورى الأحكام الواردة بالدستور في المواد ........، ...... ، ....... ، ..... و 104، وذلك فيما لا يتعارض مع الأحكام الواردة في هذا الفصل، على أن يباشر الاختصاصات المقررة في المواد المذكورة مجلس الشورى ورئيسه".
ومعنى ذلك أن البرلمان المصري يستقل تماماً بوضع لائحته الداخلية سواء في ذلك مجلس الشعب أو مجلس الشورى أو حتى في حالة اجتماع المجلسين في هيئة مؤتمر.... وتصدر بقرار منه ويعمل به فور موافقة المجلس عليها ودون أن يتوقف ذلك على أي أمر آخر. وهذا ما أكدت عليه المادة (419) من أحكام لائحة مجلس الشعب حيث أوردت "يعمل بأحكام هذه اللائحة اعتباراً من تاريخ موافقة المجلس عليها ....
- هذا الاستقلال يحول دون تدخل أي جهة في إعدادها ومناقشتها والتصويت عليها (18) وأيضاً دون إخضاعها لأية رقابة على دستوريتها.
رأينا في كيفية رقابة دستورية اللوائح الداخلية للبرلمان:
صعوبة مباشرة الرقابة الدستورية في الوضع الحالي:
أثيرت مسألة إخضاع اللوائح الداخلية للبرلمان لرقابة دستوريتها في نطاق ضيق على المستوى الفقهي، حيث عرض جانباً من الفقه لمحاولات إخضاع تلك اللوائح للرقابة على دستوريتها بمعرفة المحكمة الدستورية العليا عن طريق التصدي لمسألة دستورية نص في اللائحة الداخلية لمجلس الشعب، إذا ما عرضت أمامها وهي - بصدد نظر موضوع معين ضمن اختصاصاتها - مسألة تتعلق بدستورية هذا النص فتتصدى المحكمة لرقابة دستورية هذا النص وتحسم الأمر فيه (19) .
- بينما يرى البعض الآخر صعوبة قبول فكرة التصدي لأن اللائحة الداخلية لا تعد قانوناً فهي لا تصدر وفقاً لإجراءاته، ولا يمكن اعتبارها لائحة إدارية لا من الناحية الموضوعية لأنها لا تتصل بمسائل إدارية، ولا من الناحية الشكلية لأنها لا تصدر من الإدارية، ومن الناحية الأخرى فإن يصعب قبول الدفع بعدم دستورية نص ما في لائحة لبرلمان لأنه عمل برلماني يخرج عن ولاية المحكمة الدستورية العليا، والأفضل هو تقرير رقابة سابقة على دستورية اللوائح الداخلية من خلال تعديل قانون المحكمة الدستورية العليا (20).
- ونحن نرى صعوبة مباشرة المحكمة الدستورية العليا للرقابة على دستورية اللوائح البرلمانية في الوقت الراهن لسبب يرجع إلى أن ولايتها لا تمتد إلى رقابة اللوائح البرلمانية.
لأنها وإن كانت توصف بأنها "لوائح" إلا أنها لا تأخذ حكم اللوائح الإدارية ولا تأخذ حكم التشريعات، فهي ليست لوائح إدارية - كما ذكرنا من قبل - لأنها لا تنظم أموراً إدارية ولا تصدرها جهة الإدارة، كما أنها لا تعد تشريعات لأنها وإن كانت تتضمن قواعد عامة مجردة إلا أن سنها وإصدارها لا يمر بالمراحل التي يمر بها التشريع فليس للسلطة التنفيذية أي دور في اقتراحها ولا في التصديق عليها ولا إصدارها، كما أنها لا تنشر في الجريدة الرسمية، فلا يمكن - من ثم - اعتبارها تشريعاً، ومن الناحية الأخرى فإن اللائحة الداخلية رغم أهميتها الكبرى وأهمية ما تنطوي عليه من أحكام فإنه يصعب تناولها قضائياً سواء أمام القضاء الإداري أو القضاء العادي حتى يتسنى اتصال المحكمة الدستورية العليا بالدعوى المقامة طعناً على دستوريتها بطريقة الدفع أو الإحالة. لأن القضاء الإداري والقضاء العادي لا يقبل - كأصل عام - الدعاوى المقامة طعناً على الأعمال البرلمانية حفاظاً على استقلال البرلمان ومراعاة لمبدأ فصل السلطات (21).

- الدستور الجديد ورقابة دستورية اللوائح البرلمانية:
إذا كانت أهمية اللوائح البرلمانية لا تنكر، وإذا كنا قد أوضحنا إمكانية مجاوزتها لحدود الدستور والافتئات على حقوق الأعضاء وحريتهم في التعبير وممارسة مهام الرقابة على السلطة التنفيذية، وكذلك الافتئات على حقوق الحكومة داخل البرلمان، فإن إخضاعها للرقابة الدستورية لضمان صدورها في حدود الشرعية الدستورية يكون أمراً واجباً.
والأمل معقود على الدستور الجديد أن ينص في صلبه صراحة على اختصاص المحكمة الدستورية العليا بالرقابة على دستورية اللوائح الداخلية للبرلمان.
- لكن هل تكون الرقابة سابقة أم لاحقة؟
بداية لسنا من أنصار التوسع في مباشرة الرقابة السابقة على الدستورية، ولا نريد لها أن تكون بديلاً عن الرقابة اللاحقة.
لكن الرقابة السابقة على دستورية اللوائح البرلمانية تفرضها اعتبارات كثيرة أهمها طبيعة القواعد التي تنظمها اللوائح البرلمانية إذ تعد الأساس الأول الذي تبني عليه التشريعات التي تتناول بالتنظيم مختلف الموضوعات وبالتالي يجب الحرص على أن يكون هذا الأساس سليماً من الناحية الدستورية فضلاً عن أن الرقابة السابقة من شأنها إعلاء سيادة الدستور والحفاظ على الاستقرار للمراكز القانونية التي تنتظمها اللائحة الداخلية مرة واحدة حفاظاً على جلال مركز البرلمان وعدم تعرض التشريعات التي يصدرها للطعن ولسبب يرجع إلى عيب دستوري لحق اللائحة الداخلية، ومن ثم فإن استقرار أمر دستورية نصوص اللوائح الداخلية للبرلمان مسبقاً وقبل تطبيقها من شأنه أن يحصنها ويحصن الأعمال الداخلية للبرلمان قبل مباشرته لمهامه.

- صياغة مقترحة لنص المادة 104 من الدستور:
إذا ما تقرر الأخذ بمبدأ الرقابة السابقة على دستورية اللوائح الداخلية للبرلمان فإننا نقترح أن ينتظم الرقابة النص الآتي:
"يضع كل من مجلس الشعب والشورى لائحته لتنظيم أسلوب العمل فيه وكيفية ممارسة وظائفه. ويضع المجلسان معاً اللائحة الداخلية لتنظيم العمل عند انعقادهما بهيئة مؤتمر.
ويعرض - خلال ثلاثة أيام - رئيس كل مجلس مشروع اللائحة الداخلية لمجلسه على المحكمة الدستورية العليا بعد إقرارها من المجلس وقبل العمل بها لتقرير مطابقتها للدستور، وتصدر المحكمة قرارها في هذا الشأن خلال شهر من تاريخ عرض الأمر عليها. فإذا قررت المحكمة عدم دستورية نص أو أكثر من نصوص المشروع رده رئيس المحكمة الدستورية العليا إلى رئيس مجلس الشعب أو الشورى حسب الأحوال، وفي حالة اللائحة التي تحكم عمل المجلسين مجتمعين في هيئة مؤتمر تكون الإحالة من رئيس مجلس الشعب.
وفي جميع الأحوال يكون قرار المحكمة ملزماً للكافة ولجميع سلطات الدولة وينشر في الجريدة الرسمية خلال خمسة أيام من تاريخ صدوره."
- هكذا يتضح أن النص الدستوري المقترح يشمل لوائح المجلسين (الشعب والشورى) واللائحة التي تنظم عملهما معاً.
- كيف تباشر المحكمة الدستورية العليا الرقابة السابقة على دستورية اللوائح البرلمانية:
إذا أردنا أن نحدد ملامح الرقابة السابقة على دستورية اللوائح البرلمانية نجد أنها:
1- رقابة دستورية و ليست رقابة ملاءمة:
فالمحكمة لا تتعرض للملاءمات التي يستقل بها البرلمان في كيفية تنظيم العمل داخله وكيفية أدائه لوظائفه طالما التزم حدود الدستور.
وهذا الضابط ضابط عام يسري على الرقابة السابقة واللاحقة.
2-   أن الرقابة لا تمارس بطريقة تلقائية وإنما لابد من الإحالة من قبل رئيس المجلس المختص، ولا تستطيع المحكمة الدستورية العليا أن تباشر رقابتها بدون هذه الإحالة من صاحب الاختصاص.
3-   هذه الرقابة رقابة مجردة أي تمارس بعيداً عن أية منازعة أو خلاف بين الأطراف، فالطعن الدستوري موجه إلى العمل القانوني المتمثل في نصوص اللائحة الداخلية.
وهي في هذا الشأن تفارق الرقابة اللاحقة التي تتطلب وجود منازعة موضوعية.
4-   أن هذه الرقابة لها آجال محددة يتعين أن تباشر خلالها إعمالاً للنص الدستوري المقرر لها.
5- أن الرقابة تستهدف مطابقة الأحكام التي أوردتها اللائحة لأحكام الدستور.
6-   يمكن للمحكمة أن تقرر أن دستورية نص من النصوص يقتضي أن يفسر بتفسير معين تحدده المحكمة ويلتزم به المجلس، كما أن لها أن تقرر أن دستورية النص يرتبط بتحفظات محددة تذكرها المحكمة وينفذها المجلس المعني.
7-   المحكمة الدستورية لا علاقة لها بصياغة اللائحة الداخلية ولا بالتناسق الداخلي بين نصوصها.

ــــــــــــــــــــــــــ
المراجع
(1) يراجع: د. فتحي فكري : وجيز القانون البرلماني في مصر سنة 2006، د. جورج شفيق ساري: أصول وأحكام القانون الدستوري دار النهضة العربية 2002/2003 صـ 127 وما بعدها، د. على الصاوي: مستقبل البرلمان في العالم العربي سنة 2000 دار النهضة العربية، المستشار الدكتور/ عوض المر الرقابة القضائية على دستورية القوانين في ملامحها الرئيسية صـ 510 وما بعدها، د. شعبان أحمد رمضان: ضوابط وآثار الرقابة على دستورية القوانين - رسالة دكتوراه - كلية الحقوق - جامعة أسيوط سنة 2000 صـ 232 وما بعدها. والأستاذ/ رشيد المدور: خصائص الرقابة على دستورية الأنظمة الداخلية ومنهجها في التطبيق المغربي - بحث منشور بمجلة الحقوق الكويتية التي تصدرها جامعة الكويت - العدد 1 - السنة 32 مارس 2008 صـ 351 وما بعدها. مدونة التقاليد البرلمانية الصادرة عن مجلس الشعب سنة 1984 هيئة المطابع الأميرية.
(2) د. جورج شفيق ساري: المرجع السابق صـ 127.
(3) في تفاصيل أخرى يراجع د. فتحي فكري: المرجع السابق صـ 12: 15.
(4) د. على الصاوي المرجع السابق صـ 142.
(5) يراجع بحث الأستاذ/ رشيد المدور بمجلة الحقوق الكويتية- سابق الإشارة إليه صـ 357.
(6) يراجع: د. علي الصاوي: المرجع السابق صـ 56 وما بعدها.
(7)  د. على الصاوي المرجع السابق صـ 144، 145.
(8) يراجع في تدرج القواعد القانونية مؤلفنا عن قيود الرقابة الدستورية سنة 1998 صـ 15 وما بعدها.
(9) يراجع في هذا الرأي د. فتحي فكري: المرجع السابق صـ 19 بالهامش.
(10) لمزيد من التفاصيل د. فتحي فكري: التنظيم الدستوري للسلطات الاتحادية في دولة الإمارات العربية المتحدة سنة 1999 دار النهضة العربية صـ 174 وما بعدها.
(11) وعلى الرغم من النص الدستوري الصريح في شأن اللائحة الداخلية للبرلمان الكويتي فإن اللافت للنظر أن اللائحة الداخلية صدرت بقانون (القانون رقم 12 لسنة 1963) وقد انتقد البعض - بحق - هذا الوضع من منطق أن صدور اللائحة الداخلية بقانون يتيح للسلطة التنفيذية التأثير على استقلال المجلس، إذ يجوز لها دستورياً، ما دامت اللائحة قد سلكت الطريق التشريعي لإصدارها أن تمارس حق الاعتراض على مشروع القانون بواسطة الأمير، فتعيد للمجلس مشروع القانون معترضة على بعض مواده مما يسمح لها بالتدخل في سير العمل داخل المجلس وتوجيه دفة المناقشات بطريقة تكفل الهيمنة على شئونه... كما أنه يتيح للسلطة التنفيذية دستورياً حق اقتراح تعديلها، ولا شك أن مثل هذا الحق يتعارض مع فكرة استقلال المجلس في مواجهة السلطات الأخرى.
لمزيد من التفصيل يراجع د. عادل الطبطبائي - مدى دستورية المادة (114) من اللائحة الداخلية لمجلس الأمة الكويتي - مجلة الحقوق والشريعة سنة 1980 - العدد الرابع ص 261 - مشار إليه لدى د. فتحي فكري في مؤلفه عن وجيز القانون البرلماني المرجع السابق صـ 19، 20 بالهامش.
(12) دساتير العالم - المجلد الأول - ترجمة أماني فهمي-  المركز القومي للترجمة.
(13) المستشار الدكتور عوض المر المرجع السابق صـ 510، د. شعبان رمضان - المرجع السابق صـ 232 وما بعدها.
(14) المستشار الدكتور: عوض المر المرجع السابق صـ 512.
(15) د. عوض المر المرجع السابق صـ 512.
(16) لمزيد من الأمثلة والتفصيلات الأستاذ/ رشيد المدور - البحث سابق الإشارة إليه - مجلة الحقوق الكويتية صـ 362 وما بعدها.
(17) وهو ذات النص الذي جرت به الدساتير المصرية السابقة:
فقد أوردت المادة (119) من دستور 1923 أن "يضع كل مجلس لائحته الداخلية مبيناً فيها طريقة السير في تأدية أعماله".
ودستور 1956: أورد في نص المادة (86) أن "يضع مجلس الأمة لائحته الداخلية لتنظيم كيفية أدائه لأعماله".
ودستور 1958: في المادة (23) منه "يضع مجلس الأمة لائحته الداخلية لتنظيم كيفية أدائه لأعماله".
ودستور 1964: حيث ينص في المادة (60) منه على أن "يضع مجلس الأمة لائحته الداخلية لتنظيم كيفية أدائه لأعماله".
(18) وتأكيداً على ذلك فقد حدث أثناء مناقشة مشروع تعديل اللائحة الداخلية لمجلس الشعب، وعند مناقشة أحد مواد المشروع، اقترح مقرر اللجنة تعديل المادة المشار إليها، فاعترض وزير الدولة لشئون مجلس الشعب على التعديل، وقد احتج أحد الأعضاء بأن الوزير المذكور لا يجوز له أن يرفض اقتراحاً يعرض في المجلس بخصوص اللائحة، يراجع مدونة التقاليد البرلمانية الصادرة عن مجلس الشعب سنة 1984 - قاعدة رقم 1373 صـ 887.
(19) يراجع في هذا  الرأي د. جورج شفيق ساري: المرجع السابق صـ 132.
(20) في تفصيلات هذا الرأي يراجع د. فتحي فكري: وجيز القانون البرلماني في مصر - المرجع السابق.
(21) في مثل هذا الرأي يراجع د. فتحي فكري المرجع السابق.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق