الجمعة، 18 ديسمبر 2015

التعليق على أحكام المحكمة الدستورية بين الموضوعية العلمية والهوى السياسى

التعليق على أحكام المحكمة الدستورية بين الموضوعية العلمية والهوى السياسى 
بقلم الأستاذ الدكتور / يسرى محمد العصار
أستاذ القانون العام بكلية الحقوق – جامعة القاهرة
منشور بمجلة الدستورية - العدد الثالث والعشرون – السنة الحادية عشر – أبريل 2013

مقدمة:-
أرست المحكمة الدستورية العليا ، منذ إنشائها عام 1979 ،عددا كبيرا من المبادئ ، بمناسبة رقابتها على دستورية القوانين واللوائح من أجل حماية الحقوق والحريات العامة وإعلاء المشروعية الدستورية . وتتبع المحكمة سياسة قضائية إبداعية ، حيث لاتفسر نصوص الدستور تفسيرا حرفيا جامدا ، وإنما تفسرها تفسيرا مرنا بما يضمن تحقيق الحماية الكاملة لحقوق وحريات الأفراد بجميع صورها .
وقد إكتسبت المحكمة  الدستورية العلي بفضل دورها الهام فى حماية الحقوق والحريات موقعا متميزا فى النظام الدستورى ومكانة رفيعة لدى الرأى العام والمجتمع .
ومن أهم الحقوق العامة التى أرست المحكمة الدستورية العليا مبادئ أساسية بمناسبة رقابتها على دستورية القوانين المنظمة لها ، والتى كان لها تأثير كبير فى النظام السياسى ، حق الإنتخاب وحق الترشيح فى الإنتخابات . وقد قضت المحكمة بعدم دستورية عدد من التشريعات المنظمة لحقى الإنتخاب والترشيح لمخالفتها مبدأى المساواة وتكافؤ الفرص ، ووازنت بين المبادئ الدستورية والإعتبارات العملية ، حيث قررت أن الحكم بعدم دستورية القانون الذى تم بناء عليه تشكيل الرلمان يؤدى إلى بطلان تشكيل البرلمان ولكنه لايؤثر على سلامة القوانين والأعمال الصادرة عنه قبل نشر الحكم فى الجريدة الرسمية , مراعاة لمبدأ الأمن القانونى واستقرار المراكز القانونية ، كما إعتنقت المحكمة نظرية أعمال السيادة أو الأعمال السياسية على الرغم من عدم النص عليها فى القانون المنظم للمحكمة ، وأخرجتها من إختصاصها لكى تترك للمشرع العادى واللائحى قدرا واسعا  من حرية التقدير بشأنها ، ولكنها ضيقت من نطاق تطبيق هذه النظرية ، ووازنت بين واجب إحترام المشروعية الدستورية والضرورات العملية التى تفرض عدم فرض رقابتها على بعض الأعمال ذات الطبيعة السياسية . كما قضت المحكمة بعدم دستورية بعض النصوص التشريعية التى حرمت بعض الفئات من حقوقها السياسية  وأسست قضاءها على أن المشرع تجاوز فى هذه النصوص حدود سلطته التقديرية فى تنظيم الحقوق وحرم بعض الفئات من ممارستها بناء على أفعال سابقة على صدور هذه النصوص . وفى مجال الرقابة السابقة على دستورية قوانين الإنتخابات الرئاسية قررت المحكمة أن  قيامها بهذه الرقابة لايمنعها من ممارسة الرقابة اللاحقة على دستورية هذه القوانين ، وإذا تبين لها أن البرلمان لم يقم بإعمال مقتضى قرارها الصادر بمناسبة الرقابة السابقة على دستورية قانون الإنتخاب فإنها تملك ممارسة الرقابة اللاحقة عليه ، والحكم  بعدم دستوريته لمخالفته للدستور .
إن هذه المبادئ التى أرستها المحكمة الدستورية العليا بمناسبة  رقابتها على دستورية التشريعات المنظمة للحقوق السياسية ، واستندت إليها فى أحكام عديدة قبل قيام ثورة 25 يناير2011 ، واستمرت فى تطبيقها فى أحكامها الصادرة بعد الثورة ، باعتبارها من المبادئ الدستورية المستقرة فى نظامنا القانونى ، كانت محل تأييد  من فقهاء القانون وموضع تقدير فى الرأى العام ، كما قامت الحكومة قبل الثورة بتنفيذها وإعمال مقتضاها رغم أنها لم تكن تتفق مع مصلحتها السياسية والحزبية . ولكن الأمور تغيرت تغيرا كبيرا بعد قيام ثورة 25 يناير 2011 ، حيث أصبحت المحكمة الدستورية العليا هدفا لبعض السياسيين وبعض القانونيين الذين  لم يقبلوا النتائج الطبيعية والحتمية التى تترتب على أحكام المحكمة ، وأرادوا وضع حدود على سلطة المحكمة الدستورية فى رقابة دستورية القوانين ، وأثاروا من جديد  قضايا فكرية تم حسمها فى مصر منذ أكثر من نصف قرن حول مدى مساس الرقابة القضائية على دستورية القوانين بمبدأ الفصل بين السلطات ، وأصبحنا نشاهد نقدا غير موضوعى لأحكام المحكمة ليس له من أساس سوى الهوى السياسى والمصالح الحزبية الضيقة ، بل إن بعض النقد مس أشخاص بعض قضاة المحكمة بما يعد جريمة من الجرائم التى يعاقب عليها قانون العقوبات .
ونعرض فيما يلى عددا من المبادئ التى أرستها المحكمة الدستورية العليا ، قبل ثورة 25 يناير 2011 ، بمناسبة رقابتها على دستورية القوانين المنظمة للحقوق السياسية ، والتى ثار الجدل حولها وحول مبدأ الفصل بين السلطات بعد الثورة ، وأصبحت موضوعا للنقد غير العلمى من جانب بعض الكتاب والسياسيين ، وذلك وفقا للخطة الآتية :
أولا:- مبدأ الفصل بين السلطات ووظيفة المحكمة الدستورية .
ثانيا:- سلطة المحكمة الدستورية فى الحكم ببطلان تشكيل البرلمان نتيجة حتمية لعدم دستورية الأساس القانونى لتشكيله .
ثالثا:- المفهوم السليم لمبدأ فصل السلطات يحتم تضييق نظرية أعمال السيادة .
رابعا:- عدم دستورية الحرمان من الحقوق السياسية بأثر رجعى وبالمخالفة لقرينة البراءة.
خامسا:- الرقابة السابقة على دستورية قوانين الإنتخاب لاتمنع الرقابة اللاحقة عليها .

أولا:- مبدأ الفصل بين السلطات ووظيفة المحكمة الدستورية:-

إن الجدل الذى أثاره من جديد بعض السياسيين وبعض القانونيين فى مصر، حول مدى مساس أحكام المحكمة الدستورية القاضية بعدم دستورية قانون الإنتخاب وآثار ذلك على وجود البرلمان بمبدأ الفصل بين السلطات ، هو جدل فى إتجاه عكسى  لحركة التاريخ ، ذلك أن الرقابة القضائية على دستورية القوانين لم تستقر فى الدول المختلفة إلا بعد تطور الفكر السياسى والقانونى إلى مرحلة من النضج تحترم فيها كل سلطة وظيفة السلطات الأخرى ولاترى فيها عدوانا عليها ، ولاتتحصن فيها أية سلطة خلف مبدأ الفصل بين السلطات لكى تسمح لنفسها بمخالفة الدستور، وتمنع القضاء من ممارسة وظيفته فى الرقابة عليها والحكم ببطلان العمل المخالف للدستور ، وترتيب الآثار الحتمية للحكم ببطلان هذا العمل . ولاشك فى أن الفهم الخاطئ لمبدأ الفصل بين السلطات ، وتفسيره على النحو الذى يقصر دور المحكمة الدستورية على إصدار أحكام نظرية مجردة بعدم الدستورية ، وترك ترتيب النتائج الحتمية لأحكامها إلى السلطة التشريعية التى أصدرت القانون المقضى بعدم دستوريته ، هو أمر ينطوى فى ذاته على مخالفة واضحة لمبدأ الفصل بين السلطات .
ويعود الجدل حول مدى سلطة القضاء فى رقابة دستورية القوانين ، فى فرنسا ، وعلاقة ذلك بمبدأ الفصل بين السلطات ، إلى القرن الثامن عشر . وقد إنتهى التطور إلى إقرار هذه الرقابة بمقتضى دستور الجمهورية الخامسة الصادر عام 1958 ، الذى أنشئ بمقتضاه المجلس الدستورى ، والذى يعتبر جهة قضائية وفقا لما استقر عليه الفقه والقضاء فى فرنسا ، على خلاف مايعتقده بعض الكتاب فى مصر من أنه جهة رقابة سياسية على دستورية القوانين . ويعود النقاش حول سلطة القضاء فى رقابة دستورية القوانين فى الولايات المتحدة الأمريكية إلى القرن التاسع عشر . وقد حسم الأمر بصدور حكم المحكمة العليا فى عام 1803 فى قضية ماربورى ضد ماديسون ، الذى أقرت بواسطته المحكمة العليا لنفسها بالحق فى رقابة دستورية القوانين . وقد تبنت محكمة القضاء الإدارى فى مصر هذا الإتجاه ذاته فى حكمها الشهير الصادر بتاريخ 10 فبراير 1948 ، الذى بسطت فيه رقابتها على دستورية المرسوم بقانون رقم 148 لسنة 1944 ، وقررت أن هذه الرقابة إعمال صحيح لمبدأ الفصل بين السلطات لأن تستر أية سلطة خلف مبدأ الفصل بين السلطات لكى تمنع القضاء من إنزال حكم الدستور على العمل القانونى الصادر عنها والذى ينطوى على مخالفة له ، هو تصرف يخالف مبدأ الفصل بين السلطات . وجاء فى الحكم : "إن الدستور المصرى إذ قرر مبدأ الفصل بين السلطات دون أن يصرح به ، قد قرنه بمبدأ آخر أكده ضمنا وجعله متلازما معه حين قرر فى المادة 23 أن استعمال السلطات يكون على الوجه المبين بالدستور ، وبذلك جعل استعمال السلطات لوظائفها ينتظمه دائما تعاون متبادل بينها على أساس احترام كل منها للمبادئ التى قررها الدستور ، فالمبدآن متلازمان يسيران جنبا إلى جنب ويكمل أحدهما الآخر ، وبغير ذلك لاتنتظم الحياة الدستورية ، لأنه إذا أهدرت إحدى السلطات أى مبدأ من مبادئ الدستور فإنها تكون قد خرجت عن دائرة المجال المحدد لاستعمال سلطتها ، وإذا جاز لها أن تتخذ من مبدأ فصل السلطات تعلة تتذرع بها فى إهدارها للدستور لانتهى الأمر إلى فوضى لاضابط لها ، مما يقطع بأن التزام كل سلطة من تلك السلطات مبادئ الدستور هو خير الضمانات لإعمال مبدأ فصل السلطات، بل ولتدعيم البنيان الدستورى جميعه " .
إن مشروعية الرقابة القضائية على دستورية القوانين تجد أساسها فى هذا المفهوم السليم لمبدأ الفصل بين السلطات ، وإن الإدعاء الذى صدر عن بعض السياسيين وبعض رجال القانون ، الذين يرون أن دور المحكمة الدستورية يقتصر على إعلان مدى دستورية النص القانونى الخاضع لرقابتها ، دون أن ترتب فى حيثيات حكمها أية نتيجة قانونية ، ولو حتمية ، لحكمها ، لهو إدعاء يخالف المفهوم السليم لمبدأ الفصل بين السلطات .

ثانيا : سلطة المحكمة الدستورية فى الحكم ببطلان تشكيل البرلمان نتيجة حتمية لعدم دستورية الأساس القانونى لتشكيله:-

أثار الحكم الصادر عن المحكمة الدستورية العليا بتاريخ 14 /6 /2012 ، فى القضية رقم 20 للسنة القضائية 34 ، بعدم دستورية عدد من نصوص القانون المنظم لمجلس الشعب ، التى تم تشكيل المجلس على أساسها ، جدلا قانونيا وسياسيا كبيرا . وقد  قررت المحكمة فى حيثيات هذا الحكم المبدأ الذى سبق لها أن قررته فى أحكام أخرى قبل ثورة 2011 ، والذى يتمثل فى أن عدم دستورية القانون الذى تم بناء عليه تشكيل مجلس البرلمان يترتب عليه ، بحكم اللزوم ، بطلان تشكيل هذا المجلس ، نظرا للأثر الرجعى للحكم بعدم الدستورية والحجية المطلقة التى يتمتع بها .
وأسست المحكمة حكمها على أن النصوص المطعون فيها قد أخلت بمبدأ المساواة وتكافؤ الفرص ، وأقامت تمييزا بين مرشحي الأحزاب السياسية ، الذين خصصت لهم ثلثى المقاعد ، والمرشحين المستقلين غير المنتمين للأحزاب الذين خصصت لهم ثلث المقاعد ، دون أساس موضوعى ، حيث أتاحت هذه النصوص " لكل من مرشحى الأحزاب السياسية إحدى فرصتين للفوز بعضوية مجلس الشعب، إحداهما بوسيلة الترشيح بالقوائم الحزبية المغلقة، والثانية عن طريق الترشيح للنظام الفردى، بينما جاءت الفرصة الوحيدة المتاحة أمام المرشحين المستقلين غير المنتمين لتلك الأحزاب مقصورة على نسبة الثلث المخصصة للانتخاب بالنظام الفردى، يتنافس معهم ويزاحمهم فيها المرشحون من أعضاء الأحزاب السياسية، والذين يتمتعون بدعم مادى ومعنوى من الأحزاب التى ينتمون إليها، من خلال تسخير كافة الإمكانيات المتاحة لديها لدعمهم، وهو ما لا يتوافر للمرشح المستقل غير المنتمى لأى حزب، الأمر الذى يقع بالمخالفة لنص المادة (38) من الإعلان الدستورى، ويتضمن مساسًا بالحق فى الترشيح فى محتواه وعناصره ومضمونه، وتمييزًا بين فئتين من المواطنين يخالف مبدأى المساواة وتكافؤ الفرص، لما ينطوى عليه من التمييز بين الفئتين فى المعاملة وفى الفرص المتاحة للفوز بالعضوية، دون أن يكون هذا التمييز فى جميع الوجوه المتقدمة مبررًا بقاعدة موضوعية ترتد فى أساسها إلى طبيعة حق الترشيح وما تقتضيه ممارسته من متطلبات، والتى تتحقق بها ومن خلالها المساواة والتكافؤ فى الفرص، فضلاً عما يمثله ذلك النهج من المشرع من إهدار لقواعد العدالة، التى أكدتها المادة (5) من الإعلان الدستورى، والتى لا تنفصل فى غاياتها عن القانون باعتباره على ما جرى به قضاء هذه المحكمة أداة تحقيقها، فلا يكون القانون منصفًا إلا إذا كان كافلاً لأهدافها، فإذا ما زاغ المشرع ببصره عنها، وأهدر القيم الأصيلة التى تحتضنها، كما نهج فى النصوص المطعون فيها، كان منهيًا للتوافق فى مجال تنفيذها، ومسقطًا كل قيمة لوجودها، ومصادمًا من ثم لقواعد العدالة . وذلك العوار الدستورى يمتد إلى النظام الانتخابى الذى سنه المشرع وضمنه النصوص المطعون فيها، سواء فى ذلك نسبة الثلثين المخصصة لنظام القوائم الحزبية المغلقة أو نسبة الثلث المخصصة للنظام الفردى ".
وقررت المحكمة فى حيثيات حكمها بطلان تشكيل المجلس بأكمله لأن تقرير مزاحمة مرشحى الأحزاب للمستقلين  " كان له أثره وانعكاسه الأكيد والمتبادل مع نسبة الثلثين المخصصة للقوائم الحزبية المغلقة ، إذ لولا مزاحمة المنتمين للأحزاب للمستقلين فى تلك النسبة لحدث إعادة ترتيب داخل القوائم الحزبية ، بمراعاة الأولويات المقررة داخل كل حزب ، فضلاً عن تمتع المنتمين للأحزاب بالخيار بين سبيلين للترشيح لعضوية المجلس ، هما القائمة الحزبية المغلقة والنظام الفردى ، والذى حرم منه المستقلون ، ليقتصر حقهم على النسبة المخصصة للنظام الفردى التى يزاحمهم فيها المنتمون للأحزاب" .
وعلى الرغم من أن المبادئ التى تضمنها هذا الحكم لاتعتبر جديدة فى قضاء المحكمة الدستورية ، حيث سبق للمحكمة الإستناد إليها فى أحكام سابقة ( ومن ذلك الحكم الصادر بتاريخ 19 مايو 1990 فى القضية رقم 37 للسنة القضائية التاسعة ن والحكم الصادر بتاريخ 8 يوليو2000، فى القضية رقم 11 للسنة القضائية الثالثة عشرة ) ، إلا أن هذا الحكم كان موضوعا للنقد من جانب بعض السياسيين والقانونيين ، من ثلاثة أوجه : الوجه الأول أن مبدأ الفصل بين السلطات لايجيز لأية سلطة أن تقرر حل سلطة أخرى ، وبناء على ذلك لايجوز للمحكمة الدستورية أن تحكم بحل للبرلمان ، والوجه الثانى هو أن عدم دستورية منافسة مرشحي الأحزاب للمستقلين فى ثلث مقاعد البرلمان المخصصة لهم يترتب عليه بطلان تشكيل البرلمان بطلانا جزئيا يقتصر على الثلث المخصص للمستقلين ، وليس البطلان الكامل ومن ناحية ثالثة فإنه لايجوز حل البرلمان إلا بناء على إستفتاء شعبى .
وهذا النقد لايقوم ، فى إعتقادنا ، على أساس سليم ، فمن ناحية ، فإن المحكمة الدستورية لم تستخدم مطلقا، فى هذا الحكم وفى الأحكام التى طبقت فيها المبدأ ذاته ، مصطلح حل البرلمان ، وإنما قضت بعدم  دستورية القانون الذى تم على أساسه تشكيل البرلمان ، وقررت فى حيثيات الحكم أن عدم دستورية هذا القانون تترتب عليه ، بحكم اللزوم ، نتيجة حتمية هى بطلان تشكيل البرلمان ، دون أن يؤثر ذلك على القوانين والأعمال الصادرة عنه قبل نشر الحكم فى الجريدة الرسمية ، وهذا القضاء سديد لأن الحل يرد على مجلس تشريعى تم تشكيله بطريقة صحيحة ، أما الحالة محل البحث فإنها تتعلق بمجلس باطل بطلانا مطلقا منذ تشكيله على أساس تشريع قضى بعدم دستوريته بأثر رجعى ،  ومن ناحية ثانية ، فإن المحكمة قد قررت أن العوار الدستورى إمتد إلى النظام الإنتخابى الذى سنه المشرع وضمنه النصوص المطعون فيها ، سواء فى ذلك نسبة الثلثين المخصصة لنظام القوائم الحزبية المغلقة أو نسبة الثلث المخصصة للنظام الفردى ، ومن ناحية ثالثة ،فإنه لايجوز من أجل تنفيذ الحكم الصادر بعدم دستورية قانون الإنتخاب وبطلان تشكيل البرلمان تبعا لذلك عرض الأمر على إستفتاء ، وإنما يجب صدور قرار كاشف من السلطة التى تملك دعوة الناخبين للإنتخاب بإعتبار أن البرلمان لم يعد قائما ودعوة الناخبين لإنتخاب مجلس جديد بناء على قانون إنتخابى آخر يتلافى العيوب التى شابت القانون الذى قضى بعدم دستوريته . ولايجوز القياس على الإستفتاء على حل البرلمان ، الذى تم تنظيمه عقب الحكم بعدم دستورية قانون الإنتخاب فى عام 1990 ، لأنه لم يكن إجراء صحيحا فى إعتقادنا ، لأن الشرط الذى كان يتطلبه دستور 1971 لحل البرلمان ، وهو موافقة الشعب على ذلك من خلال إستفتاء ، لاينطبق فى حالة صدور حكم من المحكمة الدستورية بعدم دستورية قانون الإنتخاب ، وإنما يكفى صدور قرار كاشف يعتبر أن البرلمان لم يعد قائما من الناحية القانونية .

ثالثا : المفهوم السليم لمبدأ فصل السلطات يحتم تضييق نظرية أعمال السيادة:-

الأصل فى أعمال السيادة أنها طائفة من أعمال السلطة التنفيذية لاتخضع لرقابة القضاء نظرا لأنها تصدر من هذه السلطة بإعتبارها سلطة حكم وليس سلطة إدارة . وترجع فى نشأتها إلى السياسة القضائية العملية لمجلس الدولة الفرنسى ، الذى أخرج من إختصاصه بمحض إختياره بعض المسائل ذات الطبيعة السياسية لكى لايثير حساسية السلطة التنفيذية تجاه الرقابة التى يمارسها على أنشطتها . ولاينص أى تشريع فى فرنسا على أعمال السيادة ، أما فى مصر فقد نص عليها كل من قانون السلطة القضائية وقانون مجلس الدولة . ولم ينجح أى معيار من المعايير التى إقترحها الفقه  لتحديد طبيعة أعمال السيادة وتمييزها عن باقى الأعمال الصادرة عن السلطة التنفيذية ، ولذلك استقر الفقه على تحديد أعمال السيادة وفقا لقائمة الموضوعات التى تواترت أحكام القضاء على إعتبارها كذلك . وعلى الرغم من أن قانون المحكمة الدستورية العليا لم ينص على أعمال السيادة إلا أن المحكمة الدستورية إعتنقت هذه النظرية لسبب عملى هو ترك حرية واسعة للمشرع والسلطة اللائحية فى تقدير بعض المسائل ذات الطابع السياسى .
وتعتبر قائمة أعمال السيادة محدودة فى قضاء المحكمة الدستورية ، ومن أمثلتها : إتفاقية الدفاع المشترك بين مصر والدول العربية ، الموقعة عام 1957(حكم المحكمة بتاريخ 21/1/1984) ، وقرار رئيس الجمهورية بإعلان حالة الطوارئ ( حكم المحكمة بتاريخ 5/2/1997) ، أما قائمة الأعمال التى رفضت المحكمة الدستورية إعتبارها من أعمال السيادة فإنها تشمل عددا أكبر من الأعمال ، مثل : الإتفاقيات الدولية الإقتصادية التى أبرمتها الحكومة ، مثل تلك التى أبرمتها مصر مع عدد من الدول الأوربية لتحديد التعويضات المستحقة لرعاياها الذين خضعوا لإجراءات التأميم والحراسات فى مصر( حكم المحكمة الدستورية بتاريخ 4/6/1988،وحكمها بتاريخ 6/2/1993) ، والقوانين التى قرر بها المشرع تحصين قررارات إدارية من رقابة القضاء ( وقد صدر أول حكم فى هذا الشان من المحكمة العليا بتاريخ 6/11/1971)، والقوانين التى وضع بها المشرع حدا أقصى لتعويض ملاك الأراضى الخاضعة لقوانين الإصلاح الزراعى ، وحدا أقصى لتعويض أصحاب المشروعات الخاضعة للتأميم ( حكم المحكمة الدستورية بتاريخ 25/6/1983) .
وفى مجال الحقوق السياسية ، رفضت المحكمة الدستورية إسباغ وصف عمل السيادة أو العمل السياسى على القانون رقم 33 لسنة 1978 بشأن حماية الجبهة الداخلية والسلام الإجتماعى ، الذى حرم المشرع بمقتضاه بعض الفئات من الحقوق السياسية والذى وافق عليه الشعب فى إستفتاء ) ، كما بسطت رقابتها على القرار الصادر من رئيس الجمهورية بتاريخ 8/7/2012 بدعوة مجلس الشعب للإنعقاد ، بالمخالفة لحكم المحكمة الدستورية الصادر بتاريخ 14/6/2012 ، الذى قضى بعدم دستورية النظام الإنتخابى الذى تم على أساسه تشكيل مجلس الشعب وقررت المحكمة فى حيثياته المرتبطة بالمنطوق بطلان تشكيل هذا المجلس منذ تكوينه .وقضت المحكمة الدستورية بتاريخ 10/7/2012 ، فى منازعة حول تنفيذ حكمها ، بوقف تنفيذ قرار رئيس الجمهورية بدعوة مجلس الشعب للإنعقاد ، رافضة بذلك إعتبار هذا القرار عملا من أعمال  السيادة التى تخرج عن إختصاصها .
وقد إعترض بعض المعلقين على بسط  المحكمة الدستورية لرقابتها على قرار دعوة مجلس الشعب للإنعقاد ، ولكننا نعتقد بصواب الإتجاه الذى تعتنقه المحكمة الدستورية فى تضييق نطاق أعمال السيادة ، وبأن تقليص دائرة هذه الأعمال يتفق مع مبدأ الفصل بين السلطات بمفهومه الصحيح ، حيث أنه مما لايتفق مع هذا المبدأ أن ترتكب إحدى السلطات مخالفة للدستور ثم تتحصن خلف مبدأ الفصل بين السلطات لكى تمنع القضاء من إنزال حكم الدستور على هذه المخالفة . وتجدر الإشارة إلى أن المجلس الدستورى يقيد إلى أبعد مدى من نطاق الأعمال التى تخرج عن إختصاصه ، وتطبيقا لذلك فقد قضى ، بمناسبة قيامه بالفصل فى الطعون فى الإنتخابات البرلمانية ، بإختصاصه برقابة دستورية قرار رئيس الجمهورية بدعوة الناخبين للإنتخاب (قرار المجلس الدستورى بتاريخ 4/6/1988، مجموعة قرارات المجلس ، 1988 ، ص 77).

رابعا: عدم دستورية الحرمان من الحقوق السياسية بأثر رجعى وبالمخالفة لقرينة البراءة:-

إلى جانب القاعدة التى نص عليها الدستور، والتى تقرر عدم جواز تطبيق عقوبة جنائية بأثر رجعى، فإن المحكمة الدستورية أرست مبدأ مماثلا فيما يتعلق بالجزاءات الأخرى غير الجنائية  ، مثل الجزاءات السياسية والجزاءات الإدارية . وتطبيقا لذلك قضت بعدم دستورية نص فى القانون رقم 33 لسنة 1978 طبق عقوبة الحرمان من الحقوق السياسية على بعض الفئات ، عن أفعال  وقعت قبل نفاذ هذا القانون ( حكم المحكمة بتاريخ 4/4/1987فى القضية رقم 49 لسنة 6 قضائية ) ، كما قضت بعم دستورية نص فى القانون رقم 32 لسنة 1963 فيما تضمنه من سريان بعض العقوبات الإنضباطية فى إطار القوات المسلحة بأثر رجعى ( حكم المحكمة بتاريخ 4/1/1992  فى القضية رقم 22 لسنة 8 قضائية ).
كان هذا هو المبدا الذى أرسته المحكمة الدستورية فى أحكامها الصادرة قبل ثورة 25 يناير 2011 وقد إلتزمت المحكمة بهذا المبدأ ذاته فى أحكامها اللاحقة . ومن تطبيقات ذلك الحكم الصادر بتاريخ 14/6/2012 فى القضية رقم 57 لسنة 34 قضائية ، بعدم دستورية نص فى قانون تنظيم مباشرة الحقوق السياسية أضافه المشرع بعد الثورة ، وقرر بمقتضاه وقف مباشرة الحقوق السياسية لمدة عشر سنوات بالنسبة للأشخاص الذين شغلوا مناصب سياسية عليا فى ظل النظام السابق على الثورة . وأسست المحكمة قضاءها على مخالفة هذا النص لقاعدة عدم رجعية العقوبات، ومبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بالإضافة لقرينة البراءة .
وقد تعرض هذا الحكم ، بدوره ، للنقد من جانب بعض المعلقين ، ولكننا نرى أن المحكمة طبقت فى هذا الحكم المبادئ الدستورية التى أرستها من قبل تطبيقا صحيحا ، وبما يحمى الحريات الشخصية ويحيطها بالضمانات الضرورية فى مواجهة سلطة الدولة فى توقيع الجزاءات

خامسا : الرقابة السابقة على دستورية قوانين الإنتخاب فى مصر لا تمنع الرقابة اللاحقة عليها:-

بدا تطبيق الرقابة السابقة على دستورية قوانين الإنتخابات الرئاسية فى مصر بمقتضى التعديل الذى تم إقراره على المادة 76 من  دستور 1971 فى عام 2005 ، ومن الغريب فى إعتقادنا أن المشرع الدستورى لم يلزم أيا من السلطتين التشريعية والتنفيذية بإعادة عرض القانون الذى مارست عليه المحكمة الدستورية رقابتها السابقة عليه ، لكى تراجع المحكمة تنفيذ البرلمان للتوجيهات التى أبدتها المحكمة الدستورية  على القانون بصياغته الأولى ، وذلك على خلاف الوضع القائم فى فرنسا ، حيث يجب إعادة عرض القانون على المجلس الدستورى إذا قرر فى المرة الأولى عدم دستورية بعض نصوصه ، وذلك لكى يراقب المجلس الدستورى مدى قيام البرلمان بإعمال مقتضى القرار الصادر من هذا المجلس.
وقد دعا هذا الوضع المحكمة الدستورية إلى الحكم ، وبحق ، بأن ممارستها  للرقابة السابقة على دستورية قوانين الإنتخابات الرئاسية لاتمنعها من بسط رقابتها علي دستوريته فى إطار الرقابة اللاحقة على دستورية القوانين ( حكم المحكمة بتاريخ 15 /1/2006 ، فى القضية رقم 188 لسنة 27 قضائية).
وقد عدلت المادة 177 من الدستور الجديد فى نظام الرقابة السابقة على دستورية القوانين من جانبين ، حيث وسعت ، من ناحية أولى من نطاق القوانين التى تخضع للرقابة السابقة على دستوريتها ، وجعلتها تشمل القوانين المنظمة لمباشرة الحقوق السياسية وللإنتخابات الرئاسية والتشريعية والمحلية ، كما قررت أنها لاتخضع للرقابة اللاحقة التى تمارسها المحكمة الدستورية .
ونعتقد من جانبنا أن إعمال هذا القيد الأخير، الذى يمتنع على المحكمة الدستورية بمقتضاه ممارسة الرقابة اللاحقة على دستورية القوانين التى خضعت لرقابتها السابقة ، يتطلب أن تستوثق المحكمة الدستورية من قيام البرلمان بإعمال مقتضى القرار الصادر من المحكمة الدستورية بمناسبة ممارستها للرقابة السابقة على دستورية هذه القوانين ، ولايتحقق هذا إلا إذا أحال البرلمان أو رئيس الجمهورية القانون الذى راقبته المحكمة الدستورية إليها مرة ثانية بعد قيام البرلمان بتنفيذ توجيهاتها . وهذا هو النظام المطبق فى فرنسا . وينبغى الحكم ، فى ضوء هذه المبادئ ، على الآراء التى تم التعبير عنها بشأن الرقابة السابقة على دستورية القوانين المنظمة للإنتخابات وللحقوق السياسية .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق