الثلاثاء، 1 ديسمبر 2015

قراءة في ملامح مبدأ العدالة الاجتماعية فى النظام الضريبي المصري

قراءة في ملامح مبدأ العدالة الاجتماعية فى النظام الضريبي المصري
بقلم المستشار الدكتور  حسام فرحات أبويوسف
عضو هيئة المفوضين - المحكمة الدستورية العليا
منشور بمجلة الدستورية – العدد الخامس عشر – السنة السابعة – أبريل 2009

مقدمة:-

يمثل الاحتفال بمرور أربعين عاماً على إنشاء القضاء الدستوري فى مصر حدثاً وطنياً بارزاً ، وذلك بكل ما يحمله هذا المعنى من دلالات ، فبمناسبته يتداعى إلى الذاكرة مباشرةً جملة من التطورات التي شهدها القضاء الدستورى فى مراحل تطوره المختلفة ، الى أن استقر الأمر على إنشاء المحكمة الدستورية العليا كجهة مركزية للرقابة على دستورية القوانين بموجب دستور 1971 ، وهو الحدث الفارق فى تاريخ التنظيم الدستوري والسياسي في مصر، فضلاً عن تاريخ التنظيم القضائي . وبمناسبته يتداعى إلى الذاكرة كذلك ، أجيال متعاقبة من الرواد الذين بنوا صرح القضاء الدستورى وشيدوا دعائمه على أسس من الحق والعدل وإعلاء قيم سيادة الدستور والقانون وحماية الحقوق والحريات

ويمثل هذا الحدث معنىً خاصاً لنا نحن أبناء المحكمة الدستورية العليا ، فهو يعيدنا بالذاكرة إلى ذكريات وتفاصيل لا يعلمها كثير من الناس ، ويستحضر أمامنا شيوخاً وعلماء أجلاء ممن اكتمل عطاؤهم ، لكننا مازلنا ننهل من علمهم ومبادئهم وأخلاقهم ، ونذكر فضلهم علينا . وأجدني مدفوعاً فى هذا المقام الى ذكر اثنين من رموز هذه المحكمة الموقرة ممن اكتمل عطاؤهم ، رمزاً لجموع رؤساء وأعضاء المحكمة منذ إنشائها ، وهما المستشار الدكتور/ عوض المر ، والمستشار/ نجيب علما:-

فأما المستشار الدكتور/ عوض المر:- الرئيس الأسبق للمحكمة الدستورية العليا ، وهو بالتأكيد غنى عن كل تعريف ، وغنى عن كلمتى هذه ، إلا أن المناسبة والمقام يدفعاني الى ذكره رحمه الله ، فقد كان فضله علىّ وعلى أجيال مختلفة من القضاة والباحثين والمتخصصين عظيماً . وحسبه أنه ترك فى قلوب وعقول الناس - العامة منهم والخاصة - مكانةً ووعياً بالمحكمة الدستورية والقانون والقضاء الدستوريين ، جعلهم الله في ميزان حسناته يوم القيامة . ولا شك أن التاريخ سيذكره بأنه لم يكن قاضياً عادياً ، ولكنه كان صاحب رسالة ، كان بها أقرب إلى المصلحين الكبار في حياة الأمم والشعوب ، الذين لا يجود الزمان بمثلهم كثيرا . وعلى المستوى الشخصي ، أذكر له رحمه الله بكل الفضل والعرفان ، توجيهه ونصائحه الغالية لى عند إعدادي لرسالتي للدكتوراه ، فشرفت بالقرب منه ، ولمست عن قرب بعض أسرار هذه الشخصية العظيمة . رحمه الله رحمة واسعة وطيب ثراه ، جزاء ما قدم ووفى .

وأما المستشار/ نجيب علما : الرئيس الأسبق لهيئة المفوضين بالمحكمة الدستورية رحمه الله ، والذي شرفت بالعمل معه وتحت رئاسته فى الهيئة الموقرة ، فهو نعمة أخرى من نعم الله التي لا تحصى ، أنعم الله بها علىّ وعلى زملاء أفاضل لى فى هيئة المفوضين ، وكان رحمه الله أول من التقيته فى المحكمة الدستورية عند انتدابي للعمل بها أول مرة . فكان رحمه الله ، رمزاً للعلم والخلق والأخوة الصادقة ، ترك فينا نحن تلاميذه وزملائه وإخوته فى الهيئة من القيم والمبادئ والعلم الغزير الذي مازلنا نعتمد عليه وننهل منه . ولعل من أبرز ما تركه فينا ، تلك الأصول والحرفية الحاكمة فى مجال العمل الدستوري ، وكثير منها لا نجده مكتوباً فى مؤلفات أو أحكام ، ومع ذلك فهي فى العمل بمثابة الدليل المرشد للاستخلاص الدستوري السليم والوصول إلى الرأي الصائب القويم . فجزاه الله بما علم وأتقن وما أرساه من علاقة الود والأخوة وإعلاء قيم الحق والعدل على ما عداها .

وإذا كانت المساهمة فى فعاليات وأجواء هذه الاحتفالية الوطنية مبعث فخر وسعادة لكل معنى بالقضاء الدستوري فى مصر ، وبخاصة أبناء المحكمة الدستورية العليا ، إلا أنني توقفت كثيراً قبل أن أقرر موضوع المساهمة فى هذا الحدث المهم بكل ما يحمله من دلالات ، وأخصها ارتباطه بالقضاء الدستوري المصري ، وما قام به وما قدمه من مساهمة حقيقية وفعالة فى بناء دولة المؤسسات وسيادة القانون . فقد توقفت كثيراً بغرض التدبر واتخاذ القرار، فالمشاركة في هذا الحدث المهم أمر محسوم بالنسبة لى ، لكن مبعث التوقف والحيرة كان حول أي من الموضوعين أتخيره للكتابة والمشاركة ، الحماية الدستورية لمبدأ العدالة الاجتماعية ، أم الضمانات الدستورية للحقوق والحريات السياسية ، ورأيتني متردداً بين الموضوعين ، فكلاهما فى المدارج العلا من الأهمية والخصوصية فى بلدنا.

وإزاء هذه الحيرة ، كان لابد من حسم أمر الاختيار بين الموضوعين – على أهميتهما معاً- نزولاً على اعتبارات الوقت المتاح وظروف العمل والانشغال ، وكان الانحياز إلى المساهمة – ولو بورقة متواضعة – في موضوع العدالة الاجتماعية فى قضاء المحكمة الدستورية العليا ظاهراً ، فما أتصور أن مصر كانت بحاجة ماسة إلى ترسيخ مبدأ العدالة الاجتماعية فى مراحل تاريخها المعاصر قدر حاجتها إليه الآن ، فى ظل الظروف والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الحالية ، وفي ظل المتغيرات واسعة المدى التي يعيشها النظامان الاقتصادي والمالي العالمي ، إذ شهدت مصر – لاسيما خلال العقدين الأخيرين - تحولات جذرية في كثير من جوانب الحياة على أرض هذا البلد العريق ، كثير منها كان ايجابياً ، وأضاف إلى رصيد مصر ومكانتها إضافات غير منكورة . وفى المقابل كان الكثير منها أيضاً سلبياً ، أثر بشكل مباشر في بنية المجتمع وطبقاته الرئيسية.

ونعرض في هذه الورقة الموجزة للملامح العامة لمبدأ العدالة الاجتماعية في واحد من أهم تطبيقاتها في النظام الدستوري المصري ، وهو العدالة الاجتماعية في النظام الضريبي كما رسمتها المحكمة الدستورية العليا ، وذلك فى المبحثين الآتيين :

المبحث الأول : نعرض فيه لملامح التنظيم الدستوري لمبدأ العدالة الاجتماعية .

المبحث الثاني : نتناول فيه مظاهر الحماية الدستورية لمبدأ العدالة الاجتماعية فى المجال الضريبي في قضاء المحكمة الدستورية العليا.

المبحث الأول



التنظيم الدستوري لمبدأ العدالة الاجتماعية

أولاً:تكريس مبدأ العدالة لاجتماعية فى الدستور المصرى

حرصت الكثير من الدساتير على ترسيخ مبدأ العدالة الاجتماعية فى صلب الوثيقة الدستورية ، وذلك إما صراحة أو بشكل ضمني ، ففي العديد من الدساتير العربية – مثلاً -وردت نصوص عدة تؤكد الانحياز الصريح إلى مبدأ العدالة الاجتماعية ، بالإضافة إلى نصوص دستورية أخرى تتناول البعد الاجتماعي في المنظومة الدستورية وتكفل العدالة الاجتماعية ولو بصورة ضمنية (1)، ومن بين هذه الدساتير ، الدستور المصري الذي حمل بين نصوصه العديد من النصوص التي ورد بها من ألفاظ العدل ومشتقاتها ، فنجد أن النصوص الدستورية عرفت الكلمة في مواضع شتى ، نعرض لها فيما يلي :

المادة (4) من الدستور:-

نصت المادة (4) من الدستور بعد تعديلها بناء علي نتيجة الاستفتاء الذي أجري يوم 26 من مارس سنة 2007، علي أن يقوم الاقتصاد في جمهورية مصر العربية علي تنمية النشاط الاقتصادي ، والعدالة الاجتماعية ، وكفالة الأشكال المختلفة للملكية ، والحفاظ علي حقوق العمال.

وكان نص هذه المادة عند صدور الدستور يجري علي أن الأساس الاقتصادي لجمهورية مصر العربية هو النظام الاشتراكي القائم على الكفاية والعدل بما يحول دون الاستغلال ويهدف إلي تذويب الفوارق بين الطبقات. وقد جري تعديل هذا النص في 22 مايو سنة 1980، فصار على النحو الأتي:- الأساس الاقتصادي لجمهورية مصر العربية هو النظام الاشتراكي الديمقراطي القائم علي الكفاية والعدل بما يحول دون الاستغلال ويؤدي إلي تقريب الفوارق بين الدخول، ويحمي الكسب المشروع ، ويكفل عدالة توزع الأعباء والتكاليف العامة. وقد استهدف التعديل الدستوري لنص هذه المادة فى عام 2007 تحقيق التلاؤم بين نصوص الدستور والأوضاع الاقتصادية والسياسية المعاصرة ، بحيث لا يفرض الدستور على المجتمع نظاماً اقتصادياً معيناً لا يتأتى العدول عنه إلا بتعديل فى نصوصه ، وتجنباً لما تنص عليه هذه المادة من عبارات قد تفيد فى ظاهرها الانتماء لنظام اقتصادي بذاته يمكن أن يتجاوزه الزمن بما يفرزه من تطورات ومستجدات (2).

وإذا كان تعديل هذه المادة قد انصب على عدم تبنى مذهب اقتصادي بعينه ، فى حال أقرب إلى الحياد الاقتصادي تجاه الفلسفات والإيديولوجيات التقليدية الرأسمالية والاشتراكية ، إلا أن التعديل أتى فى المقابل بركيزة أساسية لم تكن موجودة من قبل ، وهى العدالة الاجتماعية باعتبارها ركيزة للاقتصاد فى مصر ، وهكذا حمل التعديل قدراً كبيراً من التوازن فى صياغة معالم النظام الاقتصادي فى الدولة ، فإذا كان المشرع الدستوري قد تخلى عن النظام الاشتراكي الديمقراطي كأساس للاقتصاد المصرى ، فإنه فى المقابل وبموجب التعديل الأخير أقام الاقتصاد على تنمية النشاط الاقتصادي والعدالة الاجتماعية ، وكأن العدالة الاجتماعية صارت بديلاً عن النظام الاشتراكي الديمقراطي . وبذلك يكون المشرع الدستوري قد تبنى – صراحة - مبدأ العدالة الاجتماعية فى نطاق أوسع من نطاق النظام الضريبي على النحو الذى تبناه فى المادة (38) من الدستور ، وهو تكريس واضح لمبدأ العدالة الاجتماعية . وفى مقابل كفالة الأشكال المختلفة للملكية ، بما فى ذلك الملكية الخاصة ، وعدم جواز المساس بها بغير حق ، كأحد معالم النظام الرأسمالي ، أكد التعديل على الحفاظ على حقوق العمال ، وهى كذلك من أبرز معالم النظام الاشتراكي .

ولا شك أنه بعد تعديل المادة (4) من الدستور يكون المشرع الدستورى قد بسط الحماية الدستورية التي يكفلها مبدأ العدالة الاجتماعية على كافة مظاهر النشاط الاقتصادي ، فقد صار الاقتصاد المصرى مرتكزاً على العدالة الاجتماعية ، وهو منهج صريح فى تبنى العدالة الاجتماعية يتجاوز بكثير النظام الضريبي الذي هو أحد عناصر النظام الاقتصادي فى الدولة وأحد محددات وروافد هذا لنظام .

نصوص المواد (23) ، (53) ، (57) من الدستور:

أما نص المادة (23) من الدستور ، فقد وردت في الفصل الثاني من الباب الأول ، الخاص بالمقومات الاقتصادية ، وجرى نصها علي أن ينظم الاقتصاد القومي وفقاً لخطة تنمية شاملة تكفل زيادة الدخل القومي ، وعدالة التوزيع ، ورفع مستوي المعيشة ، والقضاء علي البطالة ، وزيادة فرص العمل ، وربط الأجر بالإنتاج وضمان حد أدني للأجور، ووضع حد أعلي يكفل تقريب الفروق بين الدخول. كما نصت المادة (53) من الدستور على أن تمنح الدولة حق اللجوء السياسى لكل أجنبي اضطهد بسبب الدفاع عن مصالح الشعوب أو حقوق الإنسان أو السلام أو العدالة . ونصت المادة (57) على أن كل اعتداء على الحرية الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة للمواطنين وغيرها من الحقوق والحريات العامة التي يكفلها الدستور والقانون جريمة لا تسقط الدعوى الجنائية ولا المدنية الناشئة عنها بالتقادم ، وتكفل الدولة تعويضاً عادلاً لمن وقع عليه الاعتداء .

نص المادة (38) من الدستور ونطاق الحماية التي يكفلها للعدالة الاجتماعية:

جرى نص المادة (38) من الدستور على أن يقوم النظام الضريبي على العدالة الاجتماعية. ويثور التساؤل حول نطاق الحماية الدستورية التي يكفلها نص المادة (38) من الدستور – لاسيما قبل تعديل المادة (4) من الدستور - وهل هي مقصورة على المجال الضريبي فقط ، أم تمتد إلى مجالات أخرى ؟ . ومن جهة ثانية ، هل تقتصر هذه العدالة الضريبية في المجال الضريبي على معنى دون أخر ؟ .

ونرى أنه يصعب التسليم بأن الدستور حينما يقر بمبدأ العدالة الاجتماعية فى شأن النظام الضريبي ، فإن الحماية الدستورية التي يكفلها هذا المبدأ - ونزولاً على صراحة النص المذكور - مقصورة على النظام الضريبي فقط فالعدالة الاجتماعية أولى وأوجب في مجالات اجتماعية أساسية ، كحماية الفئات الضعيفة وضمان الحياة اللائقة بالمواطن . وقد أكدت المحكمة الدستورية على هذا الفهم حيث ذهبت إلى أن المشرع حرص علي تأهيل المعوقين بتدريبهم علي المهن والأعمال المختلفة ليقربهم من بيئتهم ، وليمكنهم من النفاذ إلي حقهم في العمل، لا يعتمدون في ذلك علي نوازع الخير عند الآخرين، ولا علي تسامحهم، بل من خلال حمل هؤلاء علي أن تكون الفرص التي يقدمونها للمعوقين مناسبة لاحتياجاتهم، مستجيبة لواقعهم، وأن يكون هدفها مواجهة آثار عجزهم، ومباشرة مسئولياتهم كأعضاء في مجتمعاتهم، تمنحهم عونها ، وتقيلهم من عثراتهم. وليس ذلك تمييزاً جائراً منهياً عنه دستورياً، ذلك أن النصوص المطعون عليها لا تفاضل بين المعوقين وغيرهم لتجعلهم أشد بأساً، أو أفضل موقعاً من سواهم، ولكنها تخولهم تلك الحقوق التي يقوم الدليل جلياً علي عمق اتصالها بمتطلباتهم الخاصة ، وارتباطها بأوضاعهم الاستثنائية ، لتعيد إليها توازناً اختل من خلال عوارضهم، وتلك هي العدالة الاجتماعية التي حرص الدستور علي صونها لكل مواطن توكيداً لجدارته بالحياة اللائقة، وانطلاقاً من أن مكانه الوطن وقوته وهيبته ينافيها الإخلال بقدر الفرد ودوره في تشكيل بنيانه (3).

وفضلاً عن ذلك ، فإن الدستور المصرى عرف العدالة والعدل فى العديد من نصوصه التي أشرنا إليها ، والعدالة الاجتماعية صورة من صور العدالة فى معناها العام . ولا نبالغ إذا قلنا إنه وعلى فرض خلو نصوص الدستور جميعها من أي ذكر للعدالة أو العدل أو العدالة الاجتماعية ، فإن ذلك لم يكن ليحول دون مراعاتها والنزول على مقتضاها ، فالعدالة من المبادئ الدستورية العامة التي استقرت فى ضمير كل أمة ، وهى أعلى من كل الدساتير ، ولا يتصور أن يكون سكوت الدستور أو سهو واضعيه عن إيرادها صراحة أو حتى تناولها ضمناً دليلاً على تخليه عنها وتبرئه منها ، فذلك مما يتناقض مع فكرة الدستور ذاتها فى أصل وشرعتها وجوهر وجودها

والعدالة الاجتماعية أساس النظام الضريبي لا تقتصر على جانب دون أخر من الجوانب المتعلقة بالضرائب والرسوم والأعباء والتكاليف العامة ، وسنلحظ عند حديثنا عن مظاهر الحماية الدستورية لمبدأ العدالة الاجتماعية كما رسمتها المحكمة الدستورية في تطبيقاتها المختلفة ، أنها استغرقت – تقريباً – مجمل عناصر وأصول فرض الضرائب ، وبخاصة الجوانب الموضوعية التي يتعين على المشرع مراعاتها عند فرض الضرائب والأعباء والتكاليف العامة ، وإلا وقع في حومة المخالفة الدستورية لمبدأ العدالة الاجتماعية .

ثانياً:في معنى العدل والعدالة والعدالة الاجتماعية:

العدل في اللغة يعني القصد في الأمور، فهو الأمر الوسط بين الإفراط والتفريط ، ويقابله الظلم أو الجور. والعدل صفة من صفات الله سبحانه وتعالي ، وهو القيمة القطب في الإسلام ، أمر بها الحق سبحانه وتعالي فقال جل وعلا : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلي أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل (4).كما قال سبحانه وتعالي: ولا يجرمنكم شنئان قوم علي ألا تعدلوا أعدلوا هو أقرب للتقوى(5).

وقد تواتر قضاء المحكمة الدستورية العليا فى تحديدها لمعنى العدل فى ضوء نصوص الدستور بأن الدستور قرن العدل بكثير من النصوص التي تضمنها، ليكون قيداً على السلطة التشريعية في المسائل التي تناولتها هذه النصوص فالنظام الاقتصادي لجمهورية مصر العربية لا يقوم إلا على الكفاية والعدل ويتعين أن ينظم هذا الاقتصاد وفقاً لخطة تنمية شاملة تكفل زيادة الدخل القومي، وعدالة التوزيع .ويؤسس الدستور النظام الضريبي على العدالة الاجتماعية [مادة 38 ] متطلباً - حال وقوع اعتداء على الحرية الشخصية أو على حرمة الحياة الخاصة - أن تقدم الدولة تعويضاً عادلاً لمن وقع عليه العدوان [مادة 57 ] . كذلك فإن التعويض عن نزع الملكية - سواء من خلال التأميم أو غيره - ينبغي أن يكون قائماً على العدل ومن خلال مبدأ مساواة المواطنين أمام القانون ، وبوجه خاص فى مجال أعبائهم وتكاليفهم العامة، تظهر فكرة العدالة في واحدة من أهم تطبيقاتها .

وفى بيانها لمعنى العدالة ، ذهبت المحكمة إلى أن الدستور، وإن قد خلا من تحديد لمعنى العدالة في النصوص السابقة، إلا أن المقصود بها ينبغي أن يتمثل فيما يكون حقاً وواجباً سواء فى علائق الأفراد فيما بينهم، أو فى نطاق صلاتهم بمجتمعهم، وإن تعين دوما تحديدها من منظور اجتماعي، ذلك أن العدالة تتوخى - بمضمونها - التعبير عن القيم الاجتماعية السائدة فى مجتمع معين خلال فترة زمنية محددة . ومن الناحية الفلسفية، فإن مفهومها قد يكون مطلقاً، ولكنها عملاً - ومن زاوية نتائجها الواقعية - لاتعنى شيئاً ثابتا باطراد ، بل تتباين معانيها، وتتموج توجهاتها، تبعاً لمعايير الضمير الاجتماعي ومستوياتها Levels of social consciousness ولئن جاز القول بأن النصوص القانونية تعمل لضمانها، إلا أنها تناقض أحيانا - بأحكامها، ومن خلال تطبيقاتها - حقيقة محتواها، وقد تنال من أغراضها النهائية التي تحيل بوجه عام إلى رضاء الجماعة وهناء معيشتها وسعادة أفرادها . وقد يثور التعارض كذلك بين حقائق العدالة الاجتماعية social justice وبين مفهوم الدولة أو الفرد لقيمها، ليكون لكل منهما تصور ذاتي في شأن متطلباتها. ويتعين بالتالي أن توازن علائق الأفراد فيما بين بعضهم البعض ، بأوضاع مجتمعهم والمصالح التي يتوخاها من أجل التوصل إلى وسائل عملية تكفل إسهام أكبر عدد من بينهم لضمان أكثر المصالح والقيم الاجتماعية تعبيراً عن النبض الجماعي لإرادتهم، ليكون القانون طريقاً لتوجههم الجمعي . ذلك أن النصوص القانونية لا تتقرر لذاتها ، بل بوصفها تعبيراً عن تلك الخبرة الاجتماعية social experience التي قام الدليل على تراكمها ، وإن كان ممكناً أن يكون لبعض الأشخاص أو لوقائع بذواتها أثراً في تشكيل مضامينها

وعن العلاقة بين القانون والعدالة ذهبت المحكمة إلى أنه إذا كان القانون - من زاوية مثالية- أداة التوازن داخل الجماعة الواحدة بين خبراتها السابقة past experience وبين تطلعاتها وتوقعاتها مستقبلاً future expectations ليكون كافلاً توافق أفرادها على القبول بالنصوص التي يتضمنها ؛ وكان القانون بذلك ليس إلا تطوراً منطقياً مقبولاً بوجه عام ، لضمان أن يكون النزول عليه إرادياً قائما على التعاون فى مجال تنفيذه، إلا أن من المتعذر القول بأن القانون يعد دوماً نتاجاً للحقيقة في صورتها المطلقة، أو تعبيراً عن تصوراتها المجردة، وإنما يبلور القانون تلك القيم التي أنتجتها الخبرة الاجتماعية . وكلما كان القانون أكثر اقترابا منها ، كلما كان أفضل ضماناً لإرساء المفهوم التطبيقي للعدالة ، سواء فيما بين الأفراد بعضهم البعض ، أو على صعيد مجتمعاتهم.وبقدر اتساع الفجوة بين هذا المفهوم ، وعملية صناعة القانون ، بقدر ما يكون القانون قاصراً عن إنفاذ حقائق العدل الاجتماعي ، فلا يقدم حلاً ملائماً لتصادم المصالح فيما بين الأفراد ومجتمعهم ، مبتعداً بذلك عما يكون لازماً إنصافاً .

ثالثاً:حقيقة العدالة ودورها في النظام الاجتماعي :

وفى بيانها لحقيقة دور العدالة في النظام الاجتماعي ، ذهبت المحكمة إلى أن العدالة إما أن تكون توزيعية Distributive justice من خلال العملية التشريعية ذاتها ، وإما أن تكون تقويمية Corrective ترتد إلى الحلول القضائية التي لا شأن لها بتخصيص المشرع لتلك المزايا الاجتماعية التى يقوم بتوزيعها فيما بين الأفراد بعضهم البعض، بل قوامها تلك الترضية التي تقدمها السلطة القضائية إلى المضرورين، لترد عنهم عدواناً قائماً أو محتملاً، ولضمان مساواة المواطنين سواء في مباشرة حرياتهم، أو على صعيد الحقوق التي يتمتعون بها . وحيث إن ما تقدم مؤداه ، أن العدالة - فى غاياتها – لا تنفصل علاقاتها بالقانون باعتباره أداة تحقيقها Justice as an end and law as means are inextricably bound together فلا يكون القانون منصفاً إلا إذا كان كافلاً لأهدافها • فإذا ما زاغ المشرع ببصره عنها، وأهدر القيم الأصيلة التي تحتضنها، كان منهياً للتوافق في مجال تنفيذه ، ومسقطاً كل قيمه لوجوده ، ومستوجباً تغييره أو إلغاءه (6).

رابعاً: نسبية العدالة الاجتماعية تبعاً لظروف الزمان والمكان :

ذهبت المحكمة الدستورية العليا إلى أنه إذا كان الدستور يؤسس النظام الضريبي علي العدالة الاجتماعية وفقاً للمادة (38) ، إلا أن هذه العدالة تتوخي بمضمونها التعبير عن القيم والمصالح الاجتماعية السائدة في مجتمع معين خلال فترة زمنية محددة ، ومن ثم تتباين معانيها ومراميها تبعاً لتغير الظروف والأوضاع ، ويتعين بالتالي أن تتوازن علائق الأفراد ومصالحهم، بمصالح المجتمع في مجموعه ، توصلاً إلي عدالة حقيقية تتفاعل مع الواقع وتتجلي قوة دافعة لتقدمه ، وإذا كان العدل مهيمناً علي الضريبة التي توفرت لها قوالبها الشكلية وأسسها الموضوعية ، فإن ذلك يشكل ضمانة توافر الحماية القانونية التي كفلها الدستور للمواطنين جميعاً (7).

وأضافت المحكمة أن مفهوم العدل لا يمكن أن يبقي مطلقاً ثابتاً ، ولكنه يتصف بالمرونة والتغير وفقاً لمعايير الواقع الاجتماعي، وهو بذلك لا يعدو أن يكون نهجاً منبسطاً علي أشكال الحياة ، وازناً بالقسط الأعباء التي يفرضها المشرع علي المواطنين (8).

المبحث الثاني

من مظاهر العدالة الاجتماعية في المجال الضريبي :

أرست المحكمة الدستورية العديد من المبادئ والضوابط الحاكمة التي يتعين على التشريع الضريبي مراعاتها حتى لا يوصم بمخالفة مبدأ العدالة الاجتماعية ، ومن ذلك:-

أولاً: مناقضة الأسس الموضوعية فى فرض الضرائب يخالف مبدأ العدالة الاجتماعية:

استقر القضاء الدستوري في مصر على أن فرض الضريبة يقع مخالفاً للدستور كلما كان معدلها وأحوال فرضها وتحديد وعائها مناقضاً للأسس الموضوعية التي ينبغي أن تقوم عليها ، مجاوزاً للأغراض المقصودة منها ولو كان الغرض من فرضها زيادة موارد الدولة لمقابلة مصلحة مشروعة

ونرى أن عدم توافر أحد الأسس الموضوعية في فرض الضريبة يمثل مخالفة لمبدأ العدالة الاجتماعية ، فالمحكمة الدستورية في سبيل تقييمها للنص التشريعي المطروح عليها ، إنما تزنه على مبادئ الدستور جمعيها ، والأصل أنها لا تتحرى وجهاً واحداً من أوجه مخالفة أحكام الدستور ، فالرقابة على الدستورية رقابه شاملة ، وعليه فإن انهيار أحد الأسس الموضوعية في فرض الضريبة يمكن أن يمثل وجهاً آخر لمخالفة مبدأ العدالة الاجتماعية ، فعدم وجود علاقة مثلاً بين دين الضريبة ووعائها يخالف مبدأ العدالة الاجتماعية ، فالعدالة الاجتماعية هي عدالة في المقام الأول ، وتخصيصها بالاجتماعية ، لا ينبغي أن يحصر مفهومها في إطار معين ، وثمة اعتبارات أهم وأولى فى المقام الدستوري تقتضى تفسير مبدأ العدالة الاجتماعية المنصوص عليه فى المادة ( 38 ) من الدستور تفسيراً واسعاً

وقد ذهبت المحكمة الدستورية في معرض تقييمها للتنظيم التشريعي للضريبة على الأرض الفضاء إلى أنه يستفاد من التنظيم التشريعي سالف البيان أن الضريبة على الأرض الفضاء ضريبة مباشرة على رأس مال لا يغل دخلاً ، يتمثل فى الأرض الفضاء الواقعة داخل نطاق المدن فى المناطق المتصلة بالمرافق العامة الأساسية من مياه ومجار وكهرباء والتي لا تخضع لأي من الضريبة على العقارات المبنية أو الضريبة على الأطيان الزراعية ، وأنها ضريبة دورية متجددة تستحق سنوياً طالما لم تتغير طبيعتها بالبناء عليها أو بزراعتها فتخضع بذلك لضريبة أخرى . كما يبين كذلك من التنظيم التشريعي سالف البيان، أن وعاء الضريبة على الأرض الفضاء لا يقتصر على القيمة الأصلية للأرض الفضاء حسبما وردت فى عقد شرائها المشهر أو فى تقدير مصلحة الضرائب لها ضمن عناصر التركة أو وفقاً لثمن مثلها فى سنة 1974 حسب الأحوال، وإنما يشمل الوعاء زيادة افترض المشرع تحققها فى قيمة هذه الأرض قدرها بنسبة 7% سنوياً حتى نهاية السنة السابقة مباشرة على استحقاق الضريبة وهذه الزيادة المفترضة تسرى على جميع الأراضي الخاضعة للضريبة بغض النظر عن مساحتها أو موقعها أو صقعها. وأن الضريبة لا يقتصر فرضها على الأرض الفضاء التي توافرت لها شروط الخضوع للضريبة عند العمل بالقانون الذي فرضها ، وإنما تسرى أيضا على الأرض الفضاء التي توافرت لها تلك الشروط بعد العمل بذلك القانون اعتباراً من أول يناير التالي لانقضاء سنة على تاريخ خضوعها لأحكامه. هذا فضلاً عن أن الزيادة السنوية التي افترضها المشرع فى قيمة الأرض الفضاء تؤدى إلى زيادة وعاء الضريبة مما يفضى بدوره إلى ارتفاع قيمة الضريبة السنوية المستحقة ، وأن الضريبة المشار إليها تسرى على الأرض الفضاء أيا كانت مساحتها ولو كانت ملكيتها شائعة بين عدة ملاك.

وأضافت المحكمة إن الأصل في الضريبة أنها فريضة مالية تقتضيها الدولة جبراً بمالها من سيادة ، وقد ارتبط فرض الضرائب من الناحية التاريخية بوجود المجالس التشريعية لما ينطوي عليه من تحميل المكلفين بها أعباء مالية تقتطع من ثرواتهم مما يتعين معه تقريرها بموازين دقيقة ولضرورة تقتضيها ، لذلك نص الدستور- فى المادة 119- على أن إنشاء الضرائب العامة وتعديلها أو إلغاءها لا يكون إلا بقانون ، ولا يعفى أحد من أدائها إلا فى الأحوال المبينة فى القانون؛ وكان فرض الضريبة يقع مخالفاً للدستور كلما كان معدلها وأحوال فرضها وتحديد وعائها مناقضا للأسس الموضوعية التي ينبغي أن تقوم عليها ، مجاوزاً للأغراض المقصودة منها ولو كان الغرض من فرضها زيادة موارد الدولة لمقابلة مصلحة مشروعة.

وحيث إن الدستور قد حرص فى مادته الرابعة والثلاثين على النص على صون الملكية الخاصة والمتمثلة- وفقاً لمادته الثانية والثلاثين- فى رأس المال غير المستغل، فكفل عدم المساس بها إلا على سبيل الاستثناء وفى الحدود وبالقيود التي أوردها، باعتبار أنها- فى الأصل- ثمرة مترتبة على الجهد الخاص الذي بذله الفرد ، وبوصفها حافزاً له على الانطلاق والتقدم ، فيختص دون غيره بالأموال التي يملكها وتهيئتها للانتفاع المفيد بها لتعود إليه ثمارها. هذا بالإضافة إلى أن الأموال التي يرد عليها حق الملكية تعد من مصادر الثروة القومية التي لا يجوز التفريط فيها. وإذ كانت الملكية فى إطار النظم الوضعية الحديثة- لم تعد حقا مطلقا يستعصى على التنظيم التشريعي ، فقد غدا سائغاً تحميلها بالقيود التي تقتضيها وظيفتها الاجتماعية التي يتحدد نطاقها ومرماها بمراعاة الموازنة التي يجريها المشرع- فى ضوء أحكام الدستور- بين المصلحة الخاصة للمالك والصالح العام للمجتمع، ذلك أن القيود التي تفرضها الوظيفة الاجتماعية على حق الملكية للحدة من إطلاقه، لا تعتبر مقصودة لذاتها وإنما غايتها تحقيق الخير المشترك للفرد والجماعة.

وخلصت المحكمة إلى أنه وإن صح أن تتخذ الضريبة وسيلة لتوزيع أعباء النفقات العامة على المواطنين وفقاً لأسس عادلة ، إلا أنه لا يجوز أن تفرض الضريبة ويحدد وعاؤها بما يؤدى إلى زوال رأس المال المفروضة عليه كلية أو الانتقاص منه بدرجة جسيمة ، فما لذلك الغرض شرعت الضريبة ، وما قصد الدستور أن تؤدى فى نهاية مطافها إلى أن يفقد المواطن رأس المال المحمل بعبئها ليؤول تنفيذها فى النهاية إلى فقدان وعائها أو الانتقاص الجسيم منه . ومن أجل ذلك كان الدخل- باعتباره من طبيعة متجددة ودورية- هو الذي يشكل- على اختلاف مصادره- الوعاء الأساسي الرئيسي للضريبة ، إذ هو التعبير الرئيس عن المقدرة التكليفية للممول ، بينما يشكل رأس المال وعاء تكميلياً للضرائب لا يلجأ المشرع إلى فرض الضريبة عليه إلا استثناء ولمرة واحدة أو لفترة محددة بحيث لا تؤدى الضريبة بوعائها كلياً أو تمتص جانباً جسيماً منه . وقد يرى المشرع أحياناً فرض ضريبة على رأس مال يغل دخلاً ويراعى أن يتم الوفاء بهذه الضريبة من دخل رأس المال الخاضع للضريبة . أما فرض ضريبة على رأس مال لا يغل دخلاً وبطريقة دورية متجددة ، ولفترة غير محددة مع زيادة تحكمية مفترضة فى قيمة الضريبة السنوية المستحقة عليه، فإنه ينطوي على عدوان على الملكية بالمخالفة لنص المادة 34 من الدستور، كما يناقض مفهوم العدالة الاجتماعية الذي نصت المادة 38 من الدستور على قيام النظام الضريبي على أساسه وهو ما يوجب القضاء بعدم دستورية النصين المطعون عليهما (9).

ثانياً: تناسب دين الضريبة مع مقدار الدخل الخاضع لها:

تعتبر فكرة التناسب (10) Proportionalityمن الأفكار والمبادئ العامة والمحورية في علم القانون وعادة ما تلجأ إليها مختلف فروع القانون لحل المشكلات التي تثار في إطارها,(11) بل إن فكرة التناسب ذات مجال أوسع , وربما اعتمدت عليها العلوم الطبيعية والإنسانية في مناقشة ووضع حلول لمشكلاتها , بل إننا لا نبالغ إذا قلنا إن الكون كله ، وفي العلاقة بين المخلوقات على اختلاف أشكالها ، للتناسب موضع هام فيه.

وقد ذهبت المحكمة الدستورية إلي أن الضريبة التي يكون أداؤها واجباً وفقاً للقانون – وعلي ما تدل عليه المادتان 61 و 119 من الدستور – هي التي تتوافر لها قوالبها الشكلية وأسسها الموضوعية علي النحو المتقدم بيانه، وتكون العدالة الاجتماعية التي يقوم عليها النظام الضريبي ضابطاً لها في الحدود المنصوص عليها في المادة 38 من الدستور، ويندرج تحتها أن يكون دين الضريبة متناسباً مع مقدار الدخل الخاضع لها . وتلك هي العدالة في توزيع الأعباء والتكاليف العامة التي اعتبرتها المادة الرابعة من الدستور– بعد تعديلها– من خصائص النظام الاشتراكي الديمقراطي الذي يقوم عليه الأساس الاقتصادي لجمهورية مصر العربية.

وخلصت المحكمة إلي أن انعدام الضريبة يكون منافياً لاستحقاقها ، ولوجوبها ديناً في ذمة الممول، ولجواز تكليفه بأدائها، ذلك أن تحصيل الضريبة وفقاً لأحكام المواد 38، 61، 119 من الدستور، يفترض توافر مقوماتها، والأسس الواقعية لعدالتها، وجميعها متخلفة بالنسبة إلي الضريبة التي فرضها القانون المطعون فيه.(12)

ثالثاً : تحديد دين الضريبة يكون بالتوصل إلي تقدير حقيقي لقيمة المال الخاضع لها:

قضت المحكمة الدستورية بعدم دستورية نص الفقرة الثانية من المادة (38) من القانون رقم 157 لسنة 1981 ، فيما تضمنه من أن يكون لمصلحة الضرائب عدم الاعتداد بإقرار الممول وتحديد الأرباح بطريق التقدير، وذلك دون وضع ضوابط أو معايير لهذا التقدير. وأقامت المحكمة قضائها في هذا الحكم علي عدة أسانيد أساسية منها، أن الضريبة التي يكون أداؤها واجباً وفقاً للقانون ، علي ما تدل عليه المادتان 61، 119 من الدستور – هي التي تتوافر لها قوالبها الشكلية وأسسها الموضوعية ، وتكون العدالة الاجتماعية التي يقوم عليها النظام الضريبي ضابطاً لها في الحدود المنصوص عليها في المادة 38 من الدستور، إذ ليس ثمة مصلحة مشروعة ترتجي من وراء إقرار تنظيم ضريبي يتوخي مجرد تنمية موارد الدولة من خلال فرض ضريبة تفتقر إلي تلك القوالب والأسس ، ذلك أن جباية الأموال في ذاتها لا تعتبر هدفا يحميه الدستور.

وأضافت المحكمة أن تحديد دين الضريبة يفترض التوصل إلي تقدير حقيقي لقيمة المال الخاضع لها ، باعتبار أن ذلك يعد شرطاً لازماً لعدالة الضريبة ، ولصون مصلحة كل من الممول والخزانة العامة. ويتعين أن يكون ذلك الدين – وهو ما يطلق عليه وعاء الضريبة ممثلاً في المال المحمل بعبئها – محققاً ومحدداً علي أسس واقعية يكون ممكناً معها الوقوف علي حقيقته علي أكمل وجه، ولا يكون الوعاء محققاً إلا إذا كان ثابتاً بعيداً عن شبهة الاحتمال أو الترخص، ذلك أن مقدار الضريبة أو مبلغها أو دينها إنما يتحدد مرتبطاً بوعائها، وباعتباره منسوباً إليه، ومحمولاً عليه ، وفق الشروط التي يقدر المشرع معها واقعية الضريبة وعدالتها . بما لا مخالفة فيه للدستور.(13)

والتزاماً بذات النهج ، قضت المحكمة بعدم دستورية نص البند (6) من الجدول المرفق بقانون الضريبة على الاستهلاك الصادر بالقانون رقم 133 لسنة 1981 ، وذلك بعد أن نعت الشركة المدعية على النص المطعون عليه أنه فرض ضريبة عامة على تداول السكر حاسباً قيمتها عن الطن القائم ، فأدخل في حسابها وزن العبوات التي تختلف فيما بينها مما يجعل وعاء الضريبة الحقيقي يختلف من حالة إلى أخرى وغير محدد على أكمل وجه ، فضلاً عن إنه لا يحقق المساواة بين المكلفين بالضريبة تبعاً لاختلاف وزن العبوات مما يجعله مخالفاً لأحكام المواد 38، 40، 119 من الدستور. فاستجابت المحكمة لهذا النعى ، استناداً على أن الضوابط التى يفرضها الدستور على السلطتين التشريعية والتنفيذية لضمان تقيدهما بأحكامه ، هي ضوابط آمرة لا تبديل فيها ولا مهرب منها، وليس لأي جهة أو سلطة بالتالى أن تبغى عنها حولاً، أو أن تنتقصها من أطرافها، أو أن تجعل لها عوجاً، أو أن تتحلل من بأسها أبداً، إذ هي باقية دوماً، نافذة أبداً، لتفرض بزواجرها ونواهيها- كلمة الدستور على المخاطبين بها، فلا ينسلخون منها، ولتكون قواعده مآباً لكل سلطة، وضابطاً لحركتها، ومتكئاً لأعمالها وتصرفاتها على اختلافها، ومرتفقاً لتوجهاتها ، وكان لكل ضريبة وعاء يتمثل في المال الذي تفرض عليه .

وذهبت المحكمة إلى أن تحديد دين الضريبة يفترض التوصل إلى تقدير حقيقى لقيمة المال الخاضع لها: باعتبار أن ذلك يعد شرطاً لازماً لعدالة الضريبة ، ولصون مصلحة كل من الممول والخزانة العامة ، وإذ كان ذلك ، فقد تعين أن يكون وعاء الضريبة منحصراً في المال المحمل بعبئها، ومحققاً ومحدداً على أسس واقعية يكون ممكناً معه الوقوف على حقيقته على أكمل وجه، ولا يكون الوعاء محققاً إلا إذا كان ثابتاً بعيداً عن شبهة الاحتمال أو الترخص، ذلك أن مقدار الضريبة أو مبلغها أو دينها، إنما يتحدد مرتبطاً بوعائها وباعتباره منسوباً إليه، ومحمولاً عليه، وفق الشروط التي يقدر المشرع معها واقعية الضريبة وعدالتها بما لا مخالفة فيه للدستور، وبغير ذلك لا يكون لتحديد وعاء الضريبة من معنى، ذلك أن وعاء الضريبة هو مادتها، والغاية من تقرير الضريبة هو أن يكون هذا الوعاء مصرفها، فإذا حدد المشرع وعاء الضريبة على طن السكر قائماً أي شاملاً وزن العبوة التي يوضع فيها وليس على الوزن الصافي رغم اختلاف وزن كل عبوة عن الأخرى في الغالب الأعم فإن وعاء الضريبة يضحى غير محدد يتسع لغير مادتها، وبالتالي فإن فرض الضريبة – وفقاً للنص الطعين – لا يقوم على أسس موضوعية محددة ، فضلاً عن أنه يخالف مبدأ المساواة إذا فرق بين المكلفين بالضريبة عن السكر – وهو الوعاء الحقيقي لها – تبعاً لاختلاف أوزان عبواته إذ يتحمل أصحاب العبوات الأثقل وزناً بعبء ضريبي أكبر من أصحاب العبوات الأخف وزناً. متى كان ذلك، فإن نص البند المطعن فيه يكون مخالفاً لأحكام المواد 38،40،119 من الدستور (14).

وفى القضية رقم 131 لسنة 26 قضائية دستورية انصب الطعن على نص المادة (12) من قانون ضريبة الدمغة الصادر بالقانون رقم 111 لسنة1980، والتي قضت الفقرة الثانية منها ، بأنه إذا كان التعامل بين جهة حكومية وشخص غير معفى من الضريبة ، فيتحمل هذا الشخص كامل الضريبة المستحقة على التعامل . وانتهت المحكمة في شأنها إلى عدم الدستورية وكانت هيئة المفوضين قد ذهبت في تقريرها في هذه القضية إلى أنه ليس من العدالة أن يتحمل المتعامل مع الجهة الحكومية بكامل الضريبة المستحقة على التعامل وتحصل الجهة الحكومية على نصيبها خالصاً من أية أعباء، وليس من العدالة أن يغرم المتعامل مع الجهة الحكومية في نصيبه من التعامل- قل هذا النصيب أو كثر – عن نصيب الجهة في الضريبة لمجرد أنه غير معفى منها، فيصير الخضوع للضريبة – وهو في ذاته عبء- موجباً للتحمل بعبء إضافي لا صلة عادلة له به ، وتأبى العدالة أخيراً ، أن يضار المتعامل مع الجهة الحكومية في ماله ، الذي صار بتسوية التعامل بينه والبنك عنصراً من عناصر ملكيته، سيما وأن المشرع – بموجب نص المادة (80) التي فرضت الضريبة على الصرفيات الحكومية – عمد إلى توسيع نطاق فرض ضريبة الدمغة، بأن مدها إلى خارج نطاقها التقليدي في أصل شرعتها باعتبارها ضرائب تفرض على المحررات والوثائق والأوراق (15).

رابعاً : الغلو في الجزاء الضريبي وعدم تناسبه يجاوز نطاق العدالة الاجتماعية:

قضت المحكمة الدستورية بعدم دستورية ما نصت عليه الفقرة الأخيرة من المادة الأولي من القانون رقم 147 لسنة 1984 ، بفرض رسم تنمية الموارد المالية للدولة المعدل بالقانون رقم 5 لسنة 1986، من أن يستحق علي الجهات المسئولة مثل المبالغ المقررة في حالة التخلف عن توريدها في الموعد المحدد. وذلك علي سند من أن الأصل في النظام الضريبي ، أن يكون قائماً علي العدالة الاجتماعية، فلا تعتبر جباية الأموال في ذاتها هدفاً يحميه الدستور. وينبغي دوماً أن يكون كل جزاء متناسباً مع الأفعال التي نهى المشرع عنها. وخلصت المحكمة في هذا القضاء إلي ضابط آخر يرتبط بالغلو، وهو وجه آخر له، وهو التناسب بين الأفعال والجزاء المقرر لها، فيتعين أن يكون الجزاء علي الأفعال جنائياً كان ، أم تأديبياً، أم مالياً – إفراطاً ، بل متناسباً معها The Principle of proportionality ، ومتدرجاً بقدر خطورتها ووطأتها علي الصالح العام ، فلا يكون هذا الجزاء إعناتاً . واعتبرت المحكمة أن تعدد صور الجزاء – مثلما هو الحال في تلك الدعوي – وانصبابها جميعاً علي مال المدين – مع وحدة سببها – يعتبر توقيعاً لأكثر من جزاء علي فعل واحد ، منافياً لضوابط العدالة الاجتماعية التي يقوم عليها النظام الضريبي في الدولة (16).

وفى قضاء آخر يعكس استقرار قضاء المحكمة الدستورية على ضرورة مراعاة مبدأ التناسب وعدم الغلو فى الجزاء الضريبي ، قضت المحكمة بعدم دستورية نص الفقرة الأولى من المادة (181) من قانون الضرائب على الدخل الصادر بالقانون رقم 157 لسنة 1981 فيما تضمنه من إلزام من يحكم بإدانته فى الأحوال المنصوص عليها فى المادة (178) من القانون المذكور بتعويض يعادل ثلاثة أمثال ما لم يؤد من الضرائب المستحقة . حيث ذهبت المحكمة إلى أن الممولين الخاضعين للضريبة على إيرادات النشاط التجاري والصناعي يلتزمون عملاً بالنص الطعين عند الحكم عليهم بالإدانة فى الأحوال المنصوص عليها فى المادة 178 من قانون الضرائب على الدخل – فضلاً عن العقوبة الجنائية بالسجن – بأداء ثلاثة أمثال الضريبة التى نسب إليهم التهرب من أدائها . وكان ما توخاه المشرع من تقرير هذا التعويض – منظوراً فى ذلك إلى مداه – هو الحمل على إيفائها فى الموعد المحدد قانوناً وبمقدارها الحقيقي إلى الخزانة العامة لضمان تحصيلها ، والتقليل من تكلفة جبايتها ، فلا يتخلى عن الوفاء بها الممولون الملتزمون بها وإلا كان ردعهم لازماً ، فإن معنى العقوبة يكون ماثلاً فى ذلك التعويض ـ وإن لم يكن عقاباً بحتاً ـ وهو ما ظهر بوضوح من خلال وحدة مقداره ، ذلك أن المتهربين من أداء الضريبة يلتزمون بثلاثة أمثالها فى كل الأحوال سواء أكان عدم الوفاء راجعاً إلى التخلف عن تقديم إخطار مزاولة النشاط أو بسبب استعمال إحدى الطرق الاحتيالية الواردة بنص المادة (178) من القانون . وسواء أكان ذلك ناشئاً عن عمد أو إهمال أو عن فعل غير مقترن بأيهما ، متصلاً بالغش والتحايل أو مجرداً منهما ، واقعاً مرة واحدة أو متعدداً ، متصلاً بنشاط واحد أو أكثر ، إذ يتعين دوماً أداء ثلاثة أمثال الضريبة بالكامل أياً كانت المخالفة المنسوبة إلى الممول وظروف ارتكابها . وكان ينبغي على المشرع أن يفرق فى هذا الجزاء بين الحالات المختلفة الواردة بالنص.

وأضافت المحكمة أن مبدأ خضوع الدولة للقانون ـ محدداً على ضوء مفهوم ديمقراطي ـ يعنى أن مضمون القاعدة القانونية التى تسمو فى الدولة القانونية عليها ، وتتقيد هي بها ، إنما يتحدد على ضوء مستوياتها التى التزمتها الدول الديمقراطية باضطراد فى مجتمعاتها ، واستقر العمل باضطراد على انتهاجها فى مظاهر سلوكها على تباينها ، لضمان ألا تنزل الدولة القانونية بالحماية التى توفرها لحقوق مواطنيها وحرياتهم ، عن الحدود الدنيا لمتطلباتها المقبولة بوجه عام فى الدول الديمقراطية ، ويندرج تحتهـا ، ألا يكـون الجزاء على أفعالهم ـ جنائياً كان أم مدنياً ، أم تأديبياً ، أم مالياً ـ إفراطاً ، بل متناسباً معها ، ومتدرجاً بقدر خطورتها ووطأتها على الصالح العام ، فلا يكون هذا الجزاء إعناتـاً .

وخلصت المحكمة إلى أنه متى كان ما تقدم ، وكان التعويض المقرر بالنص الطعين جزاء على المخالفات الواردة بالمادة (178) من القانون جاء مفرطاً وغير مناسب للنوعيات المختلفة من هذه المخالفات على النحو السالف بيانه منافياً بالتالى لضوابط العدالة الاجتماعية التى يقوم عليها النظام الضريبي فى الدولة ومنتقصاً من العناصر الإيجابية للذمة المالية للممولين الخاضعين لأحكامه ، فإن النص المطعون فيه يكون مخالفاً لأحكام المواد (34،38،65) من الدستور (17).

ومن جهة أخرى ، فقد اعتمدت المحكمة الدستورية مبدأ الموازنة بين حماية المصلحة الضريبية للدولة والعدالة الاجتماعية ، كأساس وضابط حاكم في تقرير التناسب بين التخلف عن توريد الضريبة والجزاء المقرر على ذلك ، حيث عرضت المحكمة لدستورية نص الفقرة الثالثة من المادة (32) من قانون من قانون الضريبة العامة على المبيعات الصادر بالقانون رقم 11 لسنة 1991 فيما قررته من أنه فى حالة عدم أداء الضريبة فى الموعد المحدد تستحق الضريبة الإضافية ويتم تحصيلها مع الضريبة وبذات إجراءاتها. وكان المدعى قد نعى على النص الطعين ، أنه فرض ضريبة على ضريبة ، بما يتعارض مع مبدأ العدالة الاجتماعية ؛ كما أنه قد يؤدى إلى تحمل المكلف بعبء ضريبة لم تقم بتحصيلها بما يتنافى ومبدأ حرية العمل؛ ويجافى مبدأ عدالة توزيع الأعباء والتكاليف بما يخالف أحكام المواد (4 و13 و38) من الدستور: كما أن الضريبة الإضافية ما هى إلا جزاء جاوز بمداه الحدود المنطقية التى يقتضيها صون المصلحة الضريبية ؛ ومن ثم يكون هذا الجزاء بما طواه من مبالغة منافيا القيود التى فرضها الدستور فى مجال النظام الضريبى، ومتضمناً توقيع عقوبة بغير حكم قضائى مناقضاً بذلك مبدأ خضوع الدولة للقانون بالمخالفة لحكم المادتين (65، 66) من الدستور.

وقد رفضت المحكمة هذه الدفوع جميعها ، وذهبت إلى أن التشريع الضريبي ، وإن توخى حماية المصلحة الضريبية للدولة ، إلا أن هذه المصلحة ينبغى موازنتها بالعدالة الاجتماعية، فلا يكون دين الضريبة- سواء بالنسبة إلى من يلتزمون أصلا بها، أو يكونون مسئولين عنها- متمخضاً عقاباً بما يخرجها عن بواعثها الأصلية والعرضية، ولا يجوز أن تعمد الدولة كذلك – استيفاءً لمصلحتها فى اقتضاء دين الضريبة- إلى تقرير جزاء على الإخلال بها يكون مجاوزاً –بمداه أو تعدده- الحدود المنطقية اللازمة لصون مصلحتها الضريبية وإلا كان هذا الجزاء غلواً وإفراطاً ؛ وفى المقابل فكلما كان الجزاء مقرراً لضرورة، أو متناسباً مع الأفعال التى أثمها المشرع أو منعها، متصاعداً مع خطورتها كان موافقاً للدستور؛ لما كان ذلك؛ وكان الجزاء المالى المقرر بالنص الطعين بفرض ضريبة إضافية مقدرة سلفاً بنص المادة الأولى من قانون الضريبة العامة على المبيعات – بما يباعد بينها وبين أن تكون عقوبة تقررت بغير حكم قضائى- يهدف به المشرع إلى أمرين: (أولهما) تعويض الخزانة العامة عن التأخير فى تحصيل الضريبة عن الآجال المحددة لها قانوناً، و(ثانيهما) ردع المكلفين بتحصيل هذه الضريبة عن التقاعس فى توريدها للمصلحة ، وحثهم على المبادرة إلى إيفائها ؛ فإن هذا الجزاء يكون قد برأ من شبهة العسف والغلو؛ وجاء متناسباً مع جسامة الفعل المنهى عنه ، وبعد منح الممول مهلة سداد كافية؛ وغير مناقض فى الوقت ذاته لمبدأ خضوع الدولة للقانون.

وأضافت المحكمة أنه لما كان مناط استحقاق ضريبة المبيعات هو تحقق واقعة بيع سلعة خاضعة للضريبة أو أداء خدمة بمعرفة المكلفين عملاً بنص المادة (6) من قانون الضريبة العامة على المبيعات المشار إليه؛ بما مؤداه أن الضريبة تندمج فى ثمن السلعة أو الخدمة وتعد جزءاً منه؛ ولا يتصور بالتالى بيع هذه أو أداء تلك دون تحصيل هذه الضريبة من مشترى السلعة أو متلقى الخدمة، وإلا كان المكلف ممهلاً لها بمحض إرادته واختياره، وسواء كانت الأولى أو الثانية فإنه يلتزم بتوريد الضريبة فى الميعاد، وإلا كان عدلاً ومنطقاً تحمله بالجزاء المقرر قانوناً على عدم توريدها فى الميعاد المقرر قانوناً؛ وبما لا مخالفة فيه لحكم المادتين (13 و38) من الدستور (18).

خامساً: وطأة الضريبة دون وجود مصلحة مبررة يخالف العدالة الاجتماعية:

ذهبت المحكمة الدستورية العليا إلي أن العدالة الاجتماعية وإن تعددت صورها ، وكان مضمونها قد يتبدل بتغير الزمان والمكان، علي ضوء القيم التي ارتضتها الجماعة لمفهوم الحق والعدل في بيئة بذاتها، وخلال زمن معين، إلا أن تطبيقاتها في نطاق الضريبة تشي ببعض ملامحها الأصلية، وبوجه خاص من خلال زاويتين: أولاهما: أن يكون ممكناً عقلاً ربط عبئها بالأغراض الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المقصودة منها. ثانيتهما: ألا يكون فرضها قد تم إخلالاً بحقوق ينبغي أن تخلص لأصحابها.

وأضافت المحكمة أن البين من مضابط مجلس الشورى ، أن وطأة ضريبة الأيلولة علي المخاطبين بها لا تقابلها مصلحة مبررة، بل تظهر جوانبها السلبية فيما قام الدليل عليه من أنها لا توفر للتنمية أسبابها، ولا للاستثمار أو الادخار روافدهما من الثقة والاطمئنان، ولا لقيمة العمل مناخها الملائم. كذلك فإن فرضها طريق إلي مزالق لها خطرها، من بينها أن الأموال محلها يتم تسريبها توقياً لها، فإذا تعذر تجنبها ، فإن ما يبقي بعد الضريبة من هذه الأموال يظل ثروة خامدة خوفاً من تعقبها ظلماً وبهتاناً بعد انتقالها بالميراث إلي آخرين . بل إن ما كانت الدولة تتوقعه من تلك الضريبية، سواء باعتبارها مصدراً لتمويل احتياجاتها أو بوصفها أداة تيسر توزيعها للثورة ، غدا وهماً وسراباً بالنظر إلي ضآلة حصيلتها ولأن واقعتها المنشئة– وهي الوفاة– لا يترتب عليها تركيز الثروة . بل تفتيتها. وخلصت المحكمة إلي أن فرض ضريبة الأيلولة مصادم لأحكام المواد 2، 34، 38، 61، 119 من الدستور (19).

سادساً : عمومية الضريبة والمساواة أمامها وعلاقتها بالعدالة الاجتماعية:

فالعدالة الاجتماعية ينافيها أن يقتصر فرض الضريبة علي فئات دون أخري رغم توافر مناط استحقاقها فيهم جميعاً ، مما يعد إخلالاً بحقوق الفئات التي أخضعها القانون للضريبة – بتحميلهم وحدهم أعباءها كاملة – وإعفاء الآخرين منها دون مقتضي.(20) وهو كذلك ما عكسته العديد من أحكام المحكمة الدستورية ، ومن ذلك الحكم الصادر بعدم دستورية نص البند (6) من الجدول المرفق بقانون الضريبة على الاستهلاك الصادر بالقانون رقم 133 لسنة 1981 ، الذي أشرنا إليه سابقاً ، فقد ذهبت المحكمة إلى مخالفته مبدأ المساواة إذ فرق بين المكلفين بالضريبة عن السكر – وهو الوعاء الحقيقي لها – تبعاً لاختلاف أوزان عبواته ، إذ يتحمل أصحاب العبوات الأثقل وزناً بعبء ضريبي أكبر من أصحاب العبوات الأخف وزناً.

سابعاً : عدم وضع ضوابط وأسس موضوعية فى تقدير العبء الضريبى يخالف العدالة الاجتماعية:-

ذهبت المحكمة إلى أن الدستور ، وإن قرن العدل بكثير من النصوص التي تضمنها ، كالمواد ( 4 ، 23 ، 53 ، 57 ) ، وخلا في الوقت ذاته من تحديد معناه ، إلا أن مفهوم العدل يتغيا التعبير عن تلك القيم الاجتماعية التي لا تنفصل الجماعة في حركتها عنها ، والتي تبلور مقاييسها فى شأن ما يعتبر حقاً لديها ، فلا يكون العدل مفهوماً مطلقاً ثابتاً باطراد ، بل مرناً ومتغيراً وفقاً لمعايير الضمير الاجتماعي ومستوياتها ، وهو بذلك لا يعدو أن يكون نهجاً متواصلاً منبسطاً على أشكال من الحياة تتعدد ألوانها ، وازناً بالقسط تلك الأعباء التى يفرضها المشرع على المواطنين ، فلا تكون وطأتها على بعضهم عدواناً ، بل تطبيقها فيما بينهم إنصافاً ، وإلا صار القانون منهياً للتوافق فى مجال تنفيذه ، وغدا إلغاؤه لازماً

وأضافت المحكمة أن الأعباء التى يجوز فرضها على المواطنين بقانون أو فى الحدود التى يبينها وسواء كان بنيانها ضريبة أو رسماً أو تكليفاً آخر هى التى نظمها الدستور بنص المادة (119) ؛ وكانت المادة (38) من الدستور ، وإن خص بها النظام الضريبى ، متطلباً أن تكون العدالة الاجتماعية مضموناً لمحتواها ، وغاية يتوخاها ، فلا تنفصل عنها النصوص القانونية التى يقيم المشرع عليها النظم الضريبية على اختلافها ، إلا أن الضريبة بكل صورها ، تمثل فى جوهرها عبئاً مالياً على المكلفين بها ، شأنها فى ذلك شأن غيرها من الأعباء التى انتظمتها المادة (119) من الدستور ، ويتعين بالتالى وبالنظر إلى وطأتها أن يكون العدل من منظور اجتماعى ، مهيمناً عليها بمختلف صورها ، محدداً الشروط الموضوعية لاقتضائها ، نائياً عن التمييز بينها دون مسوغ ، فذلك وحده ضمان خضوعها لشرط الحماية القانونية المتكافئة التى كفلها الدستور للمواطنين جميعاً فى شأن الحقوق عينها ، فلا تحكمها إلا مقاييس موحدة لا تتفرق بها ضوابطها .

واستطردت المحكمة قائلة إن البند ( ج ) من المادة (75) المطعون عليه فى النطاق المحدد لم يضع معياراً ، تُحدد على أساسه قيمة الأراضى الزراعية الكائنة فى ضواحى المدن ، فى الأحوال التى تُحصل الرسوم النسبية على أساسها ، معتداً فقط بالقيمة التى يوضحها الطالب . غير أنه لم يركن إلى ذلك ، فاتخذ من الجباية منهاجاً له ، إذ عوّل على نظام التحري الذى يقوم به قلم الكتاب عن القيمة الحقيقية للأراضي المشار إليها ، تمهيداً لإخضاع ما قد يظهر من زيادة فى هذه القيمة لرسوم تكميلية ، بعد الحكم فى الخصومة القضائية ، واستكمال إجراءاتها ، دون أن يضع معايير دقيقة تنضبط بها أسس التقدير ، متوخياً أن يوفر عن طريقها وعلى غير أسس موضوعية موارد للدولة تعينها على إشباع جانب من احتياجاتها ، وهو ما يعنى ملاحقتها للممولين من أجل استئدائها ، تأميناً لمبلغها بعد أن أدرجها بموازنتها على ضوء توقعها الحصول عليها من خلال الرسوم القضائية وجنوحها بالتالى إلى المغالاة فى تقدير رسومها ، فكان طلب تلك الرسوم التكميلية من ذوى الشأن مصادماً لتوقعهم المشروع ، فلا يكون مقدارها معروفاً قبل انعقاد الخصومة القضائية ، ولا عبؤها ماثلاً فى أذهانهم عند التقاضي ، فلا يزنون خطاهم على ضوء تقديرهم سلفاً لها ، ولا يعرفون بالتالى لأقدامهم مواقعها ، بل يباغتهم قلم الكتاب بها ، ليكون فرضها نوعاً من المداهمة التى تفتقر لمبرراتها ، وعدواناً على الملكية الخاصة من خلال اقتطاع بعض عناصرها دون مسوغ

وبناء عليه ، خلصت المحكمة إلى أن نظام التحرى على إطلاقه المنصوص عليه فى البند (ج) من (ثانياً) من المادة (75) مخالفاً لأحكام المواد (32،34،38،119،120) من الدستور ، وانتهت إلى القضاء بعدم دستورية نص البند (ج) من (ثانياً) من المادة (75) من القانون رقم 90 لسنة 1944 بالرسوم القضائية ورسوم التوثيق فى المواد المدنية ، فيما لم يتضمنه من وضع ضوابط وأسس موضوعية لنظام التحرى عن القيمة الحقيقية للأراضي الزراعية الكائنة فى ضواحى المدن ، وتحصيل رسم عن الزيادة التى تظهر فى هذه القيمة(21)

خاتمة

إن المتقصي لكثير من أحكام القضاء الدستوري في مصر سوف يلحظ – دون عناء – أن المجال الرئيس ، الذي حظي بالنصيب الأوفى من الأحكام الصادرة بعدم الدستورية لمجافاة مبدأ العدالة الاجتماعية ، هو المجال الضريبي ، والعلة في ذلك تكمن – فيما نري – في الأسباب الآتية :

السبب الأول:- وجود النص الدستوري الصريح الذي يقيم النظام الضريبي علي أساس العدالة الاجتماعية ، فقد حرص القاضي الدستوري على تحرى أوجه مخالفة النصوص التشريعية لهذا المبدأ . والمفارقة الواضحة ، أنه علي الرغم من وجود النص الدستوري الصريح الذي يخص النظام الضريبي باتخاذ العدالة الاجتماعية دعامة له ، فإن هذا لم يحل دون وقوع النتيجة التي أشرنا إليها ، وهي أن قدراً كبيراً من الأحكام التي بنيت علي مخالفة ضوابط العدالة الاجتماعية كانت في التشريعات الضريبية ، وكأن وجود النص الدستوري الصريح لم يكن ذا أثر ناجع في ضبط التشريع الضريبي وقده علي أساس القيم والمبادئ الدستورية موضوعه .

السبب الثاني:- التعديل الذي أصاب قانون المحكمة الدستورية العليا بالقرار بقانون رقم 168 لسنة 1998، والذي حظر الأثر الرجعي للأحكام الصادرة بعدم دستورية نص ضريبي، إذ مثل هذا التعديل – وما أعقبه من تقرير المحكمة الدستورية العليا لدستوريته – سياجاً آمناً ودافعاً حافزاً ومشجعاً للمشرع في المجال الضريبي إلى حد كبير، فلم يعد ثمة عامل ضاغط علي المشرع لتحري ضوابط العدالة الاجتماعية في التشريع الضريبي بالدقة اللازمة ، إذ في كل الأحوال لن يرد مال تم تحصيله بالمخالفة لأحكام الدستور ، بعد أن حد المشرع من الأثر الرجعى لأحكام المحكمة الدستورية العليا فى المجال الضريبي . وأياً ما كان وجه الرأي فيما جاء به القرار بقانون رقم 168 لسنة 1998- سيما وقد قطعت المحكمة الدستورية العليا بدستوريته وانحسم أمره ، فإنه يتعين على المشرع أن يدرك دائماً أن مراعاة الضوابط الشكلية والموضوعية في التشريع الضريبي تصب في النهاية في مصلحة الأداء العام للجهاز الحكومي إذ لا شك في أن تقرير عدم دستورية نص ضريبي ما بما يفرضه من ضريبة تساهم مع سائر الإيرادات العامة في توجيه وتمويل الإنفاق العام ، كل أولئك سوف يؤدى إلى إرباك خطط الإنفاق العام وما يكتنفها من عمليات تنمية في شتى المجالات .

السبب الثالث:- وجود العوامل الاقتصادية الضاغطة التي تدفع المشرع في كثير من الأحيان – وتحت وطأة الحاجة إلى تمويل النفقات العامة - للبحث عن الأموال وتحصيلها من خلال الإيرادات العامة ومصادرها المختلفة وعلى رأسها الضرائب ، وذلك دون إجراء الدراسات والأبحاث المستفيضة حول التشريعات الضريبية المقترحة . فصار واضع التشريع الضريبي يسعى وراء الوقائع والأموال التي يفرض عليها الضريبة ، حتى وإن كانت هذه الأموال أو تلك الوقائع ، مما لا يخضع للضريبة عادة في دول أخري . ولا شك أنه مهما كانت النوايا والغايات نبيلة المقاصد ، فإن الوصول إليها يتعين هو الآخر، أن يكون بالوسيلة المسموح بها من الناحية الدستورية .

وبعد فقد كانت هذه بعض لمحات من الدور الكبير الذى اضطلعت به ومازالت المحكمة الدستورية العليا فى حمايتها لمبدأ العدالة الاجتماعية وتحديد معالمه واستكناه بنيانه . وهو دور لاشك عظيم ساهم بشكل فعال فى إرساء معالم دولة سيادة الدستور والقانون فى مصر . جزي الله رجال هذه المحكمة بما قدموا ، وجعل من رسالتها خيراً لهذا الوطن

المستشار الدكتور/ حسام فرحات أبويوسف



(1) ومن ذلك:-

الدستور الكويتي:- إذ نصت المادة (20 ) منه على أن الاقتصاد الوطني أساسه العدالة الاجتماعية ، وقوامه التعاون العادل بين النشاط العام والنشاط الخاص ، وهدفه تحقيق التنمية الاقتصادية وتحقيق الرخاء للمواطنين ، وذلك كله في حدود القانون . كما نصت المادة (22 ) من ذات الدستور على أن ينظم القانون ، على أسس اقتصادية مع مراعاة قواعد العدالة الاجتماعية ، العلاقة بين العمال وأصحاب العمل ، وعلاقة ملاك العقارات بمستأجريها . ونصت المادة (24 ) على أن العدالة الاجتماعية أساس الضرائب والتكاليف العامة .

الدستور القطري: إذ نصت المادة (18 ) منه ، والتي جاءت في صدر الباب الثاني الخاص بالمقومات الأساسية للمجتمع ، وقد نصت على أن يقوم المجتمع القطري على دعامات العدل ، الإحسان ، والحرية ، والمساواة ، ومكارم الأخلاق . ونصت المادة ( 28 ) من ذات الدستور على أن تكفل الدولة حرية النشاط الاقتصادي على أساس العدالة الاجتماعية والتعاون المتوازن بين النشاط العام والخاص، لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية ، وزيادة الإنتاج ، وتحقيق الرخاء للمواطنين ، ورفع مستوي معيشتهم وتوفير فرص العمل لهم ، وفقا لأحكام القانون . كما نصت المادة (30 ) على أن العلاقة بين العمال وأرباب العمل أساسها العدالة الاجتماعية وينظمها القانون ونصت المادة ( 43 ) على أن الضرائب أساسها العدالة الاجتماعية ، ولا يجوز فرضها إلا بقانون.

الدستور الإماراتي الاتحادي:- إذ نصت المادة (14 ) منه على أن المساواة والعدالة الاجتماعية وتوفير الأمن والطمأنينة ، وتكافؤ الفرص لجميع الموطنين من دعامات المجتمع والتعاضد والتراحم صلة وثقي بينهم . ونصت المادة ( 24 ) على أن الاقتصاد الوطني أساسة العدالة الاجتماعية وقوامه التعاون الصادق بين النشاط العام والنشاط الخاص وهدفه التنمية الاقتصادية وزيادة الإنتاج ورفع مستوى المعيشة وتحقيق الرخاء للمواطنين في حدود القانون ويشجع الاتحاد التعاون والادخار.

الدستور البحريني:- إذ نصت المادة ( 4 ) منه على أن العدل أساس الحكم ، والتعاون والتراحم صلة وثقي بين المواطنين ، والحرية والمساواة والأمن والطمأنينة والعلم والتضامن الاجتماعي وتكافؤ الفرص بين المواطنين دعامات للمجتمع تكفلها الدولة كما نصت المادة (9) بند (هـ) على أن ينظم القانون ، على أسس اقتصادية ، مع مراعاة العدالة الاجتماعية ، العلاقة بين ملاك الأراضي والعقارات ومستأجريها . ونصت المادة (10) بند أ على أن الاقتصاد الوطني أساسة العدالة الاجتماعية ، وقوامه التعاون العادل بين النشاط العام والنشاط الخاص ، وهدفه التنمية الاقتصادية وفقاً لخطة مرسومة ، وتحقيق الرخاء للمواطنين ، وذلك كله في حدود القانون ونصت المادة (15) بند (أ) على أن الضرائب والتكاليف العامة أساسها العدالة الاجتماعية ، وأداؤها واجب وفقاً للقانون

دستور سلطنة عمان:- إذ نصت المادة (11) منه على أن الاقتصاد الوطني أساسه العدالة ومبادئ الاقتصاد الحر، وأن الضرائب و التكاليف العامة أساسها العدل وتنمية الاقتصاد الوطني.

الدستور السوداني:- إذ نصت المادة (10) بند (1) منه ، والتي جاءت تحت الفصل الثاني المنظم للمبادئ الهادية والموجهات الخاصة بالاقتصاد الوطني ، وقد نصت على أن تكون الأهداف الأشمل للتنمية الاقتصادية هي القضاء على الفقر وتحقيق أهداف ألفية التنمية وضمان التوزيع العادل للثروة وتقليص التفاوت في الدخول وتحقيق مستوى كريم من الحياة لكل المواطنين وأفرد الدستور السوداني في الفصل الثاني من الباب الأول نصاً صريحاً خاصاً بالعدالة الاجتماعية ، فنصت المادة (12) على أن (1) تضع الدولة استراتجيات وسياسات تكفل العدالة الاجتماعية بين أهل السودان كافة ، وذلك عن طريق تأمين سبل كسب العيش وفرص العمل وتشجيع التكافل والعون الذاتي والتعاون والعمل الخيري (2) لا يحرم أي شخص مؤهل من الالتحاق بأي مهنه أو عمل بسبب الإعاقة ، ولجميع الأشخاص ذوى الحاجات الخاصة والمسنين الحق في المشاركة في المناشط الاجتماعية أو المهنية أو الإبداعية أو الترفيهية

(2) الغرض من التعديل كما ورد فى طلب السيد رئيس الجمهورية بتعديل بعض مواد الدستور .

(3) الحكم الصادر في القضية رقم 8 لسنة 16 قضائية دستورية بجلسة 5 أغسطس سنة 1995.

(4) سورة النساء، أية 58.

(5) سورة المائدة، أية 8.

(6) قضاء متواتر للمحكمة الدستورية العليا ، ومن ذلك يراجع الحكم الصادر في القضية رقم 33 لسنة 16 قضائية دستورية بجلسة 3 فبراير 1996.

(7) يراجع الحكم الصادر في القضية رقم 76 لسنة 22 قضائية دستورية بجلسة 7 يونيو 2002.

(8) ذات الحكم السابق.

(9) الحكم الصادر في القضية رقم 5 لسنة 10 قضائية دستورية بجلسة 19 يونيو سنة 1993.

(10) ففي إطار فروع القانون المختلفة نجد أن قانون العقوبات يلجأ إلى فكرة التناسب لحل مشكلة الدفاع الشرعي مثلاً، والذي يعتبر في الأصل جريمة معاقب عليها ، بيد أنها تخضع لسبب إباحة يشترط فيه لزومه وتناسبه مع الخطر الحال الذي يستحيل دفعه بالالتجاء إلى السلطات العامة , على أن يكون التناسب متحققاً بين الوسيلة التي كانت في متناول المعتدى عليه وبين الوسيلة التي استعملها بالفعل. (لمزيد من التفصيل انظر الدكتور / محمود محمود مصطفى , شرح قانون العقوبات ، القسم العام ، الطبعة العاشرة ، ص 245). وفي إطار القانون الدولي العام , وأحد أقسامه القانون الدولي للبحار ، نجده يلجأ إلى فكرة التناسب لحل مشكلاته , فكثيراً ما لجاً القضاء الدولي إلى الاستعانة بها للفصل في منازعاته , فقد ذهبت محكمة العدل الدولية إلى أنه يعتبر تحقيق نوع من التناسب بين طول الشواطئ ومدى الامتداد القاري الخاص بها متفقاً مع تحقيق العدالة ، ولذلك أكدت المحكمة أن مبدأ التناسب يعد عاملاً يمكن اللجوء إليه بين عوامل أخرى .(لمزيد من التفصيل انظر الدكتور / أحمد أبو الوفا محمد ، القانون الدولي للبحار ، الطبعة الأولى ، دار النهضة العربية ، القاهرة 1988 – 1989 ص 300 , 301) . وفي إطار القانون الإداري , يلجأ القضاء الإداري إلى فكرة التناسب في مجال الرقابة على الجزاءات التأديبية الموقعة على الموظفين العموميين, فالسلطة التقديرية لجهة الإداري تجد حدها عند ظهور عدم تناسب بين المخالفة التأديبية وبين الجزاء الموقع عنها, وهو ما يعبر عنه بالغلو في تقدير الجزاء ، الذي يصم الإجراء التأديبي بعدم المشروعية ويجعله واجب الإلغاء. (لمزيد من التفصيل انظر الدكتور / محمد ماهر أبو العينين / التأديب في الوظيفة العامة ص 960 وما بعدها) .

(11) وفى إطار القانون والقضاء الدستوريين ، يحاول الدكتور/ جورجي شفيق ساري بيان دور القاضي الدستوري في رقابته للتناسب في إطار الخطوات التالية:-

يستحضر القاضي أمامه كل مكونات الموضوع , والتي تتمثل في النص موضوع الرقابة ، ونصوص الدستور، وأي نصوص أخرى متعلقة بالموضوع , وأي قواعد تمس ذات الموضوع.

يقوم القاضي بالمراحل الذهنية الآتية:-

تحليل النص ذاته ومدى ارتباطه بالغرض المقصود تحقيقه من ورائه.

بحث مدى توافق النص مع الغرض منه , ومدى قدرة النص على تحقيق الهدف الذي صدر من أجل تحقيقه.

بحث علاقة هذا الهدف والوسيلة إلى تحقيقه بالنصوص الدستورية ، ومدى توافقهما مع الأحكام التي تضمنها الدستور, والضمانات التي أشتمل عليها , خاصة إذا كانت تتعلق بحقوق وحريات الأفراد.

إذا كان النص يشتمل على تقييد أو تحديد أو يتضمن وضع شروط أو ضوابط على حق معين أو حرية معينة , فيقوم القاضي ببحث مدى جواز ذلك ، وما إذا كانت السلطة التي وضعت مثل هذه القيود والشروط تملك ذلك أم لا , وما إذا كان الهدف الذي تسعى إلى تحقيقه من وراء ذلك – وهو غالباً الصالح العام – يمكن أن يبين ذلك ، وما إذا كانت هذه القيود أو الشروط ، تؤدي إلى التأثير على وجود الحق ذاته بحيث تعرض هذا الوجود للخطر, وما إذا كان ذلك يتخطى حدود تنظيم ممارسة الحرية ووضع ضوابط لاستعمالها إلى حد مصادرتها.

وباختصار فإن القاضي في هذه المرحلة يطرح على نفسه التساؤل الآتي:- هل هناك مساس؟.

ثم يضع القاضي كل ذلك في الميزان ، فيضع الهدف الذي تريد السلطة التي أصدرت النص تحقيقه – وهو كما قلنا الصالح العام في الغالب مع وسيلة تحقيقه أو الوصول إليه, يضع ذلك في كفه, ثم يضع الحرية أو الحق الذي يمسه هذا النص مع نصوص وأحكام الدستور, والضمانات التي تتضمنها على الكفة لأخرى.

يقوم القاضي بعملية الميزان, ويبحث مدى تقارب الكفتين من تباعدهما، ويضع في حسابه وهو يقوم بهذه العملية وكل الاعتبارات الأخرى حتى الواقعية, فعملية الرقابة ليست عملية مجردة بشكل مطلق، وفي هذه المرحلة يطرح القاضي على نفسه السؤال الآتي:- هل هناك عدم تناسب ؟.

يصل قاضي الرقابة إلى النتيجة , وهي أحد أمرين لا ثالث لهما:-

- إما أن تكون الكفتان متساويتين أو متقاربتين, وفي هذه الحالة فإنه يقضي بصحة النص أو توافر التناسب فيه.

- وإما على النقيض – أن تكون الكفتان متباعدتين بدرجة كبيرة , فإنه يقضي بعدم سلامة النص من الناحية الدستورية لانتفاء التناسب فيه , ودور قاضي رقابة التناسب هنا هو دور مضني وشاق , ومما قد يزيد من شقائه أن النصوص لا تتضمن عادة الإشارة الصريحة إلى وجوب تحقق التناسب.

(لمزيد من التفصيل حول رقابة التناسب في نطاق القانون الدستوري يراجع مؤلف الدكتور / جورجي شفيق ساري، رقابة التناسب في نطاق القانون الدستوري . دراسة تحليلية تطبيقية مقارنة لبعض الأنظمة / دار النهضة العربية ،2000)

(12) الحكم الصادر في القضية رقم 43 لسنة 13 قضائية دستورية بجلسة 6 ديسمبر 1993، وفيه انتهت المحكمة إلي عدم دستورية القانون رقم 2529 لسنة 1989 بفرض ضريبة علي مرتبات العاملين المصريين بالخارج.

(13) الحكم الصادر في القضية رقم 125 لسنة 18 قضائية دستورية بجلسة ديسمبر سنة 2005.

(14) يراجع الحكم الصادر في القضية رقم 18 لسنة 15 قضائية دستورية بجلسة 11 ديسمبر سنة 2005.

(15) يراجع تقريرنا في القضية رقم 131 لسنة 26 قضائية دستورية.

(16) الحكم الصادر في القضية رقم 33 لسنة 16 قضائية دستورية بجلسة 3 فبراير سنة 1996.

(17) يراجع حكم المحكمة في القضية رقم 332 لسنة 23 قضائية دستورية بجلسة 8 مايو 2005.

(18) يراجع حكم المحكمة في القضية رقم 90 لسنة 21 قضائية دستورية بجلسة 31 يوليو 2005.

(19) يراجع حكم المحكمة في القضية رقم 28 لسنة 15 قضائية دستورية بجلسة 5 ديسمبر 1998.

(20) يراجع الحكم الصادر في القضية رقم 43 لسنة 17 قضائية دستورية بجلسة 2 يناير 1999.

(21) يراجع الحكم الصادر في القضية رقم 308 لسنة 24 قضائية دستورية بجلسة 11يونيو2006.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق