الجمعة، 4 ديسمبر 2015

حجية أحكام القضاء الدستوري وآثارها

حجية أحكام القضاء الدستوري وآثارها
بقلم المستشار الدكتور / حمدان حسن فهمي
رئيس هيئة المفوضين بالمحكمة الدستورية العليا
منشور بمجلة الدستورية – العدد السادس عشر – السنة السابعة – أكتوبر 2009

مقدمة:
في غضون عام 1998، وإثر صدور عدة أحكام عن المحكمة الدستورية العليا تتصل بقانون إيجار الأماكن وبعض النصوص الضريبية، احتدم الجدل حول آثار الأحكام الصادرة عن هذه المحكمة بعدم دستورية مثل هذه النصوص التشريعية، فذهب البعض إلى سريان هذه الأحكام بأثر رجعي وفقاً لنص المادة (49) من قانون المحكمة الدستورية العليا, وحفظاً للحقوق من أن تنتهك بنصوص قانونية مخالفة للدستور.
في حين ذهب البعض الآخر إلى أن هذه الأحكام يلزم إعمالها بأثر مباشر وفقا لذات النص القانوني حتى لا تهتز العلاقات الاجتماعية والأوضاع الاقتصادية في الدولة، ونادي بعض أعضاء مجلس الشعب في ذلك الحين بإصدار قانون يقضى بأن تعرض أحكام المحكمة الدستورية العليا على المجلس التشريعي ذاته ليقرر تنفيذها من عدمه!!
وفى ظل هذا الجدل ارتأيت إعداد دراسة يُلقى فيها الضوء مركزاً على هذا الجانب عظيم الأهمية من جوانب الرقابة على دستوريـة التشريعـات، خاصة وان غالبية كتب الفقه لم تكن تخصص لأثار الأحكام الصادرة عن القضاء الدستوري إلا النذر اليسير من الصفحات  تردد فيها نص المادة (49) من قانون المحكمة الدستورية العليا وما ورد بالمذكرة الإيضاحية في شأنها. فرأيت أن أسلك في بحث هذه المسألة مسلكا، أحسبه غير مسبوق، تتحدد فيه حجية هذه الأحكام وآثارها في ضوء النصوص الدستورية والقانونية من ناحية,وفي ضوء محل الدعوى المطروحة علي القضاء الدستوري ذاته، والنتيجة التي تنتهي إليها المحكمة في شانها من ناحية أخرى. وكان أن سجلت خطة هذه الدراسة كرسالة دكتوراه بكلية الحقوق جامعة الإسكندرية باعتبار أنها كانت موطئاً لعدة ندوات علمية عُقدت فى هذا الشأن, فضلاً عن أنى من خريجي هذا المعهد العريق عام 1979
ونوضح بداءة أن هذا الجدل قد جاء نتيجة لاختلاف فهم نص المادة (49) من قانون المحكمة الدستورية العليا، والخلط بين عدم جواز تطبيق النص المحكوم بعدم دستوريته من اليوم التالى لنشر الحكم فى الجريدة الرسمية من جهة, والآثار الدستورية والقانونية لهذا الحكم من جهة اخرى، ولاعتقاد البعض بأن الأثر الرجعى لا يكون إلا فيما يتعلق بالمسائل الجنائية، فى حين أن هذه المسائل قد يكفى فى شأنها سريان أحكام عدم الدستورية بأثر مباشر لتتحقق مصلحة المتهم أو المحكوم عليه فيها,. وذلك باعمال مبدأ سريان القانون الاصلح للمتهم.(1)
طبيعة القضاء الدستوري :
قد يرد فى بعض الأذهان أن القضاء الدستورى، سواء فى ذلك المحكمة الدستورية العليا ومن قبلها المحكمة العليا، يعتبر قضاء له صبغة سياسية، أو أن هذا القضاء يراعى فى أحكامه ملاءمات سياسية معينة، أو يأخذ فى اعتباره الاتجاه السياسى القائم، وهذا قول غير صحيح من الناحية الدستورية، والقانونية، والواقعية أيضاً. ذلك أن الواقع الاجتماعى من الناحية السياسية أو الاقتصادية أو غيرها إنما يتشكل فى ضوء القواعد الدستورية أو القانونية، ترغيباً أو ترهيباً. وبالتالى فإن القواعد الدستورية وهى ذروة سنام النظام القانونى فى الدولة إذ وضعتها السلطة التأسيسية فى المجتمع تفرض نفسها على هذا الواقع عن طريق جهة القضاء الدستورى، الذى يقف حامياً قضائياً للدستور، ولا يعلى على أحكامه شيئاً واقعياً أو لائحياً أو قانونياً.
أما أن المحكمة الدستورية العليا – ومن قبلها المحكمة العليا – تفصل فى الخصومة الدستورية فى ضوء أحكام الدستور وما يرتبط بها من واقع اجتماعى واقتصادى بل وسياسى أيضاً، ولا تتدخل فى ملائمات التشريع وفقاً لما يقدره المشرع فى ضوء هذه الظروف الواقعية فى المجتمع، فهو قول صحيح. ذلك أن هذه العناصر جميعها سياسية واجتماعية واقتصادية أو غيرها إنما ترتبط بالتشريع ارتباطاً لازماً، ولها اعتبارها الكامل فى هذا الشأن، ولا يصدر التشريع إلا لتنظيم العلاقات الاجتماعية فى ضوء هذه الظروف ذات الاعتبار وفقاً لأحكام الدستور الذى هو نتاج الإرادة الشعبية التى تتشكل فى البيئة التى تحيط بها هذه الظروف جميعها، ومن ثم فلا غرو فى ألا ينفصل القضاء الدستورى عن هذه الظروف التى يتردد صداها فى أحكام الدستور ذاته، هذا وإلا كان القضاء الدستورى معول هدم لا بناء فى المجتمع، حال أنه نشأ للحفاظ على كيان المجتمع ونظامه الأساسى الذى تشكل وتمثل فى أحكام الدستور، الشكلية منها والموضوعية.
وهذا ما دفعنا إلى تأكيد الصفة القضائية لجهة القضاء الدستورى فى مصر لإزالة هذه الشبهة من الأذهان, وأوضحت - فى ضوء معايير تميز العمل القضائى - أن أحكام القضاء الدستورى بالنظر إلى تشكيل الهيئة التى تصدر عنها وتوافر عناصر الحيدة والاستقلال فى أعضائها من ناحية، والإجراءات التى تتبع أمامها والضمانات التى تتوافر لديها من ناحية أخرى، تُعد جهة قضاء بالمعنى الحقيقى للكلمة.
هل تعود رقابة الامتناع؟
 لقد تناولت تطور الرقابة على دستورية التشريعات، سياسية كانت أم قضائية,مع التركيز علي الرقابة القضائية التي بدأت برقابة الامتناع وانتهت بالرقابة المركزية التى تناط بهيئة قضائية تقوم وحدها على هذه المهمة، وعرضت لما استبان من ارتداد بعض المحاكم إلى الوراء، ومباشرة رقابة الامتناع حال قيام جهة القضاء الدستورى، إذ صدربجلسة 28/4/2004  حكم عن دائرة الأربعاء الجنائية (ب) بمحكمة النقض فى الطعن رقم 30342 لسنة 70 ق.انتهي إلى عدم دستورية بعض نصوص قانون الكسب غير المشروع استناداً إلى ذات الحجج التى استندت إليها محكمة القضاء الإدارى عام 1948 لمباشرة رقابة على دستورية التشريعات عن طريق الامتناع عن تطبيق النص التشريعى المخالف للدستور.
ورغم صحة ما ذهبت إليه محكمة النقض فى هذا الحكم من وجوب خضوع التشريع الأدنى لأحكام التشريع الأعلى فى تدرج التشريعات، إلا أن الاستناد لمبدأ تدرج التشريعات فى هذا المجال جاء فى غير محله، ذلك أن هذا المبدأ لا يؤدى إلى تغيير قواعد الاختصاص بالرقابة على دستورية التشريعات إذا ما ناطها المشرع الدستورى أو العادى إلى محكمة معينة بنصوص صريحة، ولم تقر هذه النصوص اختصاصاً مزدوجاً فى هذه المسألة الهامة.
وإذا كان صحيحاً أن المحاكم على اختلاف درجاتها وأنواعها عليها أن تلتزم بأحكام التشريعات جميعها، بما فيها أحكام الدستور ذاته، إلا أنه فى حالة الرقابة المركزية على دستورية التشريعات – فى ضوء النصوص الدستورية والقانونية القائمة – فإنه إذا رأت أى محكمة أن ثمة نص فى قانون أو لائحة يعارض حكما فى الدستور، فإن عليها أن تحيل أمر الفصل فى دستوريته إلى المحكمة المختصة بذلك، لا أن تمتنع عن تطبيق هذا النص من تلقاء نفسها، وإلا تكون قد باشرت اختصاصاً ناطه المشرع بجهة قضائية غيرها، ولم يعقده لها.
كذلك فإن رقابة المشروعية أو حالات التعارض بين نصوص القوانين ذات المرتبة الواحدة التى تنحيها المحكمة الدستورية العليا لدى مباشرتها اختصاصاتها تختلف فى طبيعتها وطرق مباشرتها عن رقابة دستورية التشريعات التى نيطت بها. وبالتالى فإن قياس الأخيرة على الأولى غير جائز.
وكذلك فإنه ليس صحيحاً الاستشهاد فى هذا المجال باختصاص المحكمة الدستورية العليا بتفسير النصوص القانونية، وبما جاء بالمذكرة الإيضاحية لمشروع قانون هذه المحكمة رقم 48 لسنة 1979 من أن هذا الاختصاص لا يصادر حق جهات القضاء الأخرى جميعاً فى تفسير القوانين وإنزال تفسيرها على الواقعة المعروضة عليها. ذلك أن اختصاص المحكمة الدستورية العليا بتفسير نصوص القوانين – والقرارات بقوانين – تفسيراً ملزماً يعد جزءً لا يتجزأ من النص المفسَّر، يختلف عن اجتهاد المحاكم عامة فى تفسير النصوص التشريعية طالما لم يصدر بشأنها تفسير ملزم من المحكمة الدستورية العليا، على نحو ما جاء بالمذكرة الإيضاحية ذاتها، وعلى نحو ما أورده الحكم المشار إليه ذاته.
وكذلك فإن إلغاء النصوص التشريعية – أو نسخها على نحو ما عبرت به محكمة النقض فى حكمها المشار إليه – صراحة أو ضمناً بتشريع لاحق، من ناحية، والرقابة القضائية على دستوريـة التشريعات، من ناحية أخرى، أمران يختلف كل منهما عن الآخـر، ولا يتداخلان، ولا يغنى التقرير بأحدهما عن الآخر. ومن ثم فلا يصح الاستدلال بجواز نسخ نصوص الدستور لنصوص تشريعية أخرى للقول بجواز مباشرة المحاكم جميعها لرقابة الدستورية عن طريق الامتناع عن تطبيق النصوص التشريعية التى ترى مخالفتها للدستور، حال النص فى الدستور ذاته على اختصاص المحكمة الدستورية العليا دون غيرها بهذه الرقابة، فلا شك أن هذا النص الدستورى من بين النصوص التى تسمو على غيرها من النصوص أو الاتجاهات أو الاجتهادات.
وجدير بالذكر ان محكمة النقض كانت قد انتهت فى الطعن رقم 223 لسنة 39 ق. بجلسة 13/5/1974 لدى قيام المحكمة العليا إلى أن الدفع بعدم الدستورية لا يتعلق بالنظام العام, ولذا فما كان يجوز إثارته أمامها لأول مرة، فماذا بها وقد أصبحت تفصل فى المسألة الدستورية بنفسها.
الحجيــة المطلقــة:-
من الطبيعى أن ترتبط حجية الحكم الصادر فى أى دعوى قضائية بمحل هذه الدعوى ذاتها، أى بجوهر النزاع المثار فيها، فإذا كان محل الدعوى حقاً شخصياً كان الحكم الصادر فيها ذا حجية نسبية يقتصر أثرها على الخصوم فى الدعوى أنفسهم، وفى خصوص هذا الحق فقط دون غيره من الحقوق التى قد تثور بشأنها أنزعة فيما بينهم . كذلك فان حجية الأحكام الصادرة عن القضاء الدستورى ترتبط بمحل الدعوى الذى هو موطن النزاع المثار أمام المحكمة، سواء كان ذلك فى الدعاوى الدستورية، أو دعاوى تنازع الاختصاص، أو دعاوى فض تناقض الأحكام القضائية النهائية، أو منازعات التنفيذ الدستورية.
كما ترتبط حجية الأحكام الصادرة عن القضاء الدستوري بالنتيجة التى تنتهى إليها المحكمة ، تلك النتيجة التي هى الغاية من الخصومة القضائية، والتى يبلورها منطوق الحكم الصادر عن المحكمة، وما إذا كانت هذه النتيجة تمثل خطاباً خاصاً إلى أشخاص بعينهم ـ هم أطراف الدعوى ـ أم تمثل خطاباً عاماً موجهاً إلى الكافة .
ولما كان محل النزاع فى الدعوى الدستورية لابد وأن يكون نصاً تشريعياً عاماً ومجرداً , سواء كان النص المطعون فيه قد ورد فى قانون صدر عن السلطة التشريعية، أو كان قد ورد فى قرار له قوة القانون وفقاً لأحكام الدستور، أو كان قد ورد فى لائحة أو قرار تنظيمى عام صدر عن أحد فروع السلطة التنفيذية المختصة، فإن حجية الحكم الصادر عن القضاء الدستورى فى شأن دستوريته لابد وأن تكون عامة مطلقة بقدر عمومية النص المطعون فيه ذاته، إذ الخصومة الدستورية توجه إلى عين النص المطعون فيه، ومن ثم فإن الحكم الصادر فيها لابد وأن يكون ملزماً لكافة المخاطبين بهذا النص، بما فيهم سلطات الدولة جميعها، فضلاً عن الأفراد ذوى الشأن، وذلك دون حاجة إلى النص صراحة على هذا الأمر، وإنما بالنظر إلى محل الدعوى الدستورية ذاتها باعتباره نصاً عاماً مجرداً.
ويرتبط نطاق حجية الحكم الصادر فى الدعوى الدستورية بالنطاق الذى حددته المحكمة لهذه الدعوى ذاتها, وتثبت قوة الأمر المقضى لما يرد بمنطوق الحكم الصادر عن القضاء الدستورى ومايرتبط بهذا المنطوق إرتباطاً لا يقبل الإنفصال عنه. ويقتصر نطاق قوة الأمر المقضى على ماعرض على القضاء الدستورى عرضاً فعلياً وما فصل فيه هذا القضاء فصلاً حاسماً مقصوداً بذاته تبلور فى منطوقه وما ارتبط به من أسباب.
وقد تثبت الحجية المطلقة للحكم الصادر عن القضاء الدستورى بعدم قبول الدعوى  إذا ما إرتبط منطوق الحكم بأسباب تكوِّن معه كلا لا يتجزأ وتجعل منه قضاء له مضمون محدد، مما يلزم أن تثبت له هذه الحجية المطلقة فيما انطوى عليه من قضاء لا يعد بحال قضاءً شكلياً، وإنما يكون قد تضمن حسماً لمسألة دستورية محددة بين دفتيه.
تفسير التشريعـات :
وإذ كشفت هذه الدراسة عن أن قرار التفسير التشريعى يكون ملزماً لكافة السلطات فى الدولة وللأفراد إلزاماً يرتد فى أثره إلى تاريخ العمل بالنص التشريعى محل التفسير، فقد انتهيت إلى أن ما ورد بالمذكرة الإيضاحية لقانون المحكمة الدستورية العليا من أن إختصاصها بالتفسير لا يحول دون مباشرة السلطة التشريعية حقها فى إصدار تشريعات تفسيرية بالمخالفة لما انتهت إليه المحكمة الدستورية العليا ، يعتبر تقريراً خاطئاً، ذلك أن قرار التفسير الذى يصدر عن المحكمة الدستورية العليا يعتبر هو المعبر عن القصد الحقيقى من التشريع, وأن التسليم بما ورد فى المذكرة الإيضاحية يؤدى إلى مكنة تعديل التشريع بأثر رجعى يرتد إلى تاريخ العمل به بغير الطريق الذى رسمه الدستور بذريعة تفسيره.
مشكلة الأثـر الرجعـى:-
وقد عرضت فى تلك الدراسة لآثار الأحكام الصادرة عن القضاء الدستورى فى ضوء التشريعات المتتالية وهى دستور سنة 1964 الذى ترك أمر تنظيم الجهات القضائية عموماً وتعيين اختصاصاتها للقانون، وبالتالى لم يتناول آثار الأحكام الصادرة عن الجهات القضائية ومنها جهة القضاء الدستورى على نحو صريح، وإن كان قد نص على عدم جواز التدخل من أية سلطة فى أمور القضايا أو شئون العدالة، وهذه أمور تتصل بآثار الأحكام القضائية بصفة عامة وإنما بطريق غير مباشر, وذلك باعتبار أن تقييد أو تعديل الآثار المنطقية للأحكام القضائية أو وقف جريان هذه الآثار ما هو إلا تدخل فى أمور القضايا التى صدرت فيها, وما هو ألا تدخل فى شئون العدالة, وما هو إلا وسيلة فاعلة فى إعاقة تنفيذ الأحكام القضائية, ولذلك فقد احسن المشرع صنعا لدى قيام المحكمة  العليا إذ لم ينظم آثار الأحكام الصادرة عنها تنظيما خاصا, بل تركها للقواعد العامة فى ضوء طبيعة هذه الأحكام والقرارات.
وقد جاء دستور سنه 1971تاركاً للمشرع العادى تنظيم ما يترتب على الحكم بعدم الدستورية من أثار , ولاشك أن ذلك يكون بمراعاة القواعد الدستورية الأخري. كما جاء قانون المحكمة الدستورية العليا الصادر بالقانون رقم 48لسنه 1979ولم يفرق بين الأحكام الصادرة في الدعاوي الدستورية بالنظر إلى الموضوع الذى تناوله النص التشريعى المطعون فيه بالتنظيم, وإنما وضع  قاعدة عامة تسرى فى هذا الشأن فيما يتعلق بجميع الأحكام الصادرة في موضوع هذه الدعاوي .وقد ارتأيت أن ترك هذه المسألة للقواعد العامة  يصل بالدعوى الدستورية إلى مبتغاها فى إقرار الشرعية الدستورية وإهدار ما يناقض أحكام الدستور من تشريعات وذلك قياساً على دعوى الإلغاء التى توجه الخصومة فيها إلى القرار الإدارى ذاته, إذ إن الحكم بإلغاء القرار الإدارى يفيد إعدامه واعتباره كأن لم يكن ،ويزيل كل أثر لهذا القرار الإدارى غير المشروع. كذلك فإن الحكم الصادر عن القضاء الدستورى فى الدعوى الدستورية بعدم دستورية النص المطعون فيه، يكشف عن بطلان النص المقضى بعدم دستوريته منذ صدوره ويرتب اعتباره كأن لم يكن، على نحو يوجب إزالة كافة الآثار التى رتبها هذا النص فى الماضى، وإهدار كل ما بنى على هذا النص غير الدستورى، باعتبار أن العمل به وتطبيقه كان خطأً دستورياً.
 وفي نظري انه لولا التباس أمر دستورية التشريعات وعظمه, لما كان للنص التشريعى المخالف للدستور – شكلاً أو موضوعاً – من مجال للتطبيق, باعتبار أن مخالفة هذا النص التشريعى لنصوص الدستور، سواء لنصوصه الصريحة أو لمقتضى أحكامه وفحواها, لا يعدو أن يكون تعديلاً للدستـور لا يملكه المشرع العادى أو السلطـة التنفيذيـة, وبالتالى لا يكون ثمة محل لسريانه أو إعمال مقتضاه تجاه أى من سلطات الدولة أو حتى الأفراد ، ذلك أن المقرر أن إلغاء التشريع لا يكون إلا بتشريع مماثل له فى درجته أو من درجة تعلوه, ولكن لدقة هذا الأمر وخطورته ، كان لابد من أن يناط أمره بجهة قضائية عالية بعلو قدره، مع التسليم بالأثر الرجعى لأحكامها, حتى لا يغدو أمر الرقابة على الشرعية الدستورية هباء, وحتى لا يسلط تشريع أدنى على تشريع يعلوه فى مراتب التدرج التشريعى.
لماذا تُستثنى الأحكام الباتة ؟
عندما صدر قانون المحكمة الدستورية العليا فانه لم ينل من الأثر الرجعى للأحكام الصادرة بعدم الدستورية إلا فيما يتعلق بالاستثناء الخاص بالحقوق والمراكز القانونية التى استقرت بحكم قضائى بات أو بانقضاء مدة تقادم, وان كنت اري –تحقيقا للعدالة - أن يجرى اثر الحكم بعدم دستورية النصوص التشريعية- حتى فى غير المجال الجنائى- على إطلاقه، دون أن تحد من أثاره  الأحكام القضائية التى تحوز قوة الأمر المقضى، ذلك أن هذا المبدأ ينال من حقوق من نهض محتفياً إلى استئدائها لاجئاً إلى القضاء, فإذا بسعيه هذا يكون وبالاً عليه, منتقصاً من حقوقه دون غيره ممن تراخى فى ذلك، وهو ما لا يقبله المنطق السليم. خاصة وأنه إذا كان العوار الدستورى للنص التشريعى الذى قضى بعدم دستوريته قد خفى على المشرع ذاته، فلا يكون مقبولاً أن يسأل عنه الأفراد, وأن يلقى عليهم التزام بأن ينشطوا إلى كشفه، ثم ما بال القاضى الذى باشر تطبيق النص التشريعى المخالف للدستور، ألم يكن واجباً عليه أن ينشط إلى معرفة اتفاق هذا النص التشريعى مع الدستور من عدمه, قبل أن يجرى تطبيقه على النزاع المعروض عليه.هذا فضلاً عن أن القضاء بعدم دستورية النص التشريعى قد يكون بسبب عدم استيفائه الأوضاع الشكلية المقررة فى الدستور ,ولا يتصور – فى ضوء ذلك – أن يرتب ما ليس بقاعدة قانونيـة ذات الآثـار التى ترتبها هذه القواعد، كما لا يتصور ألا تظل الكلمة العليـا إلا لأحكام الدستور، إذ يعتبر رد جميع النصوص التشريعية إليها هو الغاية من قيام الرقابة القضائية على دستورية التشريعات, فإذا لم نسلم بالأثر الرجعى المطلق للحكم الصادر بعدم دستورية التشريعات  لأفرغ حق التقاضى من مضمونه، ولفقدت الدعوى القضائية – على كافة مستوياتها – غايتها ونتيجتهـا التى ينبغى أن يجنيهـا المدعى فيها، مما يعد إنكاراً للعدالـة لا يمكن قبوله.
القرار بقانون رقم 168 لسنة 1998 :
       عندما صدر القرار بقانون رقم 168لسنه1998بتعديل الفقرة الثالثة من المادة 49من قانون المحكمة الدستورية العليا أقام المشرع تفرقة بين النصوص التشريعية التى تتناول المسائل الضريبية وبين غيرها من النصوص التشريعية . فجعل القاعدة العامة فى شأن الأولى هى الأثر المباشر للحكم الصادر بعدم دستورية نص ضريبى, أما النصوص التشريعية الأخرى فقد ترك القاعدة العامة فى شأنها كما كانت عليه قبل ذلك, مع منح المحكمة الدستورية العليا السلطة فى أن تحدد تاريخاً معيناً لسريان آثار الحكم الصادر عنها بعدم دستورية نص تشريعى.
ولعل من أهم الآثار التى رتبها صدور القرار بقانون رقم 168 لسنة 1998  - بمفهوم المخالفة -هو تأكيد جريان آثار الأحكام الصادرة عن القضاء الدستورى بعدم دستورية نصوص تشريعية غير ضريبية بأثر رجعى تنطوى تحته كافة الوقائع والعلاقات السابقة على صدور هذه الأحكام والتى جرى فى شأنها تطبيق النص المقضى بعدم دستوريته، وأن هذا القرار بقانون بقدر ما نال وحد من إطلاق الأثر الرجعى للأحكام الصادرة عن القضاء الدستورى بعدم دستورية نصوص تشريعية ضريبية، فقد حسم الخلاف حول إطلاق هذا الأثر الرجعى –أصلاً عاماً – وفقاً للقواعد القانونية السابقة علي هذا التعديل. 
و كان يكفي – في نظري- الاقتصار فى شأن تعديل الفقرة الثالثة من المادة 49 من قانون المحكمة الدستورية العليا على منح المحكمة الدستورية العليا سلطة تنظيم سريان آثار أحكامها الصادرة  بعدم دستورية نصوص تشريعية, وليس الحد من آثارها، ودون تقرير أصل عام فى شأن النصوص الضريبية يقضى بالأثر المباشر للأحكام الصادرة بعدم دستوريتها دون أثر رجعى إلا للمدعى، إذ كان يمكن ان تتولي المحكمة الدستورية العليا علاج أى آثار ضارة بالصالح العام فى كل حالة من هذه الحالات القليلة على حدة ببدائل متعددة, منها على سبيل المثال تنفيذ هذه الأحكام فى سنوات ماليـة قادمة، أو رد ما حصل بالمخالفة للدستور على أقسـاط عدة, بما لا يضر بالمصلحة العامة. وأن هذه البدائل كانت أوفى برعاية الشرعية الدستورية من استثناء النصوص الضريبة من القاعدة العامة فى الأثر الرجعى للأحكام الصادرة بعدم دستورية النصوص التشريعية, وذلك حماية للمبدأ الدستورى الوارد فى المادة 119 من الدستور, والذى يقضى بألا تفرض ضريبة إلا بقانون صحيح يتفق مع أحكام الدستور، ورعاية لحق الملكية الخاصة حتى لا ينتقص منها بغير سند صحيح، ومراعاة لمبدأ المساواة من باب الأولى بين من أدى الضريبة وفقاً لقانون كشف القضاء الدستورى عن عدم دستوريته وبين من تهرب من هذا الالتزام حتى كشف عن وجه الحق فيه، إذ لا خلاف على سقوط الجزاء الجنائى فى هذه الحالة, كما أن المنطق  السليم يأبي أن تتم المطالبة بتنفيذ قانون قضى بعدم دستوريته.
قانون انتخاب رئيس الجمهورية:
    وقد تناولت آثار القرار الصادر عن المحكمة الدستورية العليا بالرقابة السابقة على دستورية القانون المنظم لانتخاب رئيس الجمهورية فى ضوء التعديل الذى أجرى على المادة 76 من الدستور فى 25/5/2005 وانتهيت إلى أن هذا القرار يتمتع بحجية مطلقة تجاه سلطات الدولة والكافة، و أنه لا محل لأن تباشر المحكمة الدستورية العليا رقابة لاحقة على قانون انتخاب رئيس الجمهورية وفقاً للحكم العام الوارد فى المادة 175 من الدستور, باعتبار أن نص المادة 76 من الدستور بعد تعديله – فضلاً عن أنه نص لاحق للأول – يعتبر نصاً خاصاً تقرر به استثناء محدداً من نص المادة 175 من الدستور، ولا يكون ثمة محل لمتابعة هذا التشريع بعد إصداره وفقاً للإجراءات المشار إليها – خاصة فيما يتعلق بالإجراءات السابقة على هذا الإصدار والنواحى الموضوعية التى باشرت المحكمة الرقابة على الدستورية فى شأنها – إلا بسلوك سبل منازعات التنفيذ وفقاً للمادة 50 من قانون المحكمة الدستورية العليا. وأشرت إلى أن المحكمة الدستورية العليا قد انتهجت نهجاً آخر ، فقد جمعت فيما يتعلق بالقانون المنظم لانتخاب رئيس الجمهورية بين الرقابة السابقة على دستورية القوانين والرقابة اللاحقة عليها، وهو ما يتوافق مع ما ذهب إليه الفقهاء الذين لا يؤيدون إتباع أسلوب الرقابة السابقة على دستورية القوانين.
و إذا كان الدستور بموجب التعديل الدستوري للمادة 76 منه قد انتهج أسلوب الرقابة السابقة على دستورية قانون انتخاب رئيس الجمهورية، وكان انتهاج هذا المسلك مبرراً بالنظر إلى أهمية منصب رئيس الجمهورية باعتباره رئيس الدولة، ورأس السلطة التنفيذية فيها، وهو بذلك يمثل ركناً هاماً من أركان الدولة، إذ به تتأكد سيادة الشعب واحترام الدستور، وهو الذى يرعى الحدود بين السلطات المختلفة في الدولة لتؤدى دورها المنوط بها وفقاً للدستور, ولما كانت هذه الاعتبارات جميعها لا تتوافر إلا فى منصب رئيس الجمهورية, فقد انتهيت إلى انه ينبغي أن يقتصر انتهاج أسلوب الرقابة السابقة على الدستورية على القانون المنظم لانتخاب رئيس الجمهورية، دون امتداد هذا الأسلوب إلى مسائل أخرى، ليس ثمة مبرر لاستثنائها من الأصل العام المقرر فى دستور 1971 وهو الرقابة القضائية اللاحقة على دستورية القوانين. وذلك حتى لا تنال حجية القرار الصادر عن المحكمة الدستورية العليا في هذا الشأن من حق الأفراد فى تحريك الرقابة القضائية على دستورية القوانين


=====================================================================
 المراجع :-
 (1):- عرض موجز لأبرز ملامح الرسالة العلمية والتي نال عنها الكاتب درجة الدكتوراه فى الحقوق عن ذات الموضوع من كلية حقوق الإسكندرية في عام 2007 بتقدير جيد جيداً


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق