الثلاثاء، 1 ديسمبر 2015

تأكيد السياسة التشريعية تجاه المحكمة الدستورية العليا - تعليق على القانون رقم 184 لسنة 2008

تأكيد السياسة التشريعية تجاه المحكمة الدستورية العليا
(تعليق على القانون رقم 184 لسنة 2008)
بقلم الأستاذ الدكتور / فتحي فكري
أستاذ ورئيس قسم القانون العام كلية الحقوق – جامعة القاهرة
نشر بمجلة الدستورية – العدد الخامس عشر – السنة السابعة – أبريل 2009

مقدمة
قبل انفضاض دور الانعقاد الثالث من الفصل التشريعي التاسع بأيام قلائل وافق مجلس الشعب على القانون رقم 184 لسنة 2008. وبمقتضى هذا القانون عدل التشريع المنظم للمحكمة الدستورية العليا بإضافة مادة جديدة برقم 44 مكرراً.
وتنص المادة المشار إليها على أنه "استثناء من حكم المادة (41)(1) من هذا القانون تنعقد المحكمة في غرفة مشورة لنظر الدعاوى التي تحال إليها من رئيس المحكمة والتي ترى هيئة المفوضين أنها تخرج عن اختصاص المحكمة أو أنها غير مقبولة شكلاً أو سبق للمحكمة أن أصدرت حكماً في المسألة الدستورية المثارة فيها.
" فإذا توافرت إحدى الحالات المتقدمة أصدرت المحكمة قراراً يثبت في محضر الجلسة مع إشارة موجزة لسببه، وإلا أعادتها لهيئة المفوضين لإعداد تقرير في موضوعها".
وبالرغم أن التعديل أنصب على مادة وحيدة إلا أنه يثير تعليقات عديدة:
1) بادئ ذي بدء نسجل أن التعديل محل البحث هو التعديل العشري الثاني لقانون المحكمة الدستورية العليا. فقد وقع الأول في عام 1998 (تضييق نطاق الأثر الرجعي لأحكام القاضي الدستوري)، وها هو الثاني يقدم في موعده بعد عشر سنوات.
وكما جاء تعديل 1998 على غير توقع(2)، صدر الثاني أيضاً بغتة.
فلم تكن هناك حتى مجرد إرهاصات تلمح إلى وضعه في دائرة اهتمامات البرلمان أو إدراجه على جدول الأعمال من قريب أو بعيد.
يؤكد ما سبق صدور القانون قبل أيام من انتهاء دور الانعقاد(3).
حقاً أنه لا يوجد ما يعوق ذلك قانوناً، إلا أن بعض التشريعات لها من عظم الأهمية ما يوجب الحرص على إتاحة مساحة واسعة المدى لتبادل وجهات النظر حولها داخل القنوات الرسمية وخارجها.
وقانون المحكمة الدستورية العليا من ثلة تلك القوانين، فرقابة الدستورية هي الدرع الذي نقي به المواطن من جور القوانين المقيدة للحقوق، وعسف القرارات المناوئة للحرية في وجودها أو ممارستها.
ولا يعقل وقانون هذه هي بعض أبعاده، أن يفاجأ الرأي العام بإصداره وسرعة نفاذه(4)، دون أدنى حوار يسبقه أو حتى إخبار بالنية في سنّة.
2) على فرض أن هناك دواعي عملية تبرر التعديل وتستدعيه، فإن السؤال يطرح نفسه: لماذا انحصر الأمر في هذا التعديل دون غيره من التعديلات الأخرى التي يلح الفقه على سنها لمزيد من الفاعلية للرقابة الدستورية ؟
ومن أبرز التعديلات المغفلة غياب تنظيم للطعن على رفض القاضي العادي أو الإداري بدرجاته المختلفة جدية الدفع بعدم دستورية نص في قانون أو لائحة، مما يغلق باب المحكمة الدستورية في وجه بعض المنازعات التي تختص بها، ويجعل لقاضي النزاع – خلافاً للدستور(5) – القول الفصل في المسألة الدستورية(6).
ويصعب الدفاع عن أن تلك الثغرة تتدنى أهميتها عن تلك التي صدر تعديل 2008 لرأبها.
فالغالب، وعلى ما أبانته الأعمال التحضيرية، أن تعديل 2008 استهدف مواجهة تزايد حجم المنازعات المطروحة على ساحة المحكمة الدستورية العليا(7).
والتبرير العملي للتعديل لا يدفعنا صوب تأييده ومعاضدته، مهما بلغت أهميته، لأن المبررات العملية تعالج بحلول على شاكلتها، فقد كان يكفي للتغلب على الصعوبة المدعاة زيادة عدد أعضاء المحكمة.
وهذا المخرج على بساطته كان من شأنه أن يجنبنا المثالب التي تطول التعديل وتثقل كافة سلبياته بحيث ترجح كفة مزاياه.
وقصارى القول أن الصعوبات العملية، في الأغلب الأعم، لا تحتاج مواجهتها لتدخلات تشريعية، أما المعضلات القانونية كقضية منع الطعن الدستوري من أن يجد سبيله لقاضيه الطبيعي (المحكمة الدستورية العليا)، فمعضلة قانونية، يستحيل إيجاد مخرج لها دون السير في طريق التعديل التشريعي.
3) تطارد التعديل محل البحث شبهة عدم دستورية. فوفقاً للمادة 178 من الدستور "تنشر في الجريدة الرسمية الأحكام الصادرة من المحكمة الدستورية العليا في الدعاوى الدستورية، والقرارات الصادرة بتفسير النصوص التشريعية...".
والنص الفائت عين بكلماته المسطورة أعلاه "أداة" حسم الدعاوى الدستورية بالأحكام.
وتتسم عبارات النص الدستوري بالعمومية، بحيث تحمل على كافة الدعاوى الدستورية.
وتعديل 2008 إذ حدد أسلوب "القرار" كسبيل لفض بعض النزاعات الدستورية، قيد نص المادة 178 بلا رخصة من السلطة التأسيسية، مما يعرضه للسقوط في حومة عدم الدستورية.
4) يقتصر تطبيق القانون رقم 184 لسنة 2008 على ثلاثة فروض:
-      الدعاوى التي تخرج من اختصاص المحكمة.
-      الدعاوى غير المقبولة شكلاً.
-      الدعاوى التي سبق للمحكمة الدستورية أن أصدرت حكماً في المسألة الدستورية المثارة فيها.
وآياً كان وجه الرأي في تلك الحالات، فلا شك أنها تعد عقبة بشكل أو آخر أمام تطور قضاء المحكمة الدستورية العليا.
فمفاد النص أن هيئة المفوضين إذا قدرت أنها تقابل أحد الفروض سالفة الذكر ستعد تقريراً يدور حول هذه الجزئية فقط.
ويحال الأمر إلى رئيس المحكمة تمهيداً لعرضه على المحكمة الدستورية منعقدة في غرفة المشورة لتصدر في الموضوع قراراً يثبت في محضر الجلسة مع إشارة موجزة لأسبابه.
وهذا النظام الإجرائي يوصد الأبواب أمام الإشكاليات التي يطرحها الطعن، والتي قد تكون هناك حاجة لمراجعة قضاء المحكمة الدستورية العليا فيها، أو إرساء مبدأ يواكب ما استجد في شأنها.
وحسبنا التلميح إلى تطور قضاء المحكمة الدستورية العليا في خصوص عدم قبول الطعون ضد النصوص السابق رفض عدم دستوريتها.
فبعد أن كانت المحكمة تعمم مبدأ عدم قبول الدعاوى الموجهة لنص سبق رفض عدم دستوريته، سواء أكان ذلك لأسباب شكلية أو موضوعية، عادت وحصرت عدم قبول الدعاوى على فرض الطعن لأسباب موضوعية، باعتبار أن الاقتصار على الأسباب الشكلية لا يعني بحث المعايب الموضوعية، وبالتالي تظل فرصة مهاجمة النص من هذه الزاوية ممكنة ومتاحة(8).
وهذا التحول جعل رقابة الدستورية تمارس في إطار التطبيق العملي لا مجرد البحث النظري الذي يقصر، في غير قليل من الحالات، في رصد المخالفة الدستورية.
ومن غير المأمول – في إطار تعديل 2008 – أن نطالع تحولات نظيرة.
تعديل قانون المحكمة الدستورية العليا عام 2008 – كما يبرز مما سلف – عول، فضلاً عن نهج المفاجأة المعتاد تجاه القاضي الدستوري، على ما يحوزه الشارع من سلطة الإلزام لاحترام النص، دون ظل من اهتمام بأسلوب الإقناع.
والنصوص التي تتبنى تلك الفلسفة إما أن يتم تجاوزها في التطبيقات الواقعية، مع ما لذلك من مثالب غير خافية، وإما أن يجرى تعديلها لتعود من حيث أتت نسياً منسياً.


________________________________________

المراجع
(1) طبقاً للمادة 41 من قانون المحكمة الدستورية العليا "يحدد رئيس المحكمة خلال أسبوع من إيداع التقرير تاريخ الجلسة التي تنظر فيها الدعوى أو الطلب.
"وعلى قلم الكتاب إخطار ذوي الشأن بتاريخ الجلسة بكتاب مسجل بعلم الوصول.
"ويكون ميعاد الحضور خمسة عشر يوماً على الأقل ما لم يأمر رئيس المحكمة في حالة الضرورة وبناءً على طلب ذوي الشأن بتقصير هذا الميعاد إلى ما لا يقل عن ثلاثة أيام."ويعلن هذا الأمر إليهم مع الإخطار بالجلسة".
(2) صدر تعديل 1998 بقرار بقانون استناداً للمادة 147 من الدستور الخاصة بلوائح الضرورة، بعد أيام من فض دور الانعقاد (فض دور الانعقاد في 13 يونيو 1998 وصدر القرار بقانون في 10 يوليو 1998)، وبعد أن أغلق البرلمان ملف تعديل قانون المحكمة الدستورية العليا بشأن النطاق الزمني لأحكامها قبل انصرافه للعطلة البرلمانية.
وإذا كانت المحكمة الدستورية العليا قد خلصت إلى اتفاق القرار بالقانون المشار إليه أعلاه مع الدستور، فإن ذلك لا يمنع من الاختلاف في الرؤى مع أسانيد الحكم ومراجعة حججه.
في تفاصيل ذلك راجع:
فتحي فكري – القانون الدستوري – الكتاب الأول – 2007 – ص 326 – 368.
(3) وافق البرلمان على القانون في 15 يونيو 2008 وصدر القرار الجمهوري بفض دور الانعقاد في21يونيو 2008.
(4) صدر القانون في 22 يونيو 2008 ونشر في الجريدة الرسمية في ذات اليوم ونص على تطبيقه من اليوم التالي لنشره.
(5) وفقاً للمادة 175 من دستور 1971 "تتولى المحكمة الدستورية العليا دون غيرها الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح...".
(6) في نقد ذلك راجع: فتحي فكري – القانون الدستوري – المرجع السابق – ص 276.
(7) كشفت المذكرة الإيضاحية للقانون رقم 184 لسنة 2008، المعدة من وزارة العدل، عن مبررات التعديل حاصرة إياها في "تزايد أعداد القضايا التي ترد إليها (المحكمة الدستورية العليا) وتدفق الطعون عليها،  وأن كثيراً منها ينصب على نصوص سبق أن فصلت المحكمة في المسألة الدستورية المثارة فيها، فضلاً إلى أن عدداً، غير يسير، من هذه الطعون يخرج عن اختصاص المحكمة، مما لازمه من وجوب التدخل التشريعي لمجابهة تلك الأمور، واستحداث آلية جديدة تتيح للمحكمة سرعة الفصل في مثل هذه الدعاوى، رفعاً للعبء عن كاهل المحكمة الدستورية العليا، بحيث تتفرغ لمسئولياتها الجسام، ولا تنشغل بغير الهام من الأمور".
(8) انظر في تفاصيل ذلك والأحكام المثبتة له:
فتحي فكري – القانون الدستوري – الكتاب الأول – 2007 - ص 311 وما بعدها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق