الجمعة، 4 ديسمبر 2015

الدستور الجديد وتطوير نظام الإفلاس

الدستور الجديد وتطوير نظام الإفلاس
بقلم المستشار الدكتور/ تامر ريمون فهيم
منشور بمجلة الدستورية - العدد الخامس والعشرون – السنة الثانية عشر – أبريل 2014

تمر بلادنا الآن بظروف اقتصادية غاية في الأهمية ويجب علينا المرور من عنق الزجاجة والعبور إلى منطقة اقتصادية أمنة تكفل للمواطنين الحياة الكريمة في ظل مستوى معيشي أكثر استقراراً.
وقد نص الدستور الجديد في المادة (27) منه على أن "يهدف النظام الاقتصادي إلى تحقيق الرخاء في البلاد من خلال التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية، بما يكفل رفع معدل النمو الحقيقي للاقتصاد القومي، ورفع مستوى المعيشة، وزيادة فرص العمل وتقليل معدلات البطالة، والقضاء على الفقر. ويلتزم النظام الاقتصادي بمعايير الشفافية والحوكمة، ودعم محاور التنافسية وتشجيع الاستثمار، والنمو المتوازن جغرافيا وقطاعيا وبيئيا، ومنع الممارسات الاحتكارية، مع مراعاة الاتزان المالي والتجاري والنظام الضريبي العادل، وضبط آليات السوق، وكفالة الأنواع المختلفة للملكية، والتوازن بين مصالح الأطراف المختلفة، بما يحفظ حقوق العاملين ويحمي المستهلك........". كما نص في المادة (28) منه على أن " الأنشطة الاقتصادية الإنتاجية والخدمية والمعلوماتية مقومات أساسية للاقتصاد الوطني، وتلتزم الدولة بحمايتها، وزيادة تنافسيتها، وتوفير المناخ الجاذب للاستثمار، وتعمل على زيادة الإنتاج، وتشجيع التصدير، وتنظيم الاستيراد. وتولي الدولة اهتماماً خاصاً بالمشروعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر في كافة المجالات، وتعمل على تنظيم القطاع غير الرسمي وتأهيله". كذلك نص في المادة (36) منه على" تعمل الدولة على تحفيز القطاع الخاص لأداء مسئوليته الاجتماعية في خدمة الاقتصاد الوطني والمجتمع "
يتضح من نصوص دستورنا الجديد استخدام المشرع لعبارات تحفيز وحماية المشروعات الاقتصادية، وخاصة المشروعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر. المشرع الدستوري يتجه في الدستور الحالي نحو تحفيز المواطنين على الإنتاج في ظل مشروعات اقتصادية مختلفة وتشجيعهم على العمل الخاص. يهدف الدستور أيضاً من ذلك "في سابقة دستورية متطورة" إلى توجيه المشرع إلى تعديل القوانين الاقتصادية والتجارية حتى تناسب ظروف الاستثمار في بلادنا، إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال الاحتفاظ بالتشريعات الاقتصادية والتجارية الحالية دون تطويرها بقصد إحداث التناغم الدستوري والقانوني المطالب به المشرع بعد صدور دستور مصر الحالي. والحقيقة أنه يجب العمل على تطوير عدة تشريعات تجارية واقتصادية؛ ومن بينها بطبيعة الحال النصوص القانونية الخاصة بالإفلاس، لأنها لها تأثير بالغ على حياة بلادنا الاقتصادية والحفاظ على الاستثمارات فيها وتنميتها. 
وقد حاول المشرع في قانون التجارة الصادر بالقانون رقم 17 لسنة 1999 وتعديلاته تبسيط إجراءات التفليسة للانتهاء منها بأسرع وقت ممكن، إذ وضع نظاماً للإفلاس يمنع المدين من الإضرار بحقوق دائنيه؛ فغل يده ونصب أميناً للتفليسة ليقوم بإدارتها، وعمل جاهداً على تحقيق المساواة بين الدائنين من أجل استيفاء ديونهم.
وعلى الرغم من جميع المحاولات التي بذلها المشرع في قانون التجارة الجديد الصادر بالقانون رقم 17 لسنة 1999 بالنسبة لتبسيط وتسهيل إجراءات التفليسة ومحاولة حل مثالب الإفلاس؛ وعلى الرغم من تطور نظام الإفلاس في قانون التجارة المصري وتعديلاته، وتأثره بالأفكار التي تأخذ المدين ببعض من الشفقة والرحمة، إلا أن الاعتقاد ما زال سائداً لدى المشرع "من رواسب عصر نشأة نظام الإفلاس" بأن المفلس قد أخطأ في حق دائنيه، ويجب أن يحاسب عن هذا الخطأ. لهذا رتب المشرع على شهر الإفلاس، أيا كان نوعه، سقوط بعض الحقوق المهنية والمدنية عن المفلس، ولم يجز له استردادها إلا بإتباع إجراءات رد الاعتبار وأهمها ضرورة الوفاء بجميع الديون حتى الأجزاء التي تم له التنازل عنها. أما بالنسبة لحالات الإفلاس بالتقصير والتدليس فقد رتب المشرع على ارتكابها عقوبات مقيدة للحرية.
يجب أن نقرر أن فكرة تجريم الإفلاس في النظام القانوني المصري، ما زالت هي السمة الأساسية التي يرتب عليها المشرع الإجراءات التحفظية المقررة للإفلاس والحقوق المنتقصة من المفلس، وذلك ما أدى إلى العديد من الإجراءات التحفظية الجزائية مثل منع المدين من الفرار عند قيام الشك حول ارتكابه فعلاً مكوناً لجريمة من جرائم الإفلاس بالتدليس أو التقصير ومنعه من تبديد أمواله أو اختلاسها إضراراً بالدائنين متى صدرت منه أفعال تنبئ عن عزمه على التبديد أو الاختلاس، وإجباره على تقديم المعونة إلى أمين التفليسة باطلاعه على دفاتره وحساباته وتزويده بالمعلومات الضرورية. ولكن يجب على محكمة الإفلاس فيما لو أمرت في حكم الإفلاس باتخاذ الإجراءات اللازمة للتحفظ على شخص المدين، تحديد ماهية تلك الإجراءات بصورة حصرية لمساسها بالحرية الشخصية للمدين المكفولة بضمانات دستورية وقانونية من ناحية أخرى. كذلك فإن التحفظ على شخص المدين في مفهوم المادة 561/2 من قانون التجارة الصادر بالقانون رقم 17 لسنة 1999 يتسع لأي إجراء من إجراءات تقييد الحرية، بما في ذلك منع المدين من السفر إلى خارج البلاد، أو وضعه تحت مراقبة الشرطة، أو القبض عليه والتحفظ على شخصه في مكان أمين، وغيرها من الإجراءات التحفظية التي تصل إلى تقييد الحرية، دون أن تستطيل إلى حبس المدين لكون الأخير إجراء يتعدى تقييد الحرية إلى سلبها.
وإذا تركنا الإجراءات الجزائية التي فرضها المشرع المصري على المدين المفلس جزاء اقترافه جريمة الإفلاس حتى لو لم يقصد ذلك، نجد إجراءات كثيرة هدفها غل يد المفلس عن إدارة أمواله حتى لو كان ذلك ضد مصلحة التفليسة والمدين المفلس والدائنين أنفسهم، إذ يتم غل يد المفلس بقوة القانون بمجرد صدور الحكم بإشهار الإفلاس، وذلك ما نصت عليه المادة (589) من قانون التجارة، عندما نصت على أنه " 1-تغل يد المفلس بمجرد صدور حكم شهر الإفلاس، عن إدارة أمواله والتصرف فيها، وتعتبر التصرفات التي يجريها المفلس في يوم صدور حكم الإفلاس، حاصلة بعد صدوره.2-إذا كان التصرف مما لا يحتج به على الغير، إلا بالقيد أو التسجيل أو غير ذلك من الإجراءات، فلا يسري على جماعة الدائنين، إلا إذا تم الإجراء قبل صدور حكم الإفلاس. 3-لا يحول غل يد المفلس عن إدارة أمواله والتصرف فيها دون قيامة بالإجراءات اللازمة للمحافظة على حقوقه". ويظهر من هذا النص أن المشرع قصد بغل يد المفلس عن أعمال الإدارة والتصرف على السواء. ويحصل غل اليد بقوة القانون فور صدور الحكم بشهر الإفلاس ويظل غل اليد قائماً حتى انتهاء التفليسة بالصلح أو قيام حالة الاتحاد. وغنى عن البيان أن أمين التفليسة يباشر إدارة أموال المفلس تحت رقابة القاضي المنتدب ومحكمة الإفلاس، طوال مدة التفليسة. ويشمل غل اليد كافة الأعمال التي تصدر عن المفلس وتشغل ذمته بالمسئولية أيا كان مصدرها عقدية كانت أو تقصيرية، أو التزام بإرادة منفردة. كما يشمل غل اليد حرمان المفلس من التقاضي، حيث يكون أمين التفليسة وحده هو الذي يرفع الدعاوى للمطالبة بحقوق المفلس، وأن يتلقى الدعاوى التي يرفعها الغير عليه (1). فلا يجوز للمفلس إجراء أي عمل قانوني سواء من قبيل أعمال الإدارة أو التصرف كالإجارة أو القرض، أو البيع أو الهبة أو التنازل عن الحقوق أو تحرير الأوراق التجارية أو إبرام صفقات تجارية، أو عقود يترتب عليها ديون جديدة. ويشمل غل اليد كل التصرفات التي ترد على أموال المفلس الحاضرة وكذلك المستقبلة التي قد يكتسبها بعد إفلاسه، سواء عن طريق الاشتغال بتجارة جديدة متى أُذن له بذلك، أو آلت إليه عن طريق الميراث أو الهبة أو صدر له حكم بالتعويض عن ضرر أصابه. ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل إن المفلس في حالة غل اليد، لا يجوز له الوفاء بما عليه من ديون، أو استيفاء ما له من حقوق، فكل ذلك يقوم به أمين التفليسة ويتم لحساب جماعة الدائنين لتحقيق مبدأ المساواة بينهم وعدم الإضرار بهم. (المادة 590 فقرة أولى من قانون التجارة).
وبناء على ما تقدم، يتضح أن العديد من الإجراءات، التي يهدف المشرع منها الحفاظ على أموال الدائنين، وعدم تمكين المفلس من العبث بأصوله وأمواله، قد يترتب عليه تعثر سداد الكثير من الديون للدائنين.
وعلى الرغم من تبسيط الإجراءات الجزائية للتفليسة والإفلاس في قانون التجارة الجديد، ومحاولة وضع حدود لتقييد حرية المدين في إدارة أمواله في بعض الأحوال، إلا أنه تبقى الإجراءات التحفظية والجزائية التي تقيد المفلس ثقيلة الحمَل. وقد يدفعه ذلك إلى إخفاء تعثره، حتى يتفادى هذه الإجراءات والقيود الكثيرة. وفي كثير من الأحوال، نجد أن هذه الإجراءات قد تؤدي إلى زيادة تعثر المفلس، نتيجة عدم تشغيل أمواله بالطريقة العلمية السليمة أو نتيجة طول الإجراءات أو سلبيتها، الأمر الذي قد ينتهي بالمفلس والدائنين إلى طريق مسدود وتصبح معه هذه الإجراءات التحفظية حجر عثرة في سبيل تصحيح أوضاع المفلس وليست سبباً لإخراجه من عثرته.
وحيث إن كثيراً من الإجراءات السالفة البيان التي تتخذ في مواجهة المفلس، تعد إجراءات عقيمة وليست ذا أثر فعال في سبيل خروجه من عثرته أو حتى في سبيل سداد ديون دائني التفليسة، لذلك نرى أنه من الواجب تطوير نظام الإفلاس حتى يواجه الواقع العملي في الحياة الاقتصادية في مصر، وحتى لا يتحول النظام القانوني للإفلاس إلى عقبة في سبيل تقدم الاستثمار والاقتصاد الوطني.
ونظراً لما تمر به الحياة الاقتصادية بوجه عام والتجارية بوجه خاص في مصر، نجد حالات الإفلاس تتكاثر يوماً بعد يوم، ومنها ما هو حقيقي، وما هو إجراء مصطنع ومفتعل. وأمام ذلك، يطبق القضاء المصري النصوص القانونية وواقع الأوراق التي أمامه ويحكم بالعديد من أحكام شهر الإفلاس، والتي تعتبر بمثابة إعداماً اقتصاديا أو تجارياً للتاجر. وفي الكثير من الأحيان لا يسترد الدائن وخاصة البنك ما أقرضه للمدين، إذ أنه أمام تعثر الأخير، وعدم إدارة أمواله على الوجه الصحيح في تفليسته وبيع بضائعه في كثير من الأحيان بأقل من سعرها الحقيقي أو تعطيل بيعها حتى تصبح غير ذات قيمة، فإن ذلك يحول في النهاية بين المدين وتسديد ديونه، مما ينعكس بالتأكيد بالسلب على الاقتصاد الوطني المصري.
وأمام هذا الوضع، نرى أنه لا مفر من تطوير نظام الإفلاس وتحويله لملاءمة ظروفنا المعاصرة. فإصلاح قواعد الإفلاس في مصر غدا ضرورة عاجلة أمام الأزمة المالية التي تمر بها أغلب المشروعات الصغيرة وعدد لا بأس به من المشروعات الكبيرة، وخاصة بأن دستور مصر الحالي يوجه إلى ضرورة ذلك وأهميته، بل ويؤكده من خلال النصوص المختلفة والمشار للبعض منها سابقاً في هذا البحث.
إن إصلاح هذه المشروعات وتعديل مسارها حتى تنجح خير من إعلان أو إشهار إفلاس أصحابها ودخولها في التفليسة وإدارتها في أغلب الأحوال بطرق خاطئة بعيدة عن متابعة المفلس الذي ليس له الحق في إدارتها إلا بإذن من قاضي التفليسة، بناء على سلطته التقديرية وتقرير أمين التفليسة. وفي كثير من الأحيان، قد لا يقتنع القاضي بإرجاع المفلس إلى إدارة مشروعه، على الرغم من أنه قد يكون أكثر خبرة في إدارتها من أمين التفليسة والذي يتعامل مع التفليسة كمجموعة أموال بصفة عامة دون أن يفرد لكل مشروع الإدارة المناسبة والملائمة له، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة إعسار هذه المشروعات وفي النهاية فشلها، مما يزيد موقف المفلس ودائنيه والاقتصاد الوطني سوءا. والحقيقة أن الإصلاحات التشريعية للإفلاس وتطويره أصبحت ضرورة ملحة؛ ونعرض لبعض النقاط الهامة في هذا البحث، والتي تساعد على فهم أهمية تطوير نظام الإفلاس وكيفية تطبيقه.
تطوير نظام الإفلاس يبدأ من عدم الإفراط في رفع قضايا الإفلاس بلا طائل، سوى لاستخدامها كوسيلة ضغط من البنك الدائن أو الدائنين الأخرين لإجبار المدين على التعجيل بسداد ديونه. ولكن التهديد باستخدام شهر الإفلاس كوسيلة ضغط على المدينين، يُعتبر أمراً خطيراً، ويؤثر في النهاية بالسلب على المشروعات الاقتصادية والاستثمارات المختلفة في بلادنا. ولذلك نرى أنه توجد خطوط عريضة يجب أن يتبعها المشرع المصري في هذا الصدد، وبالتالي يفرض على البنك أو الدائن أيا ما كان، الاقتصاد في مسألة رفع دعاوى الإفلاس، حتى يتم ترجيح أو تغليب إمكانية إفلاس العميل نتيجة المخاطر الشديدة التي تهدد مشروعه أو استثماراته. يُمكن وضع هذه الخطوط العريضة للمشرع كما يلي(2):
1) قد تكون النسبة بين ديون العميل ودخله مؤشراً جيداً على إمكانية حدوث مخاطر إفلاسه من عدمه، مثل الفارق بين دخله ودينه العقاري. ولكن يجب ألا تُؤخذ هذه المسألة بشكل مطلق على عمومها، لأنه في كثير من الأحوال تكون النسبة ليست في صالح المدين أو العميل، ولكن ذلك لا يعني حدوث إفلاسه.
2) مدى تأرجح دخل العميل من زيادة ونقصان في الأعوام الأخيرة، قد يكشف عن إمكانية حدوث مخاطر الإفلاس بالنسبة له، لأنه قد تحدث بعض الأزمات المالية له بشكل مفاجئ لا يتوقعه الدائنون (البنوك). ولذلك يجب دائما تحديث البيانات والمعلومات عن المدين وقدرته المالية ومديونيته للبنوك والأشخاص المختلفة. ومن خلال ذلك، يمكن توقع إمكانية إفلاسه من عدمه.
3) يجب تحديد مستوى للفقر، فإذا هبط دخل العميل لهذا المستوى في فترة قريبة، قد يكون ذلك مؤشراً لإفلاسه.
وقد لا تكون هذه الخطوط السابقة دليلاً كافياً على إمكانية إفلاس العميل. ولكن دراسة حالة العميل ذاته وحالته المالية قد يكون مؤشراً فعالاً لحدوث خطر الإفلاس.
وبعد أن يقوم المشرع بتحديد خطوط عريضة لمخاطر إفلاس المدين، وذلك بالوصول إلى المؤشر الذي يثبت إمكانية وقوع إفلاسه، يجب عليه أيضاً النص على الإجراءات الفعالة لإنقاذ العميل من الإفلاس قبل وقوعه، حتى يقيل المدين من عثرته ويستطيع سداد ديونه.
والحقيقة أن الامر لا يتوقف فقط على المشرع وما يسنه من تشريعات متطورة لعلاج حالة إعسار المدينين، حتى لا يصلوا إلى حالة إشهار إفلاسهم. ولكن يكمن التخطيط الأمثل لتقليل مخاطر الإفلاس في القرارات التي يتخذها الدائنون وخاصة البنوك الدائنة منذ بداية عقد الائتمان حتى يكتشف وجود هذه المخاطر. وعندما يكتشف البنك (الدائن) بوجود مخاطر جدية تنبئ بحدوث حالة إفلاس المدين، فليس بالحل الأمثل أن يحاول التعجيل بسداد دينه أيّا كانت ظروف مدينه المالية، فقد يعجل ذلك باستفحال الأمور، وبالتالي إشهار إفلاس المدين.
وتكون قرارات البنك (الدائن) لعلاج إفلاس مدينه صائبة في حالة المتابعة الجيدة لحالة مدينه المالية منذ بداية عقد الائتمان. فإذا كان البنك يعلم كل صغيره وكبيره في مشروعات عميله وحالته المالية ومديونياته المختلفة، فإنه يستطيع الوصول إلى تحديد موضع الداء في تعثر مدينه وإمكانية وضع الخطة السليمة لعلاجها عن طريق بعض القرارات التي تساعد عميله على الخروج من هذه المخاطر. وفي بعض الحالات، يجب على البنك (الدائن) حسم الأمور بوقف الائتمان لعميله. ويجب عليه في أحيان أخرى محاولة تحجيم مصروفات عميله عن طريق سحب بطاقات الائتمان منه أو حتى تخفيض مبالغ السقف فيها. فقد تكون المصاريف الباهظة لعائلة المدين في كثير من الأحوال هي السبب الرئيسي في تعجيل إشهار إفلاسه.
ويجب على القائمين على الحركة الاقتصادية والبنكية في كل دولة أن يقوموا بدورهم في تحجيم مخاطر إفلاس المدينين عن طريق الخطط الاقتصادية والمالية السليمة، لأن التخطيط الاقتصادي السيئ في بعض الأحيان يؤدي إلى حدوث أزمات مالية للمدينين، مما يعجل بإشهار إفلاس العديد منهم.
كما يجب على فئات المجتمع المختلفة التعاون في علاج هذا الأمر، فمثلاً الإعلام يستطيع عن طريق نشر وقائع إفلاس المدينين وكيفية حدوث ذلك، تنبيه العديد من البنوك والمدينين إلى تفادي حدوث نفس الأخطاء التي أدت إلى إفلاس هؤلاء(3). إن المجتمع كله يجب أن يؤدي دوره في التغلب على كثير من حالات إعسار المدينين ومحاولة علاجها.
والحقيقة هي أن تقليل مخاطر إفلاس عملاء البنوك والمدينين بصفة عامة، يأتي بالخير وبثماره الجيدة على الدائن نفسه وعلى المدين، كما أنه يأتي بالخير على المجتمع كله، الذي يتأثر اقتصاديا نتيجة إشهار إفلاس رجال الأعمال أصحاب المشروعات الاقتصادية الفعالة في نمو اقتصاد البلاد.
ولكي نقوم بتطوير النظام القانوني للإفلاس في مصر، حتى يلائم مبادئ الدستور الحديث، يجب الالتزام بالمقاييس الدولية لنظام الإفلاس العالمي. وقد تولت تحديد المقاييس الدولية الخاصة بالإفلاس جهات مختلفة ومتعددة؛ وهي البنك الأوربي للإنشاء والتعمير (EBRD)، الذي قام بوضع مستند قصير من ثلاث صفحات بعنوان المبادئ الجوهرية لنظام الإفلاس  (4)، والبنك الدولي، الذي قام بوضع مجموعة من الإرشادات لتقييم أنظمة الإفلاس بعنوان Principles and Guidelines for effective Insolvency and Creditor rights systems (5)، ولجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي، التي قامت بوضع دليل موسع تمت ترجمته إلى اللغة العربية بعنوان "دليل الأونسيترال التشريعي لقانون الإفلاس (6) " ولكن هذه المقاييس الدولية لا تتضمن لغة قانونية يمكن إدخالها في قانون أي دولة خلال عمليات إصلاح القوانين، ولكنها فقط تحدد المبادئ والأهداف والسمات الأساسية لقوانين الإفلاس اعتماداً على أفضل الممارسات التجارية والاقتصادية.
وهذه المبادئ الرئيسية تعتمد على الشفافية، وتشمل الإدارة السليمة للقضايا، وإتاحة سجلات المحكمة وبيانات المدين المالية ونشر القرارات ذات الأهمية.  وسرعة البت، حيث إن تأخير البت في القضايا يؤدي إلى انخفاض قيمة الأصول، كما أن تأخير العدالة كجحودها justice delayed is justice denied، وهو من المقولات الشائعة في عالم القانون. وكذلك تعتمد هذه المبادئ الدولية على وضوح المقاييس الخاصة بالبدء في إجراءات الإفلاس وإمكانية قيام جميع الدائنين التجاريين بذلك. ويجب أن يمنع القانون التسرع في تمزيق أصول المدينين بين الدائنين الذين يريدون الحصول على أحكام سريعة. كما يجب أن يسمح القانون بعمليات التصفية وإعادة التنظيم. كذلك يجب تسهيل التحول من عمليات إعادة الهيكلة والتنظيم إلى عمليات التصفية. ولكي يتمكن القانون من تسهيل عمليات إعادة التنظيم، لابد أن يتضمن أحكاماً خاصة بالتمويل ذي الأولوية القصوى، والسماح لأحد الدائنين الذين ظهروا عقب إعلان الإفلاس بأولوية الحصول على حقوقه من عائدات التفليسة، إذا تبين أن هذا الحد الائتماني من شأنه أن يساعد على إنعاش مشروع المدين الاقتصادي. وأكدت هذه المعايير الدولية ضرورة السماح باتخاذ الإجراءات الوقائية في المرحلة ما بين إقامة القضية وإدارتها لحماية الأصول ـ ويعتبر "وقف الإجراءات تلقائياً" من أهم التدابير الوقائية، ومعاملة الأطراف المتكافئة على قدم المساواة. وهذا يعني أن جميع الدائنين ذوو القروض المؤمنة يجب أن يعاملوا بالتساوي، ولكن من الممكن أن يعاملوا بطريقة تختلف عن الدائنين ذوو القروض غير المؤمنة. وفي نفس الوقت، يجب التوحيد في معاملة الدائنين ذوي القروض غير المؤمنة ممن أصحاب يستحقون ديوناً من نفس النوع، وعدم تفضيل أحدهم على الآخر بشكل غير منصف. كما يجب إنزال العقوبة على من يرتكب عمليات تحويل غير سليمة أو ينتهج سلوكيات احتيالية. ويجب أيضاً أن يتميز أمين التفليسة بالكفاءة والحيادية والنزاهة والأمانة والخضوع لإشراف أحد أجهزة الحكومة الرقابية. ومن أهم المعايير الدولية أنه يجب أن يسمح القانون بالإفلاس عبر الحدود.
ونرى أنه يجب مراعاة الظروف الاقتصادية للبلاد بالنسبة لتطوير النظام القانوني للإفلاس. فلم يعد من المفيد إنهاء المشروعات المتعثرة وإشهار إفلاسها سريعاً بهدف حماية الدائنين، لأن ذلك لا يؤدي في النهاية إلى سداد ديون الدائنين، كما أنه يربك النشاط الاستثماري بصفة عامة. ولذلك نرى أن تطوير نظام الإفلاس في مصر أصبح ضرورة أكيدة. وهذا التطوير لا يعني إخفاء تعثر أو محاولة حماية مشروعات غير قابلة للقيام من عثرتها وإبعاد الإفلاس عنها، وإنما يعني أن تكون الأولية دائماً لإعادة الحياة لهذه المشروعات المتعثرة مرة أخرى، وذلك في حالة كونها قابلة للحياة من الأساس.
وفي النهاية نتفق على احترام المعايير الدولية المذكورة سلفاً بالنسبة للتنظيم القانوني للإفلاس، فالعالم الاقتصادي الآن أصبح متكاملاً، ولا يمكن فصل الاقتصاد الوطني لأي دولة عن الاقتصاد العالمي دون حدوث أضرار جمة، واحترام هذه القواعد يعطي الطمأنينة والثقة للمستثمرين سواء الأجانب أو الوطنيين في توسيع نشاطهم الاستثماري في مصر، مما ينعكس إيجابياً على اقتصادنا الوطني.
ونحن نرى أن تنظيم قضاء متخصص في قضايا الإفلاس والصلح المتعلق به سواء الواقي أو القضائي، يمثل نقطة إيجابية في صالح تطوير نظام الإفلاس في مصر. وقد حدثت خطوة إيجابية ناحية هذا التطور بصدور قانون إنشاء المحاكم الاقتصادية الصادر بالقانون رقم 120 لسنة 2008. ويبقى أن تكون قضايا الإفلاس من اختصاص قضاء متخصص فقط في مسائل الإفلاس، حتى يكون ملماً بجميع مسائلها ويحكم فيها بالدراية القانونية اللازمة لهذا المجال. كما أن متابعة التفليسة ومراقبتها ليست بالشيء السهل، إذا لم تمنح لقضاة مختصين فقط في مراقبة التفليسة.
ويجب أيضاً ـ من وجهة نظرنا ـ أن يكون هناك نظام قانوني متكامل لإفلاس غير التجار فيما يتعلق برفع القضايا والحكم فيها وإجراءاته ومتابعته ومحاولة إعادة الحياة للمشروعات المتعثرة مرة أخرى، حيث أن نظام الإعسار المدني ليس بالنظام المتخصص في مسائل تخص مشروعات اقتصادية، "حتى وإن كانت لا تتصف بالتجارية"، وأصبح من الضرورة الآن تنظيم ذلك لغير التجار.
كما نرى أيضاً أن الاتفاق على التحكيم يمثل في الكثير من الأحيان الحل الأمثل لكثير من حالات تعثر الشركات ورجال الأعمال. ويرجع ذلك إلى مرونة قواعد اتفاق المتعاقدين على التحكيم من ناحية اختيار المحكمين أو هيئة التحكيم، وكذلك من ناحية اختيار القانون الواجب التطبيق أو حتى الاتفاق على بعض القواعد القانونية التي تلائم عقد الطرفين مثل التفويض بالصلح، وذلك قد يكون بدلاً من الإفراط في طلب إشهار إفلاس التجار، مما يؤثر على سمعة الاستثمار في البلاد.
وخلاصة القول، بأن الدستور الجديد وضع الأساس الدستوري الصحيح لبناء مشروع قانوني متطور لنظام الإفلاس، وكذلك لدفع المجتمع "بصفة عامة" لتطوير تعامله مع نظام الإفلاس؛ وذلك بهدف حماية الاستثمار والاقتصاد الوطني في مصرنا الغالية.
(1) مؤدى نص الفقرة الأولى من المادة (589) ، والفقرة الثانية من المادة (592) والفقرتين الأولى والثانية من المادة (594) من قانون التجارة الصادر بالقانون رقم 17 لسنة 1999 أن تغل يد المفلس ـ بمجرد صدور حكم شهر الإفلاس ـ عن إدارة أمواله والتصرف فيها وعن رفع الدعاوى ـ منه أو عليه ـ وعلى السير فيها ، على أن يستثنى من ذلك الدعاوى المتعلقة بالأموال والتصرفات التي لا يشملها على النحو المبين بالفقرة الثانية من المادة (592) ، وتلك المتعلقة بأعمال التفليسة التي يجيز القانون للمفلس القيام بها وكذا الدعوى الجنائية (نقض مدني ، طعن رقم 38 لسنة 70 قضائية ، جلسة 28/6/2005).
ـ جدير بالذكر أن الفقرة الثانية من المادة (592) من قانون التجارة الصادر بالقانون رقم 17 لسنة 1999 نصت على أنه "... ومع ذلك لا يشمل غل اليد ما يأتي:
أ-الأموال التي لا يجوز الحجز عليها قانوناً والإعانة التي تتقرر للمفلس.
ب- الأموال المملوكة لغير المفلس.
ج ـ الحقوق المتصلة بشخص المفلس أو بأحواله الشخصية.
د ـ التعويضات التي تستحق للمستفيد في عقد تأمين صحيح أبرمه المفلس قبل صدور حكم شهر الإفلاس ومع ذلك يلتزم المستفيد بأن يرد إلى التفليسة جميع أقساط التأمين التي دفعها المفلس ابتداء من التاريخ الذي عينته المحكمة للتوقف عن الدفع ما لم ينص القانون على غير ذلك
 (2) In the same meaning, Sullivan Warren  Westbrock, Elizabeth Warren, Jay Laurrence Westbrock – As we forgive our debtors- Bankruptcy and Consumer Credit in America – New York, Oxford University, 1989.
 (3) In the same meaning, Sullivan Warren Westbrook, Elizabeth Warren, Jay Laurence Westbrook – As we forgive our debtors- Bankruptcy and Consumer Credit in America, Previous reference –Page 312 and the following pages.
(4)http://www.ebrd.com/country/sector/law/insolve/core/principle.pdf.
(5)http://siteresources.worldbank.org/GILD/PrinciplesAndGuidelines/20162797/Principles%20and%20Guidelines%20for%20Effective%20Insolvency%20and%20Creditor%20Rights%20Systems.pdf.
 (6) http://www.uncitral.org/pdf/english/texts/insolven/05-80722_Ebook.pdf.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق