الخميس، 3 ديسمبر 2015

نقد نصوص العدالة الجنائية والحريات فى الدستور الجديد

نقد نصوص العدالة الجنائية والحريات فى الدستور الجديد
بقلم الأستاذ الدكتور/ أشرف توفيق شمس الدين
أستاذ ورئيس قسم القانون الجنائى بكلية الحقوق بجامعة بنها

منشور بمجلة الدستورية - العدد الخامس والعشرون – السنة الثانية عشر – أبريل 2014

مقدمة
منهج كتابة الدستور بين الإجمال والتفصيل
يسود كتابة نصوص الدساتير منهجان: الأول أن تصاغ هذه النصوص بطريقة مجملة وتتسم بالإيجاز ويغلب عليها الاختصار. والمنهج الثانى هو أن تصاغ هذه النصوص بطريقة مفصلة وجلية.
وعلة المنهج الأول أن نصوص الدساتير لا تعدل بسهولة، ومن ثم فإنه يجب أن تترك التفصيلات التى تكون عرضة للتغيير إلى التشريع، وأن نصوص الدستور يجب أن تتصف بالمرونة وبقدر من العمومية على نحو يسمح بتطبيقها على ما يستجد من وقائع. وعلة المنهج الثانى أن صياغة نصوص الدستور بطريقة مجملة وعدم ذكر التفصيلات المهمة فى هذه النصوص قد يؤدى إلى إفراغ هذه النصوص من مضمونه ، وإلى أن يكون الدستور وثيقة إنشائية لا تعبر عن وجهة قاطعة محددة فى الكثير من المسائل التى تنظمها. وفضلاً عن ذلك فإن الصياغة المجملة للدساتير لم تحل دون الاستبداد ، وإلى طغيان السلطة التنفيذية على باقى سلطات الدولة. وقد كانت الدساتير المقارنة تأخذ–تاريخياً- بالوجهة الأولى ، فكانت نصوص الدساتير مجملة وموجزة فى عدد قليل من المواد. غير أن هذه الوجهة تبدلت، وأصبح المنهج المتبع فى وضع وصياغة نصوص هذه الدساتير هو المنهج المفصل: فالدستور يجب أن يتضمن بياناً واضحاً شافياً وجلياً للأمور التى ينظمها ؛ وإذا افتقرت نصوصه إلى هذا البيان والتفصيل، فإن التنازع سيسود سلطات الدولة ، وسوف يفتح مجالاً كبيراً لتعدد واختلاف التفسيرات والتأويلات. وقد اختطت الدساتير المقارنة الحديثة هذا المنهج، والمطالع لها يجد أن النص على اختصاصات سلطات الدولة والحقوق والحريات والعلاقة بين السلطات ونظام الحكم قد ورد مفصلاً. وفى تقديرنا أن المنهج الثانى هو الواجب الإتباع عند كتابة أى دستور حديث، فلا يجوز الارتكان فى وضع هذه النصوص إلى منهج الإيجاز والتعميم؛ غير أن هذا التفصيل لا يخلو من محاذير، ولا ينجو من مخاطر، كما سنرى.
- الإقلال من الإحالة إلى نصوص التشريعات: مما يتصل بمنهج صياغة نصوص الدستور أنه يجب الاختيار بين وجهتين: الأولى أن ينص الدستور بصورة مجردة على الحقوق والحريات الأساسية، ثم يحيل إلى القانون فى شأن نطاق الحق والقيود الواردة عليه وأحوال المساس به. وقد تبنت الدساتير المصرية السابقة هذه الوجهة. غير أنه ترتب على هذه الخطة إفراغ هذه النصوص من محتواها إذ انطوى التنظيم التشريعى على تقييد جسيم لهذه الحريات، ولم تحل النصوص الدستورية دون المساس بها. وأما الوجهة الثانية فلا تكتفى بالنص على الحق أو الحرية بصورة مجردة ؛ بل تتكفل نصوص الدستور ببيان الحالات التى يجوز تقييدها فيه ومن بيده هذا الحق ومداه ووسيلته وأوضاعه الشكلية. وبقدر الأهمية الاجتماعية للحق، يأتى نص الدستور مفصلاً فى شأن المساس به ؛ غير أن هذه الخطة لا تمنع من الإحالة إلى القانون فى بعض التفصيلات دون أن يترتب على ذلك إغفال أهم صور هذه القيود. وقد تبنى هذه الوجهة الثانية عدد من الدساتير المقارنة( [1]).
- صعوبات اختيار المنهج المباشر التفصيلى: إذا كانت خطة الدساتير المقارنة الحديثة قد اتجهت إلى اتباع المنهج المفصل والمباشر في صياغة نصوص هذه الدساتير، فإن الأمر لا يخلو من الكثير من الدقة: فوضع الدساتير قد يكون عقب ثورة أو اضطرابات، والمنهج المفصل الذى يتسم بالإقلال من الإحالة لنصوص التشريعات يؤدى إلى رسم مستقبل المجتمع الذى تصاغ نصوص الدستور له لعقود طويلة ، وستكون نصوصه قيداً على كل سلطة تشريعية منتخبة ، ولذلك فإن هذا المنهج الحديث في وضع الدساتير يستتبع بالضرورة تشكيل جمعية تأسيسية تتوافر فيها الحيدة والموضوعية والاستقلال ويشارك الشعب في اختيارها، ويقتضى أيضاً أن تنال نصوص مسودة الدستور حظها من المناقشة والتأمل والتحليل والنقد، وهو ما يتطلب الاستعانة بالخبراء في كافة المجالات. كما يقتضى إجراء حوار مجتمعى راقى المستوى تشارك فيه كافة التيارات والاتجاهات، على نحو يضمن الإقلال قدر المستطاع من العيوب التى قد تشوب وضع أو صياغة الدستور. كما يقتضى اتباع مثل هذا المنهج اللجوء إلى أسلوب مرن في تعديل نصوصه، فعلى سبيل المثال فإن الدستور الألمانى الذى تم إقراره سنة 1949 عدل 57 حتى الآن( [2]).
-النصوص الجنائية في الدستور والحاجة إلى الإلمام بفقه القانون الجنائى: ترتب على اتباع المنهج المفصل والمباشر في صياغة الدساتير أن اتسعت دائرة النصوص الجنائية التى تتضمنها هذه الدساتير، وأصبح لهذه النصوص آثار مهمة على القانون الجنائى بشقيه الموضوعى والإجرائى، إذ تحتوى الدساتير الحديثة على قدر من التفصيل للحقوق والحريات وللعدالة الجنائية، وقد تضمنت هذه النصوص أحياناً قواعد موضوعية وإجرائية تغاير القواعد العامة. وقد حرصت خطة هذه الدساتير على إيراد نصوص تتصل بسلطات التحقيق والاتهام والإحالة والحكم والطعن في الدعوى الجنائية. وأن تتطرق إلى حقوق المتهم وضماناته وأصول المحاكمات الجنائية وإلى القضاء الخاص؛ بل ومدت نصوصها إلى مرحلة التنفيذ العقابى. وهذا التطور في كتابة الدساتير كان يستوجب أن يتوافر لدى واضع الدستور المصرى الجديد ومن قبله دستور سنة 2012 الإلمام بأمور عدة: فيجب عليه الإحاطة بالتعبيرات والمصطلحات التى تستخدم في القانون الجنائى ، ويجب عليه الوقوف على خطة الدساتير والتشريعات الجنائية المقارنة ؛ لأن الكثير من نصوص القانون الجنائى المصرى قد أجريت عليها تعديلات طيلة عقود عدة، اتسمت بالخروج عن المستقر في التشريعات المقارنة، وجنحت إلى ترجيح جانب السلطة على حساب الحرية ، فاتسمت الكثير منها بالتحكم والتحيز وعدم الاستجابة للمبادئ المستقرة في المجتمعات الديمقراطية. ويجب أن يلم واضع النص الدستورى كذلك بما تثيره النصوص الجنائية من مشكلات في التطبيق وما يترتب عليها من نقص في الضمانات يستوجب تدخل النص الدستورى.
- منهج الدستور المصرى الجديد: اتبع الدستور الجديد لسنة 2014 خطة اتسمت باتباع المنهج المفصل نسبياً، وجاء عدد من نصوصه في مجال الحريات والعدالة الجنائية متبنياً نسبياً هذه الخطة، ومتبعة في الوقت ذاته المنهج المباشر في الصياغة الذى يجعل النص مطبقاً بذاته دون إحالة إلى التشريع في جوهر النص. غير أنه ترتب على اتباع هذا المنهج أن الكثير من هذه النصوص يمكن أن توجه إليها-في تقديرنا-سهام النقد-سواء من حيث الأفكار التى تنطلق منها، أو من حيث الصياغة التى أفرغت فيها.
-منهج البحث وخطته: سلك البحث منهجاً نقدياً قوامه نقد نصوص الدستور الجديد فيما نص عليه بشأن العدالة الجنائية والحريات. وتتسم الدراسة النقدية -بصفة عامة ، وبالنسبة للدستور بصفة خاصة- بالدقة وبعض الصعوبة: فمن ناحية فإن الدستور موضوع الدراسة –نظراً لأهميته- أعد من قبل متخصصين فى القانون والمال والاقتصاد والسياسة والأمن وغيرهم ، وساهمت فى المشاركة فيه جهات وهيئات مختلفة ، كما أنه خضع للفحص والدراسة من اللجان المختلفة ونال عنايته فى المناقشة بلجانه ، ومن ثم فإن توجيه النقد إلى حصيلة هذا الجهد هو أمر يتسم بالصعوبة.
ومن ناحية ثانية فإن الدستور الحالى قد استند في الكثير من نصوصه إلى دستور سنة 2012 ، وهو ما يعنى أن النص الواحد قد خضع لتمحيص وتحليل ونقد وموافقة هيئتين تأسيسيتين قد يختلفا في منهجهما الفكرى وفى توجهاتهما ؛ غير أن التقائهما على صياغة نص معين رغم هذا الاختلاف يجعل توجيه النقد لحصيلة عملهما يبدو محفوفاً ببعض الصعوبة. ومن ناحية ثالثة ، فإنه لم يمض على صدور الدستور سوى فترة وجيزة ولم تتح الفرصة للفقه أن يتناول أحكامه بالتعليق عليها وبيان علتها ومدى اتساقها ، كما أنه لم يتسن بعد أن يعرض على السلطة التشريعية نصوصه والتى ستكشف المناقشات البرلمانية التى تثور بمناسبة عرض التشريعات لإقرارها مدى استقامتها مع نصوص الدستور ، كما أنه نظراً لحداثته، فإن المحكمة الدستورية العليا لم تدل بعد بقضائها فيما يعترى النصوص التشريعية السارية من مخالفة لنصوصه، ولم يعرض على القضاء بوجه عام أى تطبيق له ، ولم يكشف النقاب عن ثغراته ومدى ما يسفر عنه التطبيق من مشكلات ، وهو الأمر الذى يجعل موضوع الدراسة بالغ الدقة.
وإذا كانت الدراسة تختط منهاجاً نقدياً فإن ذلك يعنى البعد عن الدراسة الوصفية للنصوص ، فليست غاية الدراسة هى شرح هذه النصوص أو الوقوف على معانيها واستجلاء مراميها ؛ ولا يكون ذلك إلا بقدر اتصالها بمنهج الدراسة وغاياته.
وقد جمعت الدراسة بين النظرتين النقدية والتأصيلية معاً: فلم تتجه إلى التعليق على نصوص الدستور ؛ وإنما أصلت بحث الموضوع برده إلى طائفتين رئيسيتين: الأولى تتصل بجانب العدالة الجنائية ، والثانية تتصل بجانب الإجراءات التى تنال من الحقوق والحريات في الدعوى الجنائية. وعلة ذلك هو الاتصال الوثيق بين صيانة الحرية والجهة التى يعهد إليها بالمساس المشروع بها. ويخرج عن نطاق الدراسة الأحكام الموضوعية للتجريم والعقاب والتى نص عليها الدستور الجديد ، فهى على الرغم من أهميتها إلا أنها تخرج بحسب التأصيل العلمى عن نطاق هذا البحث.
وأخيراً فإنه على الرغم من أن موضوع الدراسة ليس مقارناً ؛ فإن الدراسة قد أشارت بإيجاز فى مواضع عدة إلى خطة بعض الدساتير المقارنة، لما تمثله من أهمية فى الوقوف على ما نص عليه الدستور الجديد ، ومدى اتساقه مع نصوص هذه الدساتير.
- تقسيم: نقسم هذه الدراسة إلى جزأين: نتناول في هذا الجزء فكرة العدالة الجنائية والمساس بالحريات أمام القضاء الجنائى العادى ؛ بينما نخصص الجزء الثانى من الدراسة والذى سينشر لاحقاً للقضاء الجنائى الخاص، فنتناول فيه ما نص عليه الدستور من نصوص تتعلق بمحاكمة الأحداث ورئيس الجمهورية والقضاء العسكرى.
أما في الجزء الأول من هذه الدراسة والذى يتعلق بالقواعد الأصولية للعدالة الجنائية وصيانة الحريات ، فنعرض فيه أولاً للمركز القانونى للنيابة العامة في الدستور ، وثانياً لإجراءات التحقيق الابتدائى الماسة بالحريات ، ثم نتناول ثالثاً ما خص به الدستور تحريك الدعوى الجنائية ورفعها وانقضائها من نصوص خاصة ، كل في فصل مستقل.




الفصل الأول
النيابة العامة في الدستور

 -نظرة الدستور إلى النيابة العامة وما تثيره من تساؤلات:

نصت الفقرة الثانية من المادة 94 من الدستور على أن: "تخضع الدولة للقانون، واستقلال القضاء، وحصانته، وحيدته، ضمانة أساسية لحماية الحقوق والحريات".
ونصت الفقرة الأولى من المادة 189 على أن: "النيابة العامة جزء لا يتجزأ من القضاء، تتولى التحقيق، وتحريك، ومباشرة الدعوى الجنائية عدا ما يستثنيه القانون، ويحدد القانون اختصاصاتها الأخرى" (وهى تقابل الفقرة الأولى من المادة 173 من دستور سنة 2012). ووفقاً للتصور السابق ، فإن الدستور الحالى والسابق ينظر إلى النيابة العامة باعتبارها جزء من القضاء ، والنتيجة التى تترتب على هذه النظرة هى أن النيابة تتمتع بكافة الحصانات والضمانات التى تتوافر للقضاء ، ومن أبرزها الاستقلال وعدم جواز التدخل في شئونه. ولكن هل تساعد نصوص القانون المصرى، سواء أكان قانون السلطة القضائية أم قانون الإجراءات الجنائية على هذا التصور؟ ، وهل تتفق التعليمات العامة للنيابات مع ما نص عليه الدستور ؛ أم أن الفجوة بينهما كبيرة؟.
لقد رتب الدستور كذلك على اعتبار النيابة جزء من القضاء أنه عهد إليها صراحة بالتحقيق ومباشرة الدعوى الجنائية، وهو ما يثير تساؤلاً آخر عما إذا كانت نظرة الدستور للنيابة العامة هى نظرة صائبة ؛ أم أنها بحكم توليها وظيفة الاتهام تكون طرفاً في الدعوى، ولا يصلح أن تكون حكماً فيها؟. وهل تتفق نظرة الدستور مع خطة الدساتير والتشريعات الجنائية المقارنة ؛ أم أن ما جاء به الدستور لا يلتئم ولا ينسجم مع ما يسود القانون المقارن من أحكام؟.

-تقدير خطة الدستور الجديد في اعتباره النيابة العامة جزء من القضاء:

فى تقديرنا أن نظرة الدستور إلى أن النيابة جزء من القضاء يتولى بصفة أساسية مهمة التحقيق الابتدائى فيه قدر كبير من عدم الإلمام بنصوص القانون المصرى ذاته في نظرته للنيابة العامة باعتبارها سلطة يسود أعضائها قاعدة التبعية التدريجية ، كما أن نظرة الدستور لا تستقيم كذلك مع نصوص تعليمات النيابة العامة ولا مع التطبيق العملى في أدائها لسلطتها. وينال من نظرة الدستور أنه لم يحط بخطة الدساتير والتشريعات الجنائية المقارنة في النظرة إلى هذه السلطة وكيفية تحقيق التوازن في الإجراءات في الدعوى الجنائية.  ويؤخذ كذلك على خطة الدستور نقص الإلمام بتاريخ وتطور القانون المصرى ، وكيف أن النيابة العامة قد تحولت تاريخياً من مجرد سلطة اتهام إلى سلطة تحقيق وإتهام وإحالة وطعن وتنفيذ، كما أن خطة الدستور تتسم كذلك بعد تقدير التوسع الكبير في سلطة النيابة العامة في الدعوى الجنائية ومن تركيز سلطات كبيرة في يديها على نحو يمكن أن يهدد الحقوق والحريات. وقبل أن نتناول بالبيان أوجه النقد سالفة الذكر. نشير إلى أن هناك فارقاً مهماً في كافة النظم القانونية المقارنة بين القضاء وهو محجوز لقضاة الحكم في وظيفته المتعلقة بالفصل في الدعاوى ، وبين وجود هيئة تباشر بعض الأعمال القضائية ، وهذه الأعمال على الرغم من أهميتها إلا أنها لا تجعل مباشريها من القضاة ، ذلك أن هذه الأعمال لا تتضمن الفصل في الدعاوى القضائية.

- أولا: التبعية التدريجية تتنافى مع استقلال أعضاء النيابة العامة:

من القواعد المسلم بها في كافة الدساتير والتشريعات المقارنة أن القضاة على اختلاف درجاتهم مستقلون، فلا يجوز توجيههم أو إصدار أمر لهم بالتصرف على نحو معين أو الامتناع عن القيام به ، وهم لا يخضعون لسلطة رئاسية مهما كانت، ولا يجوز سحب قضية بعد دخولها حوزة القاضى، ولا يجوز كذلك نقل هذا القاضى من دائرة اختصاصه، وتعاقب التشريعات الجنائية ومن بينها القانون المصرى على الأفعال السابقة، إذ تعد مساساً بصميم عمل القاضى. هذه القواعد الأصولية هى محل اتفاق وتسليم فى كافة التشريعات المقارنة؛ غير أن السؤال الذى يثور عن مدى إمكانية تطبيق هذه القواعد على أعضاء النيابة العامة، فاعتبارها جزء من القضاء يستوجب اعتبار أعضائها مماثلين للقضاة في ضماناتهم وأهمها استقلالهم في أداء عملهم ، فهل أعضاء النيابة العامة مستقلون فعلاً في نصوص القانون المصرى ونصوص تعليمات النيابة العامة؟.
نص الشارع فى المادة 26 من قانون السلطة القضائية المستبدلة بالقانون 143 لسنة 2006 على أن رجال النيابة تابعون لرؤسائهم بترتيب درجاتهم ثم للنائب العام". وقد كانت صياغة النص قبل استبداله هو أن: "رجال النيابة تابعون لرؤسائهم بترتيب درجاتهم ثم لوزير العدل". وقد نصت المادة 125 من قانون السلطة القضائية صراحة على أن "أعضاء النيابة يتبعون رؤساءهم والنائب العام، ولوزير العدل حق الرقابة والإشراف الإداري على النيابة وأعضائها"، وقد كانت المادة 125 سالفة الذكر تنص قبل استبدالها على أن " أعضاء النيابة يتبعون رؤسائهم والنائب العام وهم جميعا يتبعون وزير العدل وللوزير حق الرقابة والإشراف علي النيابة وأعضائها وللنائب العام حق الرقابة والإشراف علي جميع أعضاء النيابة". وقد أجاز الشارع للنائب العام أن يوجه تنبيهاً لأعضاء النيابة الذين يخلون بواجباتهم إخلالاً بسيطاً ، كما أن رفع الدعوى التأديبية يكون من النائب العام وباقتراح من وزير العدل( [3]).
ويؤخذ مما تقدم أن هناك إشرافاً رئاسياً إدارياً بالنسبة إلى أعضاء النيابة ، فالنائب العام يقوم بالإشراف على أعضاء النيابة جميعاً، وحق الإشراف مخول للمحامى العام على أعضاء النيابة الذين يعملون فى دائرة اختصاصه. ويترتب على حق الرقابة والإشراف توقيع الجزاء فى حالة الخطأ ، وهو ما عناه الشارع فى الفصل الثانى من الباب الثالث من قانون السلطة القضائية الذى يحمل عنوان "تأديب أعضاء النيابة". وقد عدل الشارع نص المادة 125 من قانون السلطة القضائية بالقانون رقم 143 لسنة 2006 على نحو نص معه صراحة على أن إشراف وزير العدل لا يعدو أن يكون إشرافاً إدارياً على أعضاء النيابة العامة. ومن المستقر عليه فى نظر الفقه والقضاء المصرى أن النيابة العامة على الرغم من قيامها بعمل الاتهام الذى له طبيعة العمل التنفيذى لا القضائى ؛ فإنها تعتبر شعبة أصيلة من شعب السلطة القضائية بالنظر إلى غلبة الطابع القضائى على عملها( [4]). وقد خلط بعض الفقه بين تعبير "السلطة القضائية" وبين تعبير "القضاء" ، فاعتبر أعضاء النيابة العامة جزءاً من السلطة القضائية وأنه تتوافر فيهم صفة "القضاة المستقلين"( [5]). وقد وقع دستور سنة 2012 ، ومن بعده الدستور الحالى لسنة 2014 في هذا الخلط.
وفى تقديرنا أن هذه الوجهة محل نظر ، ذلك أن النيابة العامة وإن كانت تعتبر جزءً من السلطة القضائية ؛ إلا أن أعضائها لا يعتبرون من القضاة ، ذلك أن قاعدة التبعية التدريجية التى تسود عمل النيابة والرقابة الفنية والإدارية التى يباشرها النائب العام ومن يفوضهم على مرؤوسيهم تجعل من العسير قبول فكرة أن أعضاء النيابة هم قضاة بالمعنى الدقيق للكلمة. وفضلاً عن ذلك فإن النيابة لا تملك سوى طلب توقيع الجزاء ، غير أنها لا تملك حق توقيعه ، إلا فى حالات استثنائية لا تؤثر على القاعدة( [6]).  ويرى جانب من الفقه -بحق- إن تبعية أعضاء النيابة للنائب العام ، وإن كانت تلتقى مع وظيفة الاتهام ؛ إلا أن هذه التبعية لا تتفق مع وظيفة التحقيق الابتدائى ولا مع سلطة إصدار الأوامر الجنائية ، ذلك أن التحقيق الابتدائى يقتضى من القائم به استقلالاً كاملاً باعتباره المرحلة التى يتم فيها تمحيص الاتهام والتأكد من جديته ، وباعتباره أيضاً هو المرحلة التى يتخذ فيها إجراءات ماسة بالحرية الشخصية. وأن استقلال النيابة العامة يفترض استقلال أعضائها فى أداء أعمالهم القضائية؛ "لأن الرئاسة الإدارية تفسد مضمون العمل مهما تقيد نطاقها القانونى بحسن أدائه ، فالتبعية الرئاسية لها أثر نفسى غير محدود ، وتحد من قدرة المرؤوسين على الاستقلال برأيهم والنأى عن التأثر بتعليمات رؤسائهم فيما يتعلق بمضمون العمل القضائى. وكيف يتطهر المرؤوسون من هذا الأثر والسلطة الإدارية للرؤساء قد تنطوى على معانى التبعية والطاعة. كما أن هذه السلطة الرئاسية تملك انتزاع التحقيق الابتدائى من يد إلى أخرى وفقاً لمشيئتها"( [7]). 
وفى تقديرنا أن الاعتبارات السابقة تجعل من الأدق اعتبار النيابة العامة شعبة أصيلة من شعب العدالة ؛ غير أن أعضائها ليسوا من القضاة بالمعنى الدقيق.

-ثانياً: سلطات الإشراف المخولة للنائب العام تشمل أعمالهم القضائية والإدارية معاً:

 للنائب العام سلطة إشرافيه على أعضاء النيابة العامة جميعاً فى جانبيها الفنى والإدارى معاً، فهى سلطة إدارية قضائية فى نفس الوقت. وهذه السلطة تكون على أعضاء النيابة العامة جميعاً ، وعلى مأمورى الضبط القضائى ، وعلى العاملين الإداريين بالنيابة.
وقد نصت المادة العاشرة من التعليمات العامة للنيابات والتى تستند إلى المادة 121 من قانون السلطة القضائية( [8]) على أن: "يختص النائب العام لتحقيق مقتضيات الإشراف القضائي والإداري على النيابة العامة ومأموري الضبط القضائي بما يلي:
1- نقل أعضاء النيابة بدائرة المحكمة المعينين بها.
2- ندب أعضاء النيابة خارج المحكمة المعينين بها مدة لا تزيد على ستة أشهر.
3- ندب أحد رؤساء النيابة للقيام بعمل المحامي العام للنيابة الكلية لمدة لا تزيد على أربعة أشهر، ويكون لرئيس النيابة المنتدب في هذه الحالة جميع الاختصاصات المخولة قانوناً للمحامي العام.
4- اقتراح تعيين محل إقامة أعضاء النيابة ونقلهم في غير النيابة الكلية التابعين لها.
5- توجيه التنبيه لعضو النيابة الذي يخل بواجباته إخلالاً بسيطاً بعد سماع أقواله، ويكون التنبيه شفاهاً أو كتابة.
6- إقامة الدعوى التأديبية على أعضاء النيابة بناء على طلب وزير العدل وللنائب العام وقف عضو النيابة الذي يجرى معه التحقيق إلى أن يتم الفصل في الدعوى التأديبية (المادة 129 من قانون السلطة القضائية). ...."

- ثالثاً: أعضاء النيابة العامة لا يملكون الخروج على أوامر رؤسائهم:

حاول بعض الفقه جاهداً أن يقيم تفرقة بين أعمال التحقيق وأعمال الاتهام ، فاعتبر أن أعضاء النيابة مستقلون حال مباشرتهم لأعمال التحقيق لأنهم يستمدونها مباشرة من نصوص القانون ؛ بينما يكونون خاضعين لرؤسائهم حال قيامهم بأعمال الاتهام لأنهم يستمدون هذه السلطة من وكالتهم عن النائب العام.
وفى تقديرنا أن الاتجاه السابق الذى يرى تقيد أعضاء النيابة العامة بسلطات رؤسائهم فى الاتهام دون التحقيق والمرافعة هو اتجاه محل نظر للأسباب الآتية: فمن ناحية فإن قاعدة التبعية التدريجية التى يتصف بها البناء الوظيفى للنيابة العامة تجعل من غير الجائز مخالفة الأوامر الصادرة من صاحب الوظيفة الأعلى فى التسلسل الرئاسى. يستوى فى ذلك أن يكون العمل الذى يقوم به عضو النيابة هو من قبيل أعمال الاتهام أو التحقيق.
ومن ناحية ثانية فإن أن الحجة المستمدة من أن أعضاء النيابة يستمدون سلطتهم فى أعمال التحقيق من نصوص القانون مباشرة وليس من النائب العام هى حجة -فى تقديرنا- محل نظر ، ولا تؤدى إلى النتيجة التى رتبها الفقه عليها ، لأن ما يقوم به أعضاء النيابة فى مجموعه سواء أكان من أعمال الاتهام أو التحقيق هو مستمد من نصوص القانون ولا يتصور سوى ذلك.
ومن ناحية ثالثة فإنه يتفرع عن مبدأ التبعية التدريجية فى القانون المصرى عدة نتائج مهمة تحول دون تقرير هذا الاستقلال: فيجوز للسلطة الرئاسية لعضو النيابة أن تقرر سحب التحقيق منه بأكمله ، ويجوز لها أن تبدل المحقق بغيره بأن تعهد بإجرائه لأحد الأعضاء الآخرين. كما أنه يجوز للسلطة الرئاسية أن تصدر أمراً بالعدول عما اتخذه وكيل النيابة من قرارات تتصل بالتحقيق. ومن المعهود عليه عملاً أن يأمر رئيس النيابة أو المحامى العام بإخلاء سبيل المتهم الذى حبس احتياطياً ، أو أن يأمر باستيفاء التحقيق على نحو معين كالأمر بإجراء معاينة أو سماع شاهد أو القبض على متهم. ولم يثر شك فى أن السلطة الرئاسية تملك ذلك. وتمتد نتائج التبعية التدريجية إلى نقل وكيل النيابة ذاته ، فيمكن أن يصدر النائب العام قراراً بنقل من يتولى التحقيق فى قضية معينة إلى خارج دائرة نيابته الكلية ، ويمكن للمحامى العام أن يجرى نقلاً لوكيل النيابة فى حدود دائرة النيابة الكلية. ورأى الفقه الذى يميز بين أعمال التحقيق وأعمال الاتهام –فهو وعلى الرغم مما حاول الاستناد إليه من حجج قانونية- لا يلتئم في تقديرنا مع الواقع: فمن النادر أن يخالف أعضاء النيابة سلطة رؤسائهم سواء تعلق الأمر بعمل اتهام أو تحقيق. بل إن التفرقة بين العملين من الزاوية العملية يكاد ألا يفطن إليها أعضاء النيابة ، فهم يباشرون التحقيق والاتهام باعتبارهما عملاً متكاملاً ، وليس باعتبار أن مصدر السلطة فيهما مختلف. ومن ناحية أخرى فإنه إذا كان الرأى الغالب فى الفقه يرتب نتيجة مؤداها بطلان عمل وكيل النيابة إذا خالف أمر رئيسه فى الاتهام دون التحقيق ، فإن هذه النتيجة على الرغم من أهميتها ليست لها من الناحية الواقعية أهمية كبيرة ، فقد سبق أن ذكرنا أن النائب العام بمقدوره سحب القضية وإبدال وكيل النيابة ونقله وإلغاء أوامره سواء المتعلقة منها بالتحقيق أو الاتهام وأن يوجهه إلى إجراء التحقيق على نحو معين ؛ بل إن من حقه أن يقوم باتخاذ أمر بألا وجه لإقامة الدعوى لعدم الأهمية لأسباب يقدرها وبالمخالفة لاعتقاد وكيل النيابة المحقق. ومن حق النائب العام كذلك أن يأمر باستبعاد مذكرة وكيل النيابة من الأوراق والتى حوت لرأى مخالف لما يراه. ويترتب على مخالفة تعليمات النائب العام وأوامر الرؤساء قيام المسئولية التأديبية لعضو النيابة وتعريضه للتحقيق معه وتوجيه بعض الجزاءات التأديبية له.
وقد حرصت تعليمات النيابة العامة على النص بأن: "يشرف النائب العام على شئون النيابة العامة وله الرئاسة القضائية والإدارية على أعضائها" (المادة 7). ولقد قيد النائب العام إجراء التحقيق مع أفراد القوات المسلحة والشرطة والمحامين بمجموعة من القيود التى تحد من صلاحيته كقاض للتحقيق.
رابعاً: وضع النيابة العامة في الدستور المصرى لا نظير له في خطة التشريعات المقارنة:
اختطت التشريعات الجنائية المقارنة في نظرتها إلى النيابة العامة إحدى ثلاث وجهات: الأولى هى النظر إليها باعتبارها مجرد سلطة اتهام تقتصر مهمتها على تقدير مدى توافر الأدلة على المتهم فتتولى تمثيل الاتهام كخصم يقف على قدم المساواة مع الدفاع عن المتهم، ويعتبر القانون الأنجلو أمريكى هو التعبير الأوضح عن هذه الوجهة. وفى نظر هذه الخطة التشريعية فإن النيابة لا تملك التحقيق في الدعوى الجنائية ؛ وإنما ملك هذه السلطة جهاز الشرطة بحسب الأصل. غير أن هذه الوجهة التشريعية تتميز بوجود رقابة قضائية فعالة، ذلك أن أغلب الإجراءات الماسة بالحرية يجب اتخاذها من خلال قاض، وهو ما يؤدى إلى ظهور القاضى في الإجراءات منذ بدء التحقيقات.
والوجهة التشريعية الثانية تجعل التحقيق في الجنايات والجنح المتربطة بها من خلال قاض ، كما يجعل الحبس الاحتياطى في يد قاض أعلى درجة من قاضى التحقيق ، وفى النهاية يجعل الإحالة في الجنايات في يد دائرة قضائية أعلى درجة. وقد أخذ القانون الفرنسى بتعديلاته المختلفة بهذه الوجهة ، فقط اعتبر النيابة العامة جزء من السلطة التنفيذية لا القضائية ، واعتبر أن الاتهام هو مهمتها الأولى ؛ غير أنه عهد إليها باختصاص في تحقيق الجنح والمخالفات إن أرادت ذلك. والوجهة الثالثة هى وجهة القانون الألمانى الذى يجعل النيابة العامة هى سلطة التحقيق والاتهام ، كما هو الحال في القانون المصرى ؛ غير كافة الأوامر الماسة بالحرية الشخصية يجب اتخاذها من قاض فلا تملك النيابة حبس متهم احتياطياً أو الأمر بتحليل جيناته أو تفتيش مسكنه ، كما أن الإحالة إلى المحكمة يكون من خلال قرار تتخذه محكمة الموضوع بافتتاح الإجراءات. وتتقيد النيابة العامة الألمانية بمبدأ حتمية رفع الدعوى الجنائية والذى يقضى بوجوب رفع الدعوى الجنائية في طائفة واسعة من الجرائم إن توافر الدليل عليها ، وإن أرادت النيابة حفظها، فعليها أن تلجأ إلى المحكمة المختصة للحصول على أمر بالحفظ. ومن المستقر عليه في نظر الدستور وقضاء المحكمة الدستورية العليا الألمانية وقانون القضاء أن أعضاء النيابة العامة ليسوا من القضاة( [9]). ويلاحظ أن بعض الدساتير النادرة التى اعتبرت النيابة العامة جزء من القضاء كالدستور التونسى الجديد لسنة 2014 لا يجعل النيابة سلطة التحقيق في الدعوى الجنائية، فالذى يتولى هذه السلطة هو قاضى التحقيق، واختصاصه أصيلاً في الإجراءات، ويختص وجوباً بالتحقيق في الجنايات وله أن يحقق الجنح إن أراد ذلك( [10]) ، وقد رأى المجلس التأسيسي لوضع الدستور التونسى الجديد إسباغ حماية أكبر على النيابة العامة في مباشرتها لعملها، فجاء نص المادة 115 من هذا الدستور مستخدماً تعبير "قضاة النيابة العمومية" ، وأنهم تشملهم الضمانات المقررة في الدستور للقضاة ، وأنهم يباشرون مهامهم المنصوص عليها في القانون ووفقاً للإجراءات المنصوص عليها فيه( [11]). ويعنى ذلك أن الدستور التونسى قد نظر إلى أعضاء النيابة العامة باعتبارهم قضاة يستمدون اختصاصهم من القانون مباشرة ووفقاً له ، وليس باعتبارهم تابعين لرؤسائهم.
وإذا كنا قد استعرضنا هذه الاتجاهات الثلاثة التى تعتبر أساس النظم الجنائية المقارنة ، فإن الدستور المصرى الجديد قد جاء بتصور يخالف كافة النظم التشريعية سالفة الذكر: فالنيابة العامة تملك التحقيق والاتهام والإحالة ومباشرة الدعوى والطعن والتنفيذ ، كما أنها تملك اتخاذ كافة الإجراءات الماسة بالحرية الشخصية ، وفى طائفة واسعة من الجرائم فهى تملك حبس المتهم احتياطياً لمدة تصل إلى خمسة أشهر دون عرض على قاض ، وأعضاؤها جميعاً تابعون لرؤسائهم وللنائب العام إدارياً وقضائياً.
خامساً- أثر تعليمات النيابة العامة في تقييد التحقيق في جرائم وأشخاص معينين:
على الرغم من أن محكمة النقض ومن أيدها من الفقه المصرى يجعلان النيابة العامة حال مباشرتها للتحقيق الابتدائى فى مركز قاضى التحقيق ومن ثم تتمتع باستقلال مماثل له ؛ فإن التعليمات العامة للنيابات لا تساعد على هذا التصور( [12]). فالملاحظ فى هذه التعليمات كثرة القيود والأعباء على عاتق أعضاء النيابة العامة وتعددها دون تمييز بين وظيفة التحقيق والاتهام ، وقد سبق ذكر النصوص التى تجعل تبعية أعضاء النيابة العامة لرؤسائهم تبعية إدارية وفنية في آن واحد. وقد قيدت تعليمات النيابة العامة إجراء التحقيق مع أفراد القوات المسلحة والشرطة والمحامين بمجموعة من القيود التى تحد من صلاحية عضو النيابة كقاض للتحقيق( [13]).
ويرى جانب من الفقه ورجال القضاء بحق أن "هذه الوصاية الكثيفة التى تفرض على قاضى التحقيق ممثلاً فى عضو النيابة تنال من استقلاله وتشل حركته وتقلل من شأنه ومن الأعمال التى يقوم بها ؛ بل وتشكك فى كفاءته وقدرته على مباشرة عمله. وإلى جانب ذلك فإنها لا شك تخالف أصول القانون وصحيح أحكامه…. وأن ما يخضع له أعضاء النيابة من رقابة زادت طبقاتها وتنوعت وباتت كثيفة قاسية من رئيس النيابة إلى المحامى العام إلى المحامى العام الأول إلى النائب العام المساعد وأخيراً إلى النائب العام ، وأن هذه الطبقات الكثيفة من الإشراف والمراجعة والتوجيه فى مجال التحقيق لا تجعل للمحقق الفعلى إلا دوراً ثانوياً ولا تجعل منه قاض للتحقيق بالمعنى الصحيح ؛ وإنما مجرد منفذ لمشيئة الموجهين والمشرفين، ويقلص فكرة قاضى التحقيق من أساسها"( [14]). ومن ناحية أخرى فإن هذه القيود فى حقيقتها مخالفة لنصوص القانون: فالشارع قد أوجب على عضو النيابة أن ينتقل فور إبلاغه بوجود محبوس بصفة غير قانونية إلى المحل الذى به هذا المحبوس وأن يقوم بالتحقيق فوراً ويأمر بالإفراج عنه ، كما أن على أعضاء النيابة أن يقوموا بزيارة السجون وأماكن الحجز وأن يتأكدوا من عدم وجود مقبوض عليه أو محبوس بدون وجه حق(المادتان 42-43 إجراءات سالفتى الذكر).  وكأثر للوصاية الكثيفة من التعليمات والأوامر الرئاسية لا يستطيع أعضاء النيابة تطبيق هذه النصوص، إذ يجب عليهم الحصول على إذن المحامى العام قبل قيامهم بتفتيش الحجز أو السجن. والنتيجة التى تترتب على ذلك أن النصوص التى تحمى الحريات الفردية شبه معطلة ، فلا يستطيع أعضاء السلطة المنوط بهم حمايتها أداء دورهم الذى رسمه لهه الدستور والقانون. ويلاحظ أن مخالفة عضو النيابة لهذه التعليمات تؤدى إلى تعرضه نفسه إلى التحقيق الإدارى وإلى توقيع جزاء تأديبى عليه ، فضلاً عن نقله من محل عمله أخذاً بالسلطة التقديرية للنائب العام فى ذلك. ويلاحظ أنه من الوجهة الموضوعية ، فإن امتناع عضو النيابة عن تنفيذ ما تأمر به القوانين يثير التساؤل عن توافر جريمة الامتناع عن تنفيذ أمر أو قانون، وقد جرمت بعض التشريعات المقارنة كالقانون الفرنسى فعل الامتناع عن إنهاء الحرمان غير المشروع للحرية (المادة 432-5 عقوبات) والمرتكب من شخص يعد من الأمناء على السلطة العامة أو المكلف بخدمة فى مرفق عام( [15]).

سادساً: عدم الإلمام بتطور قانون الإجراءات الجنائية المصرى:

لم تتابع لجنة وضع الدستور النضال بين الحرية والسلطة الذى امتد إلى ما قبل منتصف القرن الماضى حيث كان القانون المصرى يجعل التحقيق بيد قاض والجنايات تنظر على درجتين بالإضافة إلى وجود قضاء للإحالة في الجنايات ، وكيف أن التطور التشريعى قد مال إلى السلطة على حساب الحرية على نحو قد صار معه القانون المصرى في وضع يقل كثيراً عن غيره من قوانين مقارنة. وقد فات لجنة وضع الدستور أن السلطات الممنوحة للنيابة العامة في القانون المصرى لا تتوافر لأى سلطة تحقيق في أى قانون مقارن يحرص على صيانة الحقوق والحريات ، بل إن هذه السلطات الواسعة للنيابة والتى تمتد إلى الحبس الاحتياطى في كثير من الجرائم لمدد تصل إلى خمسة أشهر دون عرض على قاض فضلاً عن سلطة الأمر بالتنصت والمراقبة والتفتيش واعتراض المراسلات وكشف سرية الحسابات والمنع من إدارة الأموال والتحفظ عليها والمنع من السفر ومن الإحالة إلى القضاء بدون رقابة قضائية وغيرها من إجراءات، ما يجعل من ممارسة هذه السلطة الواسعة عقوبة بغير حكم قضائى ، وهو ما ينافى نص المادة 95 من الدستور والتى توجب ألا توقع عقوبة إلا بحكم قضائى. وكان يجب أن يتضمن الدستور -بعد ثورتين- وضع ضمانات مناسبة لجانب الحرية، لا أن يثبت دعائم السلطة ، فالعبرة في صيانة الحقوق ليست بالنصوص ؛ بل بالجهة التى تطبق هذه النصوص ومقدار ما تتمتع به من ضمانات، وما يسود عملها من رقابة من جهات أخرى على نحو يحول دون الاستبداد.   

الفصل الثانى
الأوامر الماسة بالحريات في الدستور

-مدى دقة استخدام الدستور لعبارة الأمر القضائى المسبب:
تفرق كافة الدساتير والقوانين المقارنة في شأن اتخاذ الأوامر الماسة بالحرية الشخصية بين النيابة العامة من جهة ، وبين القضاء من جهة أخرى، وحتى في الأنظمة الإجرائية التى تعهد بالتحقيق إلى النيابة العامة، فإن سلطتها فى اتخاذ أوامر الحبس الاحتياطى والتفتيش ومراقبة الاتصالات والمنع من السفر مقيدة بصدورها من قاض
وقد سار الدستور الجديد خلف دستور 2012، فاعتبر أن النيابة العامة تدخل في مدلول القضاء ورتب على ذلك نتيجة مفادها أن كل ما تصدره النيابة العامة من قرارات فهى تعتبر قرارات قضائية تماثل ما يصدره القضاء من قرارات. وهى نظرة كما ذكرنا تفصيلاً غير صحيحة ، لوجود فروق جوهرية بين طبيعة تكوين وعمل النيابة عن القضاء. وقد ترتب على هذه الفروق أن تقلصت سلطة النيابة العامة في نصوص الدساتير والتشريعات المقارنة في إصدار الأوامر الماسة بالحرية الشخصية ، وأصبح من المسلم به في خطة التشريعات الجنائية الحديثة وجود رقابة قضائية أى من قضاة بالمعنى الدقيق على أعمال النيابة. وتتخذ هذه الرقابة صوراً مختلفة ، وأغلبها هو سلب سلطة النيابة في اتخاذ هذه الأوامر ووجوب صدورها من قاض مستقل.
وقد ترتب على عدم الإحاطة بوضع سلطتى التحقيق والاتهام في الدساتير والتشريعات المقارنة أن شاب عدم الوضوح رؤية الدستور الجديد فيما يختص بوضع النيابة العامة من جاني ، واعتبار ما تصدره هى أوامر صادرة من القضاء.
فعبارة الأمر القضائى المسبب التى تكرر النص عليها في دستور 2012 ، 2014 ، لا تعنى في خطة أغلب الدساتير والتشريعات المقارنة سوى الأمر الصادر من القضاء بمعناه الدقيق. فعلى سبيل المثال ، فإن عبارة الأمر القضائى الصادر بالقبض أو بالحبس الاحتياطى الواردة في نص المادة 104 وما بعدها من الدستور الألمانى تعنى الأمر الصادر من قاض ، وليس من النيابة العامة ، وما تنص عليه المادة 13 من هذا الدستور من أن التفتيش يجرى -بحسب الأصل- بأمر يصدر من قاض، على الرغم من أن النيابة هى سلطة التحقيق الابتدائى في هذا القانون. بل إن لجنة وضع الدستور لم تحلل نصوص قانون الإجراءات الجنائية ، وهو يميز-رغم ما يوجه إليه من نقد- بوضوح بين النيابة العامة وبين القضاء، كما أن نصوص قانون السلطة القضائية لا تجعل النيابة العامة في مركز القضاء لا حقيقة ولا حكماً.

أولاً: القبض وتقييد الحرية
- الضمانات والحقوق الدستورية والقانونية للمقيد حريته: نصت المادتان 54، 55 من الدستور على مجموعة من الحقوق لمن تقيد حريته. وصياغة النصان تتسع لكل من تقيد حريته لأى سبب من الأسباب ، وأياً كان الإجراء المقيد للحرية. ولذلك يمتد نطاق هذه الحقوق ليشمل المقبوض عليه قبضاً صحيحاً وللمحتجز وللمحبوس احتياطياً ولمن قيدت حريته في إحدى حالات التعرض المادى ؛ بل إن هذه الحقوق تتوافر في حالات القبض غير الصحيح. وتسرى هذه الحقوق على المعتقل إدارياً الصادر بحقه أمر اعتقال استناداً لقانون الطوارئ حال إعلانها وسريان أحكامه.

-حصر حالتى تقييد الحرية في التلبس والأمر القضائى المسبب:
على الرغم من أن الدستور قد حصر تقييد الحرية كأثر لحالة التلبس أو صدور أمر قضائى مسبب ؛ إلا أن هناك الكثير من الإجراءات المقيدة للحرية والتى تجرى دون نص من القانون مثل المنع من السفر والوضع على قوائم المترقب الوصول. ونص المادة 54 سالف الذكر يفترض أن تقييد الحرية قد تم بالقبض أو الحجز؛ غير أن هذا الافتراض ليس صحيحاً على إطلاقه، كما سبق القول قد يتحقق هذا التقييد بالمنع من السفر. والممنوع من السفر قد لا يقدم إلى جهة التحقيق خلال أربع وعشرين ساعة التى نص عليها الدستور ، لأنه قد لا يكون مقبوضاً عليه، ولذلك كان يجب في تقديرنا أن يتسع أسلوب صياغة المادة 54 من الدستور لتشمل مثل هذه الحالات.

2-تبليغ المقيد حريته فوراً بأسباب ذلك وأن يحاط بحقوقه كتابة :

حرص دستور سنة 2014 في المادة 54 في فقرتها الثانية على النص على أنه "يجب أن يُبلغ فوراً كل من تقيد حريته بأسباب ذلك، ويحاط بحقوقه كتابة...". كما نصت على أن "يمكن المقيد حريته من الاتصال بذويه وبمحاميه فوراً".
ويثير هذا النص بعض الصعوبات: فمن ناحية فما هى المدة التى يجب إبلاغ المقيد حريته بأسباب ذلك وبحقوقه كتابة؟ ، وقد كان دستور سنة 2012 يجعل من هذه المدة اثنتي عشرة ساعة؛ غير أن لجنة صياغة دستور 2014 اكتفت بالنص على أن يكون الإبلاغ فوراً، دون تحديد لمدة معينة. والصعوبة الثانية هى في الأثر المترتب على عدم الإبلاغ الكتابى أو عدم تمكين المقيد حريته من الاتصال بذويه أو محاميه، إذ لم يرتب الدستور أية جزاء على مخالفة هذا الواجب، وفى تقديرنا أنه بغير النص على جزاء معين في حال مخالفة هذه الضمانات، فلن يكون لها أثر.

- عرض المقيد حريته على سلطة التحقيق خلال أربع وعشرين ساعة:

تنص الفقرة الثانية من المادة 54 من الدستور على أنه يجب أن يقدم من تقيد حريته إلى سلطة التحقيق خلال أربع وعشرين ساعة من وقت تقييد حريته. ويلاحظ أن هذه المادة يضاف إليها مدة أربع وعشرين ساعة أخرى تملكها النيابة وهى المنصوص عليها في المادة 36 من قانون الإجراءات الجنائية وذلك قبل استجواب المتهم. ويعنى ذلك أن المتهم وفقاً لنص الدستور وقانونية الإجراءات يمكن احتجازه مدة يومين بدون استجواب ، وهى مدة في تقديرنا تعتبر طويلة وتنال من قرينة البراءة.

- عدم جواز بدء التحقيق مع المقيد حريته إلا في حضور محام:

نصت الفقرة الثالثة من المادة 54 من الدستور على أنه: "ولا يبدأ التحقيق معه إلا في حضور محاميه، فإن لم يكن له محام، ندب له محام، مع توفير المساعدة اللازمة لذوى الإعاقة، وفقاً للإجراءات المقررة في القانون". وكان الشارع قد عدل المادة 124 من قانون الإجراءات الجنائية بالقانون 145 لسنة 2006 والتى نصت على أنه: "لا يجوز للمحقق في الجنايات وفي الجنح المعاقب عليها بالحبس وجوباً أن يستجوب المتهم أو يواجهه بغيره من المتهمين أو الشهود إلا بعد دعوة محاميه للحضور عدا حالة التلبس وحالة السرعة بسبب الخوف من ضياع الأدلة على النحو الذي يثبته المحقق في المحضر. ...، وإذا لم يكن للمتهم محام، أو لم يحضر محاميه بعد دعوته، وجب على المحقق، من تلقاء نفسه، أن يندب له محامياً". وفى تقديرنا أن صياغة نص المادة 124 من قانون الإجراءات الجنائية سالفة الذكر قد صارت متعارضة مع نص الفقرة الثالثة من المادة 54 من الدستور: فمن ناحية فإن المادة 124 تقصر حضور المحامى على حالة الاتهام بجناية أو جنحة يوجب فيها القانون الحبس ؛ بينما نص المادة 54 من الدستور تنص على وجوب حضور المحامى قبل بدأ التحقيق، وذلك دون تحديد لنوع الجريمة، وهو ما يتسع وفقاً لنص الدستور حتى للمخالفات، فإذا قررت النيابة أن تفتح تحقيقاً في واقعة ما ، فيجب في هذه الحالة دعوة محام لحضور التحقيق إذا قررت سماع أقوال المتهم.
ويلاحظ أن عبارة "وفقاً للإجراءات المقررة في القانون" ، التى نصت عليها الفقرة الثالثة من المادة 54 لا تعنى أن الدستور يحيل إلى القانون في تحديد حالات الحضور الوجوبى للمحامى ؛ وإنما تعنى هذه العبارة أن هذه الحالات قد حددها الدستور غير أنها تنظم إجرائياً وفقاً للإجراءات التى نص عليها القانون.

-هل يستثنى من حضور المحامى التحقيق في حالتى التلبس والسرعة:

يثور التساؤل عما إذا كان نص المادة 54 سالفة الذكر يستبعد الاستثناءين الواردين في المادة 124 إجراءات والمتعلقين بجواز استجواب المتهم في حالتى التلبس والسرعة بسبب الخوف من ضياع الأدلة؟. في تقديرنا أن صياغة المادة 54 من الدستور لم تخول الشارع وضع استثناء على هذا الحق. وعلى الرغم من أن حالتى التلبس والسرعة بسبب الخوف من ضياع الأدلة تسوغان من الناحية المنطقية الاستثناء من دعوة محام للحضور مع المتهم فيهما ؛ إلا أن صياغة المادة 54 لا تجيز القول بذلك. فإذا كان الدستور يريد أن يحيل إلى القانون في شأن هذه الاستثناءات ، لكان قد نص على عبارة أن يتم ذلك "وفقاً لما ينص عليه القانون" ، أو أن ينص على عبارة " وذلك في الحالات التى ينص عليها القانون" ؛ أما النص على ألا يبدأ التحقيق إلا في حضور محامى المقيد حريته وندب محام له إن لم يكن له محام وتوفير المساعدة اللازمة لذوى الإعاقة، "وفقاً للإجراءات المقررة في القانون" ، فهذه العبارة الأخيرة لا تفيد بأى حال أن الدستور قد فوض القانون في تقرير استثناءات ما على قاعدة حضور محام قبل بدأ التحقيق. بل إن النص صريح على أن ما يفوض فيه الدستور القانون هو فقط في وضع الإجراءات التنظيمية في شأن إعمال هذا الحق ؛ بدون أن يتضمن ذلك استثناء أو حرماناً منه. وفى تقديرنا أن صياغة المادة 54 من الدستور وهى وإن كانت تكفل ضمانة أكبر للمتهم ؛ غير أنها قد لا تتفق مع مصلحة التحقيق والسرعة الواجبة في إجرائه في بعض الحالات.

-الضمانات في نص الدستور مقررة للمقيدة حريته فقط وليس لكل متهم:

هناك نقد آخر مهم لصياغة نص الفقرة الثالثة من المادة 54، ذلك أنه حصر نطاق الحق في حضور محام مع المقيد حريته فقط، فالفقرة الثالثة هى امتداد للفقرتين السابقتين عليها وهما يتحدثان عن المقيدة حريته فقط ، وهى نظرة غير صائبة ، فهذا الحق يجب أن يستفيد به المتهم، لا المقيدة حريته فحسب. فلجنة وضع الدستور لم تفطن إلى أن تعبير المتهم يرتب في القانون مركزاً قانونياً لشاغله يجعل له حقوقاً والتزامات، وتعبير المتهم هو أوسع نطاقاً من تعبير المقيد حريته. وقد يكون المرء متهماً ؛ ولكنه غير مقيد الحرية ، ولذلك كان الأجدر أن يصاغ النص بمناسبة الحديث عن وضع المتهم، لا المقيد حريته فحسب. والنتيجة التى تترتب على ذلك أن تصبح صياغة نص المادة 124 من قانون الإجراءات الجنائية أدق من صياغة المادة 54 من الدستور.

-حضور محام في مرحلة المحاكمة:
نصت الفقرة الأخيرة من المادة 54 من الدستور على أنه: "وفى جميع الأحوال لا يجوز محاكمة المتهم في الجرائم التى يجوز الحبس فيها إلا بحضور محام موكل أو منتدب". وهذا النص وإن ورد في الفصل الخاص بالحقوق والحريات؛ إلا أن الموضع المناسب له في تقديرنا هو في باب سيادة القانون، وفى إطار فكرة المحاكمة العادلة. والملاحظ أن النص على عدم جواز محاكمة المتهم إلا "بحضور محام موكل أو منتدب" ، هو تعبير يتسم بعدم الدقة بعض الشيء: وعلة ذلك أن النص قد افترض أن محامى المتهم يكون دائماً موكلاً ؛ بينما تتسع فكرة الدفاع عن المتهم للحضور مع المتهم ولو بدون توكيل، كما أنها تتسع للحالات التى يجوز الحضور عن المتهم دون توكيل ، كما هو الحال بالنسبة للأقارب الذين نص عليهم القانون ، وكذلك في الحالات التى يكون الحضور مع المتهم أو عنه يستند إلى فكرة الإنابة القانونية. وفى تقديرنا أنه كان الأدق أن ينص الدستور على ألا تجرى محاكمة المتهم إلا بحضور محاميه ، فإن لم يكن له محام ، ندب له محام.
- الحبس الاحتياطى فى الدستور: نصت الفقرة الخامسة من المادة 54 من الدستور والتى تطابق الفقرة الأخيرة من المادة 35 من دستور سنة 2012 على أنه: "وينظم القانون أحكام الحبس الاحتياطى، ومدته، وأسبابه، وحالات استحقاق التعويض الذى تلتزم الدولة بأدائه عن الحبس الاحتياطى، أو عن تنفيذ عقوبة صدر حكم بات بإلغاء الحكم المنفذة بموجبه". والنص على أن ينظم القانون أحكام الحبس الاحتياطى ومدته وأسبابه ليس فيه جديد ، فهو إحالة من الدستور إلى القانون في شأن النص على تفصيلات هذه المسائل. وهذا النص يمكن أن توجه إليه سهام النقد على ما يلى:

- تقدير خطة الدستور في شأن النص على الحبس الاحتياطى:

أولاً: غياب الضمانات الفعلية للحبس الاحتياطى:

 في تقديرنا أن خطة الدستور في نصه على قواعد الحبس الاحتياطى محل نظر: ذلك أن الأمر بالحبس الاحتياطى هو إجراء يتسم بالخطورة والجسامة ، وكان يجب تقرير ضمانات واضحة في الدستور للأمر به. ومن أمثلة هذه الضمانات أن يكون الأمر به من قاض ، وليس من النيابة العامة ، وأن يكون بموجب أمر كتابى مسبب، وأن يقتصر الأمر به على الاتهام بجرائم تتسم بالجسامة والخطورة ، وأن يكون هناك تناسباً في الأمر به. والدستور المصرى لم يستفد من خطة الدساتير المقارنة، ولا نصوص قوانين الإجراءات الجنائية المقارنة، فهذه النصوص لا تجعل للنيابة العامة سلطة الحبس الاحتياطى؛ بل تعهد بهذه السلطة إلى قاض تتوافر له الضمانات القضائية ويتمتع بالاستقلال، ولا يخضع لقاعدة التبعية التدريجية. ومن أمثلة هذه التشريعات القانون الفرنسى والألمانى والإنجليزى والبلجيكى والأمريكى وغيرها، كما يذهب عدد من قوانين الدول العربية إلى هذه الوجهة. ومن ناحية أخرى فإن الدستور قد أغفل النظر عن أن النيابة العامة لها سلطة محكمة الجنح المستأنفة منعقدة في غرفة مشورة في الأمر بالحبس الاحتياطى وتجديد مدته في جرائم متعددة ، كما أن لها سلطة قاضى التحقيق في جرائم أخرى تتسم بالاتساع ، وهو ما يعنى أن للنيابة في بعض الجرائم سلطة الحبس الاحتياطى لمدد تصل إلى خمسة أشهر كاملة عند مباشرتها لسلطة محكمة الجنح المستأنفة دون عرض على قاض لتجديد هذا الحبس. ومن ناحية أخرى فإن الكثير من الجرائم التى وسع فيها الشارع من سلطة النيابة في الحبس الاحتياطى يتسم ركنها المادى بقدر كبير من عدم التحديد ، ونصوصها تتسم بالمرونة بما يسمح بالتوسع في التطبيق، وهو ما قد يجعل الحبس الاحتياطى عقوبة بغير حكم ، ويتوقف الأمر به على رؤية النيابة ذاتها وتفسيرها لنصوص التجريم ، ذلك أن هناك صلة بين النصوص الموضوعية والنصوص الإجرائية ، فإذا كانت الأولى تتسم بالمرونة والاتساع استتبع ذلك بطريق اللزوم اتساعاً مماثلاً في تطبيق الثانية. وهو ما صمت عنه الدستور تماماً ، وهو ما يجعل كافة الضمانات التى نص عليها ليس لها أهمية فعلية ، ذلك أن المشكلة الحقيقية وجوهر الأمر هو في السلطة التى لها إصدار هذا الأمر وتجديد ونطاق صدوره ، وهو ما لم يعالجه الدستور.

ثانياً: وجهة الدستور في التعويض عن الحبس الاحتياطى:

 لعل أهم ما ورد-في تقديرنا- في الفقرة السابقة من المادة 54 هو أن ينص القانون على حالات استحقاق التعويض الذى تلتزم الدولة بأدائه عن الحبس الاحتياطى أو عن تنفيذ عقوبة صدر حكم بات بإلغاء الحكم المنفذة بموجبه. وفى تقديرنا أن الصياغة السابقة محل نظر ذلك أن هذه الفقرة لم تضع الضابط الأساسى الذى يوجب الحكم بالتعويض: وتفسير ذلك أن النص على تقرير مبدأ التعويض عن الحبس الاحتياطى بصورة مطلقة هو أمر يشوبه عدم الدقة، وكان يجب وضع ضابط لتقرير هذا الحق قوامه أن تكون الدعوى التى حبس المتهم فيها قد قضى فيها نهائياً بغير الإدانة أو صدر أمر بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية فيها. ويلاحظ أن تعبير "بغير الإدانة" وإن كان يرادف البراءة من الناحية الواقعية إلا أنه قد لا يتطابق على نحو دقيق معه: وتفسير ذلك أن الحكم بغير الإدانة يتسع نطاقه ليشمل حالات عدم قبول الدعوى الجنائية أو لسقوط الحق فيها أو لغيرها من حالات ، أما البراءة فتعنى أن الدعوى قد فصل فيها من الناحية الموضوعية.
-الحبس الاحتياطى فى جرائم النشر: كان حظر حبس الصحفى يقتصر على الحبس الاحتياطى، دون الحبس كعقوبة مقررة للجرائم التى يتهم بارتكابها. غير أنه بصدور الدستور الحالى فإنه نص فى الفقرة الأولى من المادة 71 منه على حظر فرض رقابة على الصحف ووسائل الإعلام المصرية بأى وجه أو مصادرتها أو وقفها أو غلقها. ويلاحظ أنه لم يعد من الجائز وقف أو تعطيل أو مصادرة صحيفة أو وسيلة إعلام حتى ولو بموجب حكم قضائى. وأما الفقرة الثانية فقد جاء نصها بأنه "لا توقع عقوبة سالبة للحرية فى الجرائم التى ترتكب بطريق النشر أو العلانية، أما الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو بالتمييز بين المواطنين أو بالطعن فى أعراض الأفراد، فإن القانون يحدد عقوبتها". ونص الدستور يميز بين نوعين من الجرائم يرتكبها الصحفى بطريق النشر أو العلانية: الأولى هى جرائم التحريض على العنف أو التمييز أو الطعن فى الأعراض ، وفى هذه الحالة يجوز للشارع أن ينص على عقوبة سالبة للحرية توقع على الصحفى فى هذه الحالة. والثانية هى الجرائم التى تخرج عن الجرائم السابقة، وفى هذه الحالة ، فإن الدستور وضع قيداً على السلطة التشريعية مضمونه عدم جواز معاقبة الصحفى فى هذه الحالة بعقوبة سالبة للحرية ،غير أنه يجوز أن ينص على العقوبات المالية. وفى هذه الطائفة من الجرائم فإنه متى كانت العقوبة السالبة للحرية غير جائزة أصلاً ، فإن الحبس الاحتياطى فى هذه الجرائم بالتبعية يكون غير جائز.
-تقدير خطة الدستور: قد يبدو للوهلة الأولى أن دستور سنة 2014 قد مضى قدماً فى حماية الصحافة ووسائل الإعلام والصحفيين، فهو لا يجيز الرقابة على الصحف أو مصادرتها أو وقفها أو إغلاقها حتى ولو بموجب حكم قضائى، وهو لا يجيز توقيع عقوبة سالبة للحرية على جرائم الصحافة ووسائل الإعلام التى ترتكب بطريق النشر أو غيرها من وسائل العلانية ، ومن ثم لا يجوز حبس الصحفى أو الإعلامى حبساً احتياطياً فى هذه الجرائم. غير أن التحليل الدقيق لنص المادة 71 من الدستور يكشف عن غير ذلك: فمن ناحية فإن إجازة الدستور أن يضع القانون عقوبة سالبة للحرية فى حال ارتكاب الصحفى لجريمة تتضمن "التحريض على العنف أو بالتمييز بين المواطنين أو بالطعن فى أعراض الأفراد". والعبارات التى استخدمها الدستور من "التحريض على العنف" "التمييز" "الطعن فى الأعراض" هى من الاتساع والمرونة وعدم التحديد بما يسمح بتطبيقها على كافة ما يؤديه الصحفى من أعمال. والنتيجة التى تترتب على ذلك أن يتسع نطاق التجريم اتساعاً كبيراً ، ويكون متروكاً لتقدير النيابة العامة ، والتى تملك تكييف الأفعال التى ارتكبها الصحفى واعتبارها مثلاً أنها تتضمن تمييزاً بين المواطنين أو طعناً فى الأعراض. ويترتب على اتساع دائرة التجريم، أن تتسع كذلك دائرة النصوص الإجرائية التى تطبق على هذه الأفعال، فتملك جهات التحقيق فى هذه الحالة استدعاء الصحفى للتحقيق وتوجيه اتهام له والإفراج عنه بكفالة، كما تملك إحالته للقضاء، الذى يجوز له توقيع عقوبة سالبة للحرية فى هذه الحالة.
وهناك نقد آخر يوجه إلى صياغة المادة 71 من الدستور سالفة الذكر وهو أنها لا تضع قيداً على السلطة التشريعية فى تعديل نصوص قانون الصحافة وإلغاء حظر الحبس الاحتياطى فى أنواع الجرائم الثلاثة التى وردت فى نص الفقرة الثانية. فلا يوجد ما يحول دون تدخل السلطة التشريعية والنص على قصر الحصانة من الحبس الاحتياطى على الحالات الأخرى التى لا تتضمن تحريضاً على العنف أو تمييزاً بين الناس أو طعناً فى أعراضهم. ومن جهة ثالثة ، فإنه يبدو من نص المادة 71 أنها قصرت تطبيق حظر فرض رقابة على الصحف ووسائل الإعلام "المصرية" ، دون غيرها من  وسائل الإعلام. وهو ما يثير التساؤل عن علة هذا القيد. فالأصل أن الدستور يحمى حرية الصحافة والإعلام من الاطلاع بدورها فى تنوير الرأى العام ونقل المعلومات والأخبار التى تلزم فى وقوف العامة على الحقائق، والتزام الحيادية والمهنية والشفافية وعرض كافة الآراء الفكرية والسياسية والاجتماعية مهما كان وجه الرأى فيها، فإن هذه الرسالة التى تقف وراء كفالة حرية الصحافة والإعلام وتقرير حماية للصحفى فى ممارسته لعمله يتناقض معها أن تتقرر هذه الحماية فقط لوسائل الإعلام المصرية، دون غيرها من وسائل إعلام. وسوف يترتب على نص المادة 71 من الدستور نتائج متناقضة: فإذا قامت صحيفة وسيلة إعلام مصرية بنشر خبر أو برنامج رأت معه سلطات الدولة أنه ينطوى على خروج على قواعد المهنة والقوانين ، فإنها لا تملك الرقابة على الصحيفة أو مصادرتها أو وقفها أو إغلاقها ؛ بينما لو كان ذات الخبر أو البرنامج منشوراً أو مذاعاً فى وسيلة إعلام غير مصرية، فإنه يجوز فى هذه الحالة فرض رقابة عليها ومصادرتها ووقفها، بل وإغلاق مقرها بمصر. وأخيراً، فإن حظر وقف الصحيفة أو مصادرتها أو إغلاقها على وجه الإطلاق يغل يد المجتمع فى مجابهة ما قد ينشر أو يذاع فى الصحف أو ووسائل الإعلام ويتضمن مساساً بقيم ومصالح المجتمع. وفى الحقيقة ، فإنه لا يوجد مبرر لغل يد القضاء عن أن يحكم بوقف صحيفة مؤقتاً أو إغلاقها. وإذا كانت هناك خشية فى أن تكون حرية الإعلام مهددة بالأحكام القضائية التى قد تصدر ويتم إلغاؤها بعد الطعن فيها أو التى قد لا تستند إلى تقدير صحيح، فإن هذه الخشية لها ما يبررها، وفى هذه الحالة ينبغى البحث عن الحلول التى تكفل درؤها والحيلولة دون تمكين الإعلام من القيام بدوره. وقد يكون ذلك من خلال اللجوء إلى محكمة أعلى درجة فى النظام القضائى، وهو حل لجأ إليه الشارع فى حال أن رأت النيابة العامة كشف سرية حسابات المتهم البنكية ، إذ يجب عليها أن تلجأ إلى محكمة استئناف القاهرة للحصول على هذا الإذن. ومن الجائز أيضاً أن يتم يعهد البت فى مسألة وقف الصحيفة إلى مجلس له تشكيل قضائى وإعلامى رفيع ، إذ يكون لهذا المجلس القدرة على تقدير مدى الخروج على القيم الدينية والاجتماعية ، وقدر هذا الخروج ، ومدى جسامته ، وكيف يمكن جبره دون التأثير على حرية الإعلام. غير أن الدستور لم ير ذلك ، وخالف بذلك خطة الدساتير المصرية السابقة ، كما أنه خالف أيضاً خطة العديد من الدساتير والتشريعات المقارنة ، فسلب القضاء أو أى سلطة أخرى ذات تشكيل مختلط القدرة على وقف الصحيفة أو وسيلة الإعلام. ولم يتحسب واضعو نص المادة 71 من الدستور من نشر صحيفة إساءة بالغة بالقيم الدينية أو الأخلاقية، كما لو تضمنت سباً أو قذفاً فى الأنبياء أو الرسل ، أو نالت قيماً اجتماعية جديرة بالحماية ، كتحريض طائفة فى المجتمع ضد أخرى أو إثارة الكراهية بين فئات المجتمع ، فكيف يمكن من الناحية التشريعية مواجهة ذلك.
-خروج الدستور الجديد على قاعدة خضوع أماكن الحجز لقوانين تنظيم السجون: كان دستور 1971 ينص فى المادة 41 منه على أنه لا يجوز حجز المقبوض عليه أو حبسه فى غير الأماكن الخاضعة للقوانين الصادرة بتنظيم السجون. وقد خلا دستور سنة 2012، وكذلك الدستور الحالى لسنة 2014 من هذا النص. وفى تقديرنا أنه كان الأجدر بلجنة وضع الدستور أن تعيد النص على ما كان ينص عليه دستور 1971: وتفسير ذلك أن خضوع مكان الحجز لقوانين تنظيم السجون هى ضمانة مهمة.
فمن ناحية فإن هذه الأماكن معروفة ومحددة أماكنها، فلا يجوز الحجز فيما عداها. ومن ناحية ثانية فإن هذه الأماكن تخضع إدارياً لمصلحة السجون إذا كانت سجناً، وتخضع لإدارة مأمور القسم أو المركز إذا كانت من غرف الحجز بها، والسلطة الإدارية التى تشرف على هذه الأماكن هى مسئولة مسئولية تامة عن كل سجين أو محتجز بها ، بخلاف أماكن الحجز التى تخرج عن نطاق إدارة هذه السلطات. ومن ناحية ثالثة، فإن الأماكن الخاضعة لقوانين تنظيم السجون يطبق فيها القوانين واللوائح التى تضمن الحد الأدنى للمعاملة الإنسانية للمحتجز، وتتوافر بها سجلات تضبط دخول وخروج السجناء والمحتجزين، وتنظم أوضاع النزلاء وزياراتهم وحقوقهم المختلفة والرعاية الصحية والاجتماعية ، وإجراء تصنيف لهم ، وعدم الاتصال بهم إلا بإذن من السلطات القضائية ، وغيرها من الضمانات التى لا تتوافر فى الأماكن الأخرى.
ومن ناحية رابعة ، فإن عدم النص فى الدستور على أن يكون الاحتجاز فى مكان خاضع لتطبيق قوانين السجون ينطوى على خطورة واضحة، فهو يسمح لأى جهة بأن يكون لها أماكن حجز خاصة بها، هذه الأماكن يمكن أن يتعرض المحتجز فيها لخطر المعاملة غير الإنسانية ، بل وربما فقدان حياته دون أن تكون جهة محددة مسئولة عن ذلك. كما أن هذه الأماكن غير المعلومة لن تخضع لإشراف القضاء ، الذى يتسم أصلاً بعدم كفايته على السجون وأماكن الاحتجاز العادية.
وأخيراً فإن علة نص دستور 1971 على أن يكون الحجز فى أحد الأماكن الخاضعة لقوانين تنظيم السجون هى ما كشفت عنه التحقيقات فى حقبة الستينات من القرن الماضى من تعدد أماكن الاحتجاز بتعدد الجهات الأمنية، وعدم خضوع هذه الأماكن لقوانين تنظيم السجون أو إشراف القضاء ، وأن الكثير ممن احتجزوا فى هذه الأماكن لم يقبض عليهم فى تهم محددة واستطالت مدة احتجازهم بالمخالفة للقانون، وتعرض بعضهم للتعذيب الذى أثبتته أحكام القضاء. وفى تقديرنا أن الاعتبارات التى حدت بدستور 1971 إلى إيراد هذا النص هى جديرة بالتأييد ، ولا يمكن تبرير خطة دستورى 2012 ، 2014 فى حذف هذه العبارة التى تضع قيداً على سلطة الدولة ، وتضمن للمحتجز الحد الأدنى من كرامته الإنسانية.
- خضوع السجون وأماكن الاحتجاز للإشراف القضائى:
على الرغم من أن المادة 55 من الدستور في فقرتها الأولى قد حرصت على النص بوجوب معاملة كل من يقبض عليه، أو يحبس، أو تقيد حريته، بما يحفظ عليه كرامته، ولا يجوز تعذيبه، ولا ترهيبه، ولا إكراهه، ولا إيذاؤه بدنياً أو معنوياً، ولا يكون حجزه، أو حبسه إلا في أماكن مخصصة لذلك لائقة إنسانياً وصحياً، وتلتزم الدولة بتوفير وسائل الإتاحة للأشخاص ذوى الإعاقة. فإن هذا النص وغيره لا قيمة لها بدون تدخل قضائى فعال فى مرحلة التنفيذ العقابى. غير أن رؤية الدستور الجديد لا تساعد على هذا التصور: فلقد نصت الفقرة الثانية من المادة 56 على أن: "تخضع السجون وأماكن الاحتجاز للإشراف القضائي، ويحظر فيها كل ما ينافي كرامة الإنسان، أو يعرض صحته للخطر". وفى تقديرنا أن ما نص عليه الدستور لا يعبر عن نظرة متقدمة تتفق مع خطورة وأهمية الرقابة على السجون وأماكن الاحتجاز. فالتشريعات المقارنة قد أناطت بالقضاء التدخل بفاعلية لتحقيق الرقابة على هذه الأماكن، فأنشأت قضاءً خاصاً بالتنفيذ العقابى، بالإضافة إلى صور الرقابة القضائية الأخرى. والإشراف القضائى الذى ينص عليه الدستور ليس إلا إشرافاً شكلياً، لم يحقق الغرض منه ، فالقضاء والنيابة العامة مثقلين بالكثير من الأعباء، ويأتى الإشراف على السجون وأماكن الاحتجاز في نهاية قائمة هذه الأعباء ، فضلاً عما سبق وأن ذكرناه من أن تعليمات النيابة العامة تقيد حرية أعضاء النيابة في تفتيش السجون وأماكن الحجز. وكان الأجدر بالدستور الجديد أن ينص على تخصيص قضاء لمرحلة التنفيذ العقابى والإشراف على أماكن الاحتجاز.


ثالثاً: تفتيش المساكن والدخول فيها ومراقبتها والتنصت عليها

- المقارنة بين نصوص دستور 2014 ونصوص الدساتير السابقة عليه: نصت المادة 58 من دستور سنة 2014 على أن: "للمنازل حرمة ، وفيما عدا حالات الخطر، أو الاستغاثة لا يجوز دخولها، ولا تفتيشها، ولا مراقبتها أو التنصت عليها إلا بأمر قضائى مسبب، يحدد المكان، والتوقيت، والغرض منه، وذلك كله في الأحوال المبينة في القانون، وبالكيفية التى ينص عليها، ويجب تنبيه من في المنازل عند دخولها أو تفتيشها، واطلاعهم على الأمر الصادر في هذا الشأن". وقد نصت المادة 44 من دستور سنة 1971 والمادة 10 من الإعلان الدستورى لسنة 2011 على أن "للمساكن حرمة فلا يجوز دخولها أو تفتيشها إلا بأمر قضائي مسبب وفقا لأحكام القانون". وأما المادة 39 من دستور سنة 2012 فقد نصت على أن: "للمنازل حرمة، وفيما عدا حالات الخطر والاستغاثة، لا يجوز دخولها ولا تفتيشها، ولا مراقبتها إلا فى الأحوال المبينة فى القانون، وبأمر قضائى مسبب يحدد المكان والتوقيت والغرض، ويجب تنبيه من فى المنازل قبل دخولها أو تفتيشها". وسوف نقارن فيما يلى بين خطة الدساتير الثلاثة في النص على حماية حرمة المنزل من خمسة أوجه:

- من حيث استخدام تعبير "المسكن" أو "المنزل":

استخدم دستور 1971 تعبير "المسكن"، فنص على أن للمساكن حرمة ...(المادة 44) ؛ بينما استخدم دستور 2012 ، 2014 تعبير "المنازل". وفى تقديرنا أن تعبير المسكن يفضل تعبير المنزل ، ذلك أن التعبير الأول يتضمن عنصراً مهماً هو "السكنى" ، وهذا العنصر هو بذاته علة حماية المسكن. فالمسكن هو مستودع سر الشخص ومحل سكينته وهو المكان الذى يهجع إليه ويهدأ فيه. أما تعبير المنزل، فهو أوسع دلالة وأشمل لفظاً، فهو يشمل المسكن وغيره، وتعبير المسكن لا ينصرف معناه إلى المكان بقدر انصرافه إلى عنصر السكن، ولذلك، فإن تعبير المسكن يفضل في تقديرنا تعبير المنزل.
- من حيث جواز الدخول إلى المنزل في حالتى الاستغاثة والخطر بدون أمر قضائى:
لم يتضمن دستور 1971 النص على جواز دخول المساكن إلا بأمر قضائى مسبب ؛ غير أن الفقه والقضاء قد أجازا الدخول إلى المساكن في الحالات التى تعتبر تطبيقاً لمبدأ الضرورة أو تنفيذاً لعقد أو ما أمرت به القوانين واللوائح.
أما دستور 2012 ، 2014 فقد نصا في المادتين 58، 39 على أنه: " وفيما عدا حالات الخطر والاستغاثة، لا يجوز دخولها ولا تفتيشها ولا مراقبتها......".
وفى تقديرنا أن هذين النصين محل نظر ، ذلك أن حصر حالات الدخول دون أمر قضائى في حالتى الخطر والاستغاثة هو حصر لا يشمل الحالات الأخرى التى يجوز الدخول فيها إلى مسكن مثل الدخول تنفيذاً لعقد من عقود توصيل الغاز والكهرباء والهاتف والمياه والإنترنت وغيرها، فهذه العقود تخول الدخول المشروع لمندوبى الشركات التى تقوم بتوصيل أو متابعة هذه الخدمات. وقد كان الأجدر بالنص الدستورى أن يقصر الدخول دون إذن على حالة الضرورة ، وليس الخطر أو الاستغاثة. لا شك في أن الضرورة قد تتضمن الخطر والاستغاثة ؛ غير أن الفرق بين الضرورة وهاتين الحالتين كبير: فقد يتوافر الخطر أو الاستغاثة دون أن تتوافر الضرورة التى تجيز دخول المسكن. فالضرورة تتطلب وجود خطر حال غير مشروع ويتصف بالجسامة ؛ بينما الاكتفاء بوجود خطر دون تحديد وصفه أو جسامته أو شروطه يعد توسعاً لا محل له. كذلك الأمر في الاستغاثة، فإن لم تفصح هذه الاستغاثة عن وجود خطر حال جسيم غير مشروع ، فلا مجال لدخول المسكن في هذه الحالة. وفى تقديرنا كذلك أن خلو نص الدستور من إجازة الدخول في حالة الضرورة أو حالات الخطر أو الاستغاثة لا يعيبه ، فقد خلا دستور سنة 1971 من النص عليها ، ولم يحل ذلك دون إجازة الدخول في هذه الحالات استناداً إلى فكرة الضرورة الإجرائية ، وبدون الحاجة إلى نص.

-من حيث إجازة التفتيش أو المراقبة أو التنصت في حالة وجود خطر أو استغاثة:
على الرغم من أن المتبادر من نص المادتين 58 من دستور 2014 ، 39 من دستور 2012 أن الدخول يجب أن يستند إلى أمر قضائى وأنه يستثنى من ذلك حالتى الخطر والاستغاثة ؛ إلا أن صياغة نص المادتين قد يفهم منها غير ذلك ، فنص المادتين السابقتين قد جرى على أنه "للمنازل حرمة، وفيما عدا حالات الخطر، أو الاستغاثة لا يجوز دخولها، ولا تفتيشها ، ولا مراقبتها أو التنصت عليها إلا بأمر قضائى مسبب....".
ومفهوم المخالفة لهذا النص يفهم منه جواز دخول المسكن أو تفتيشه أو مراقبته أو التنصت عليه في حالتى الخطر أو الاستغاثة. وهذه الصياغة تعطى بذلك مبرراً لتفتيش المساكن أو مراقبتها أو التنصت عليها إذا وجد خطر أو كانت هناك استغاثة من أحد القاطنين فيها. وقد كان الأجدر في تقديرنا أن يقتصر النص على إجازة الدخول فقط دون أن يجيز التفتيش أو المراقبة أو التنصت في حالتى الخطر والاستغاثة.

-إجازة المراقبة والتنصت داخل المساكن لأول مرة في الدساتير المصرية:
خلت الدساتير المصرية المتعاقبة من نصوص تجيز وضع آلات مراقبة وتصوير وأجهزة تنصت داخل المساكن ، وكان دستور سنة 2012 هو أول دستور ينص فيه على جواز المراقبة داخل المساكن بأمر قضائى مسبب. وقد اقتفى دستور 2014 أثر دستور 2012 ، ولكنه لم يكتف فقط بتعبير "المراقبة"؛ وإنما نص كذلك على تعبير "التنصت". ويعنى ذلك أن دستور 2014 يجيز وضع كاميرات مراقبة وأجهزة تنصت داخل المساكن ، وذلك بالمخالفة لخطة كافة الدساتير المصرية السابقة ، عدا دستور 2012 الذى كان يجيز المراقبة فقط ، وهى وجهة منتقدة كذلك.
وخطة دستور 2014 ، ودستور 2012 هى خطة محل نظر ، فلم يقدرا خطورة الإجراء من ناحية ، ولم يستفيدا بخطة الدساتير المقارنة من ناحية أخرى ، ولم يجعلا للأمر بهذا الإجراء ضمانات تكفل للأفراد صيانة حرمات مساكنهم وأسرارهم:
فمن ناحية فإن المراقبة البصرية والتجسس السمعى في المسكن هو إجراء بالغ الخطورة ويهدد فكرة الأمان الشخصى التى يقوم عليها القانون، فمسكن الشخص هو المكان الذى يأوى إليه ويستودع فيه أسراره ويخلو فيه لنفسه ، ومخدع نومه هو المكان الذى يظن فيه أنه بمنأى عن كل العيون والأسماع ، فإجازة وضع كاميرات مراقبة وأجهزة تنصت حتى ولو كان من أجل جمع الأدلة على جريمة وقعت بالفعل هو إجراء خطير لا يتناسب مع الفائدة المرجوة منه ؛ بل إنه في تقديرنا ينجم عنه ضرر يفوق بكثير النفع المتحصل عنه. ويبدو أن لجنتى وضع دستور 2014 ، 2012 لم تفطنا إلى أن هناك فرقاً شاسعاً بين تفتيش المساكن وبين مراقبتها والتنصت عليها: فالتفتيش يتم تنفيذه لضبط شيء له كيان مادى محدد ، ويتم ذلك مرة واحدة ، وبضبط هذا الشيء يستنفذ التفتيش غرضه ولا يجوز المضى فيه ، وإلا شكل ذلك تعسفاً في تنفيذ الأمر بالتفتيش من شأنه أن يلحق البطلان بما نتج عنه من أشياء تعد حيازتها جريمة ؛ أما المراقبة والتنصت داخل المسكن فهو يعنى أن حياة الشخص وأسراره قد أصبحت كتاباً مفتوحاً ، وباتت كل أحاديثه وأفعاله محلاً للمراقبة والتنصت ولمدة تمتد إلى وقت غير محدود.
ومن ناحية أخرى فإن هذا الانتقاص في الحريات في الدستور الجديد يرجع إلى عدم الاستفادة من خطة بعض الدساتير والتشريعات الجنائية المقارنة ، فالدستور الألمانى على سبيل المثال يحيط هذا الإجراء بضمانات بالغة الصرامة ويوجب صدوره من ثلاثة قضاة خلافاً للقواعد العامة ويحدد الحالات التى يجوز فيها اتخاذ ذلك الإجراء والسلطة التى يجوز لها اتخاذه ، وهى إجراءات تتسم بالشدة وتخرج عن القواعد العامة في الضبط والتفتيش( [16]). وقد تشدد الشارع والقضاء الأمريكى في استخدام الهاتف المحمول وغيرها من وسائل كوسيلة للتنصت على الأحاديث التى تقع على مقربة من هذا الهاتف ، وهى تقنية إلكترونية تسمح باختراق الهاتف وجعله أداة تنصت على ما يقع على مقربة منه من أحاديث ، حتى ولو كان مغلقاً.
ومن ناحية ثالثة ، فإن دستور 2014 ، 2012 قد وقعا في خلط بين تعبير: "أمر من قاض" ، وتعبير "أمر قضائى" ، وهذا الخلط يرجع في حقيقة الأمر إلى دستور 1971 الذى استخدم التعبيرين بمعنى مترادف على الرغم من أن بينهما اختلاف كبير. فالأمر الذى يصدر من قاض لا يتسع معناه للأمر الذى يصدر من النيابة العامة باعتبارها سلطة تحقيق ؛ أما الأمر القضائى ، فإنه الفقه والقضاء قد وسعا من معناه على نحو جعلاه يشمل أمر النيابة العامة أو القاضى المختص على حد سواء. وهذا الخلط في الدساتير المتعاقبة والذى امتد إلى الدستور الحالى ليس له محل في نصوص قانون الإجراءات الجنائية ، فهذه النصوص قد ميزت على نحو واضح ومحدد بين الحالات التى يجوز إصدار الأمر فيها من النيابة العامة، وبين غيرها من حالات يصدر فيها الأمر من قاض أو من محكمة بعينها. وقد أدى هذا الخلط إلى أنه قد صار من الجائز أن يصدر أمر التنصت أو المراقبة داخل المسكن من النيابة العامة، وهو ما يخالف خطة الشارع الجنائى ذاته ، الذى نزع بعض الإجراءات التى تتسم بالخطورة من سلطة النيابة العامة وعهد بها إلى قاض بالمعنى الدقيق للكلمة ، ومثال ذلك مد الحبس الاحتياطى والإذن بمراقبة الهواتف وضبط المراسلات والتحفظ على الأموال وكشف سرية الحسابات وغيرها. وكان من الأجدر بالدستور أن ينص صراحة على أن يكون هذا الإجراء الذى يتسم بالخطورة والجسامة بيد محكمة ، كما لو كانت محكمة الجنايات منعقدة في غرفة مشورة ، فالتحفظ على الأموال وكشف سرية الحسابات لا يقلان أهمية عن المراقبة البصرية والتنصت السمعى داخل المساكن.
ويؤخذ على خطة الدستور أيضاً أنه لم يحدد الجرائم الخطيرة التى تبرر التنصت والمراقبة داخل المسكن ، وكان يكفيه أن يحصر هذه الجرائم في طوائف محددة على نحو يمثل قيداً على السلطة التشريعية في ذلك. كما ينال من خطته كذلك أنه لا يوجد نص يحدد نطاقاً زمنياً محدداً لهذا الإجراء الخطير ، وإذا كانت نصوص قانون الإجراءات الجنائية قد خلت من تحديد هذا القيد الزمنى ، فإن النص عليه في الدستور يكون ألزم.
-حرمة الحياة الخاصة في الدستور: نصت المادة 57 في فقرتيها الأولى والثانية من دستور سنة 2014 على أن: "للحياة الخاصة حرمة، وهى مصونة لا تمس. وللمراسلات البريدية، والبرقية، والإلكترونية والمحادثات الهاتفية وغيرها من وسائل الاتصال حرمة وسريتها مكفولة، ولا تجوز مصادرتها، أو الاطلاع عليها ، أو رقابتها إلا بأمر قضائى مسبب، ولمدة محددة، وفى الأحوال التى يبينها القانون".
وقد نصت المادة 58 من الدستور الجديد على أن: للمنازل حرمة، .....لا يجوز دخولها، ولا تفتيشها، ولا مراقبتها، أو التنصت عليها إلا بأمر قضائى مسبب......".
وبموجب هذين النصين فإن القاعدة التى نص عليها الدستور هى حرمة الحياة الخاصة للناس. والجوانب المختلفة للحياة الخاصة تشمل الأحاديث الشفهية والمحادثات الهاتفية بأى وسيلة من الوسائل ، وتشمل المراسلات الكتابية مهما كانت صورة هذه الكتابة، وتشمل الأوراق الخاصة والصور الشخصية. ويمتد مفهوم الحياة الخاصة كذلك إلى حماية الشخص من المراقبة بالصورة ومن التنصت بالصوت. وإذا كان ما سبق هو المدلول المتفق عليه للحياة الخاصة ، فإن التساؤل يثور عما إذا كان الدستور الجديد قد أحاط هذه الجوانب بالحماية ؛ أم أن هذه الحماية تعد قاصرة وغير كافية؟. كما أن التساؤل يثور من وجهة أخرى عن مدى اتساق خطته مع خطة ما نص عليه الشارع في قانون الإجراءات الجنائية؟ ، وأخيراً فإن التساؤل يثور عن مدى سلامة خطته في النص على التنصت والمراقبة داخل المساكن؟.

-نقد خطة الدستور الجديد في حماية الحياة الخاصة: في تقديرنا أن نصوص الدستور في نصها على حماية حرمة الحياة الخاصة هى محل نظر ، ويوجه إليها العديد من سهام النقد:

1- قصور نص الدستور في حماية حرمة الحياة الخاصة: فمن ناحية فإن الدستور لم يهتم إلا بالمراسلات الكتابية والمحادثات الهاتفية، أياً كانت صورة هذه المراسلات أو المحادثات ؛ بينما فاته النص على حماية الأحاديث الشخصية أو صور الشخص. وهى خطة محل نظر ، وتنطوى على إغفال أهم جوانب الحياة الخاصة. ولا يعصم النص من النقد القول بأن الفقرة الأولى من المادة 57 تنص على حرمة الحياة الخاصة بصورة عامة؛ ذلك أن الفقرة الثانية تجيز المساس بهذه الحياة بموجب أمر قضائى مسبب في الصور التى نص الدستور عليها وهى محصورة في صورتين فحسب ، وهما: المراسلات والمحادثات الهاتفية. ومفهوم المخالفة لنص المادة 57 من الدستور أن التقاط الأحاديث الخاصة التى تجرى بين شخصين أو أكثر لا تستوجب أمراً قضائياً مسبباً. كما أن تصوير شخص بأى وسيلة من الوسائل لا تستوجب كذلك أمراً قضائياً. ولا يخفى أن خطة الدستور في ذلك تتسم بإهدار أهم جوانب الحياة الخاصة ، فما لم تكن المحادثة تجرى من خلال وسيلة من وسائل الاتصال ، فلا تكون مشمولة بالحماية. ويلاحظ أن الشارع في قانون الإجراءات الجنائية لا ينص هو الآخر على ضمانات للتنصت على الأحاديث الخاصة ، ولا يضع تنظيماً لالتقاط صور شخص أو مراقبته بالصورة، ولا شك في أن خطة الدستور لا تكفل حماية فعالة أو كافية في حرمة الحياة الخاصة.
2-نص الدستور يقل عن الضمانات التى نص عليها القانون:
كان من المأمول من دستور سنة 2014 ، ومن قبله دستور سنة 2012 أن يكفلا حماية واسعة لحرمة الحياة الخاصة؛ غير أن صياغتهما قد أفصحت عن غير ذلك. فبالإضافة إلى قصور النص فيهما عن الإحاطة بجوانب الحياة الخاصة محل الحماية بوجه عام ؛ فإن الملاحظ أن الشارع قد أوجب في قانون الإجراءات الجنائية أن يتم صدور الأمر بضبط المراسلات وتسجيل المحادثات الهاتفية من قاض –بحسب الأصل-؛ بينما اكتفى الدستور بأن يكون المساس بهما بموجب أمر قضائى مسبب. واللجنة التى وضعت الدستور قد قصدت بعبارة "الأمر القضائى" أنه هو الأمر الصادر من النيابة العامة أو من قاض. وهذه النظرة تختلف عن نظرة الشارع في قانون الإجراءات الجنائية ، كما أنها تختلف كذلك عن نظرة دستور 1971. فالشارع قد ميز بوضوح بين النيابة العامة وبين القاضى ، وهو لذلك انتزع إجراءات تتسم بالخطورة والأهمية من النيابة العامة وعهد بها إلى القضاء بمعناه الدقيق ، ومن أمثلة ذلك مراقبة المحادثات وضبط المراسلات وكشف سرية الحسابات والمنع من التصرف فى الأموال وغيرها من إجراءات. وكان من المأمول من الدستور أن يقصر المساس بحرمة الحياة الخاصة على الأمر الصادر من قاض ، مثلما نص قانون الإجراءات الجنائية. ومن المقرر أن التشدد في الضمانات يعكس جسامة وخطورة المساس بالحرية.
3- الدستور الجديد نص لأول مرة على التنصت والمراقبة داخل المساكن: على خلاف خطة كافة الدساتير المصرية السابقة ، وعلى خلاف خطة أغلب التشريعات المقارنة ، فإن المادة 58 من الدستور الجديد تجيز أن يكون مراقبة المنازل والتنصت عليها بموجب أمر قضائى مسبب. وقد سبق القول بأن أغلب التشريعات المقارنة لا تجيز بحسب الأصل أن يتم تفتيش المسكن بموجب أمر من النيابة العامة ؛ بل توجب أن يصدر من قاض. ومن ناحية ثانية فإن مراقبة ما يدور بالمسكن بالصورة والتنصت عليه بالصوت هو إجراء يتسم بأكبر قدر من الخطورة التى كانت تستوجب النص صراحة الحصول على إذن من محكمة أعلى من القاضى الجزئى. ويلاحظ أن الشارع قد أوجب لكشف سرية الحسابات المصرفية صدور أمر من محكمة استئناف القاهرة ، كما أوجب أن يصدر أمر المنع من التصرف من محكمة الموضوع في الجرائم التى يجوز فيها ذلك، وهى محكمة الجنايات ، وهو ما يعنى أن التنصت على المساكن ووضع كاميرات تصوير في مخادع النوم إجراء يقل أهمية عن كشف سرية الحسابات. وفى تقديرنا أن الدستور بهذا النص قد بالغ في ترجيح جانب السلطة على حساب الحرية، وأتت خطته مفتقدة للمنطق والانسجام مع نصوص القانون ذاته.

ثالثاً: القبض على المحامين أو احتجازهم في الدستور

نصت الفقرة الثانية من المادة 198 من دستور سنة 2014 على أن: "المحاماة مهنة حرة ...ويتمتع المحامون جميعاً أثناء تأديتهم حق الدفاع أمام المحاكم بالضمانات والحماية التى تقررت لهم في القانون مع سريانها عليهم أمام جهات التحقيق والاستدلال. ويحظر في غير حالات التلبس القبض على المحامى أو احتجازه أثناء مباشرته حق الدفاع، وذلك كله على النحو الذى يحدده القانون".
ويجب التفرقة بين التلبس بالجرائم المتعلقة بأداء المحامى للحق في الدفاع ؛ وبين التلبس بغيرها من جرائم ، ولا يثير الفرض الأول مشكلة، ذلك أن الحصانة من القبض ليست ميزة شخصية للمحامى ؛ بل أن علتها هى تمكينه من أداء رسالته وهو لا يخشى القبض عليه ؛ أما إذا انتفت علاقة الجريمة المرتكبة بتأدية المحامى للحق في الدفاع ، فإنه يتماثل في هذه الحالة مع الشخص العادى ، وبالتالى يجوز القبض عليه، غير أن الفرض الثانى هو الذى يثير بعض الدقة ، وفيما يلى نتناوله ببعض البيان.
-عدم جواز القبض على المحامى أو احتجازه أمام جهات التحقيق والاستدلال:
وفقاً للفقرة الأولى من المادة 198 من دستور سنة 2014 ، فإن القواعد سالفة الذكر التى نصت عليها المادتان 49 ، 50 من قانون المحاماة تسرى أيضاً على الجرائم التى تقع من المحامى أثناء تأديته حق الدفاع أمام جهات التحقيق والاستدلال. وقد كانت المادتان السابقتان من قانون المحاماة تقصران عدم جواز القبض على المحامى أو حبسه احتياطياً إذا ارتكب أى جريمة أثناء تأدية عمله أو بسببه، بشرط أن يتعلق بدعوى منظورة أمام القضاء. غير أن الدستور الجديد قد وسع من نطاق هذه الحصانة لتشمل ليس فقط جهة القضاء؛ بل أيضاً جهات التحقيق والاستدلال، ولا يستثنى من ذلك إلا أن تقع الجريمة في حالة التلبس، حتى ولو كانت هذه الجريمة قد وقعت أثناء مباشرته لحق الدفاع. وهو ما يعنى أن ما جاء به دستور 2014 من مد حصانة القبض والاحتجاز للمحامى في مرحلة ما قبل المحاكمة ليس له أهمية كبيرة ، فهذه الحصانة لا تسرى في حالة التلبس بالجريمة، ومن المقرر قانوناً أن تعبير التلبس يشمل التلبس الحقيقى والحكمى معاً، وهو ما يعنى أن تلبس المحامى بارتكاب جريمة من الجرائم المتعلقة بأدائه للحق في الدفاع لا يمنحه حصانة من القبض أو الاحتجاز.

- تقدير خطة الدستور: على الرغم من أن المادة 198 من الدستور قد حاولت أن توسع من حصانة عدم القبض أو الاحتجاز التى نص عليها قانون المحاماة للمحامى أثناء تأدية عمله في الدفاع ؛ إلا أن صياغة النص ربما أدت إلى عكس ما أراد واضعوه ، وتوجه إليه سهام النقد من عدة أوجه: فمن ناحية فإنه يعيب نص الفقرة الأولى من المادة 198 من الدستور عدم إحكام الصياغة: فالنص قد جاء على النحو التالى:
يتمتع المحامون جميعاً أثناء تأديتهم حق الدفاع أمام المحاكم بالضمانات والحماية التى تقررت لهم في القانون مع سريانها عليهم أمام جهات التحقيق والاستدلال.
وهذه الصياغة في تقديرنا تتسم بعدم الدقة ، فالنص قد قرر على كفالة حق الدفاع أمام المحاكم، ثم عاد لينص على سريان ضمانات ممارسة المهنة أمام جهات التحقيق والاستدلال، وكان يكفيه النص على كفالة هذا الحق أمام كافة الجهات، وليس فقط القضاء أو جهات التحقيق أو الاستدلال. ومن المقرر أن التكرار يفقد النص دقته وإحكام صياغته ، فضلاً عن أنه لم يستوعب كفالة الحق أمام مختلف الجهات، مثل الخبرة والطب الشرعى والجهات الحكومية وغيرها. وكان من الواجب التركيز على كفالة الحق ذاته ، وليس تعداد الجهات التى يباشر أمامها.
ومن جهة أخرى ، فإن الصياغة المنطقية تقضى أن يتقرر الحق في الدستور، ثم يلتزم به القانون، فالدستور هو الذى ينشئ الحق ويرسم نطاقه ويحيطه بضمانات يلتزم بها الشارع ؛ غير أن ما نصت عليه المادة 198 من الدستور يخالف هذه النظرة: فالدستور يستلهم الحماية والضمانات من القانون، وليس العكس، فتقول المادة 198 سالفة الذكر "ويتمتع المحامون ...بالضمانات والحماية التى تقررت لهم في القانون مع سريانها عليهم أمام جهات التحقيق والاستدلال". والخطة التى اتبعها الدستور عسيرة على التبرير ، فكيف يستلهم الدستور تطبيق ضمانات نص عليها القانون ، فكأن واضع النص قد أراد تحصين الضمانات التى نص عليها القانون ، ولم يشأ إعادة النص عليها بوضوح في نص المادة. ومن ناحية ثالثة ، فإنه سيترتب على هذا العيب في الصياغة أن المادة 198 قد أحالت في شأن الضمانات والحماية إلى القانون ، وهذا الأخير يتسم بالتغير ، وبأنه يخضع لتقدير السلطة التشريعية ، فإن السؤال يثور عن الحل إذا قررت السلطة التشريعية تعديل هذه الضمانات أو الحد منها ، فهل يعنى نص المادة 198 من الدستور سالف الذكر أن المادتين 49 ، 50 من قانون المحاماة قد أصبحتا من النصوص المحصنة بالدستور ، وهى نتيجة يصعب قبولها ، أم أن مجلس النواب يستطيع أن يعد فيهما ، على نحو يكون ما نص عليه الدستور لا طائل منه؟.
ومن جهة رابعة، فإنه على الرغم من رغبة واضع نص المادة 198 في إسباغ كفالة أكبر للمحامى في أدائه للحق في الدفاع ، فإن صياغة هذه المادة جاءت أقل نطاقاً من نص القانون ذاته، على نحو أفقدت المحامى جانباً مهماً من هذه الضمانات. وتفسير ذلك أن المادة 50 من قانون المحاماة التى استبدلت بالقانون 197 لسنة 2008 لم تجز القبض على المحامى أو حبسه احتياطياً عن الجرائم التى ارتكبت منه أثناء أو بسبب ممارسته أي من أعمال المهنة. وتعبير "بسبب ممارسة المهنة" ، يوسع من حصانة المحامى ؛ أما التعبير الذى استخدمته المادة 198 من الدستور فهو أن هذه الضمانات تتوافر "أثناء تأديتهم حق الدفاع أمام المحاكم". ومقارنة نص قانون المحاماة مع نص الدستور الجديد يكشف عن أن الأول يتسم بالتوسع في نطاق الحماية، بخلاف الثانى الذى أدت الصياغة المتعجلة للمادة إلى التضييق من هذا النطاق. فالقانون يستخدم تعبير "أثناء أو بسبب" ؛ أما الدستور فيستخدم تعبير "أثناء" فقط ، وهو ما يعنى أن نطاق الحماية التى تصور واضع الدستور أنه يوسع منها قد ضاقت على نحو قد صارت مقصورة فقط على الجرائم التى تقع أثناء ممارسة حق الدفاع أمام المحاكم ، دون أن تمتد إلى الجرائم التى تقع بسبب ممارس هذا الحق. ولا يجوز القول بأن تعبير ممارسة حق الدفاع أمام المحاكم يشمل تعبيرى أثناء أو بسبب ممارسة هذا الحق ، ذلك أن تعبير أثناء يفيد النطاق الزمنى والمكانى المحدد ، أما تعبير بسبب فهو يتسم بالاتساع على نحو يشكل الأفعال التى ارتكبت خارج قاعات المحاكم وغرف التحقيق ، متى كانت متصلة بصلة سببية بالحق في الدفاع. ومن جهة أخرى فإنه يبدو بين فقرتى المادة 198 ذاتها من الدستور شبهة تعارض: فالفقرة الأولى التى لا تجيز القبض على المحامى أو احتجازه أثناء تأديته الحق في الدفاع وتحيل إلى القانون الذى لا يجيز بدوره ذلك في جميع الحالات ؛ فإن الفقرة الثانية من المادة 198 من الدستور تستثنى حالة التلبس من عدم جواز القبض على المحامى أو احتجازه أثناء مباشرته حق الدفاع. وتفسير ذلك أن حصانة المحامى التى نصت عليها الفقرة الأولى من المادة 198 من الدستور قد أذهبتها الفقرة الثانية منه ، فأغلب الأفعال التى يرتكبها المحامى أثناء مباشرته للحق في الدفاع تقع في حالة التلبس، فإهانة محكمة أو قذف خصم أو حتى تقديم مستند تتوافر فيه شبهة التزوير، هى جرائم جميعاً ترتكب أمام المحكمة أو جهات التحقيق المختلفة، ومن ثم فهى تقع في حالة التلبس ، وبالتالى فإنه يجوز القبض على المحامى واحتجازه وفقاً لنص الفقرة الثانية من المادة 198 من الدستور سالفة الذكر. وهو ما يثير التساؤل عن علة صياغة المادة سالفة الذكر بهذه الصورة. ومن جهة أخرى فإن إجازة القبض على المحامى واحتجازه أثناء مباشرته للحق في الدفاع يخالف الضمانات التى نصت عليها المادة 49 ، 50 من قانون المحاماة ، وهو ما يعنى أن الدستور ، وإن حاول وضعوه أن يحصنوا المحامى أثناء مباشرته لمهنته ، فإن الصياغة الركيكة للمادة 198 سالفة الذكر قد أتت بعكس المقصود من ذلك. بل إن ما نص عليه دستور 2012 بشأن المحاماة يفضل ما جاء به دستور 2014 ، فالأول لم ينص في المادة 181 منه على جواز القبض على المحامى في حالة التلبس ، مما يعنى أن الأصل في عدم جواز القبض عليه في الجرائم المنصوص عليها في قانون المحاماة يبقى قائماً ، ولو في حالة التلبس ؛ بخلاف ما جاء به دستور 2014 ، وهو ما يعنى أن الدستور الجديد قد انتقص ما كان ينص عليه الدستور السابق( [17]).
وأخيراً فإن نص المادة 198 من الدستور قد نظر إلى ممارسة مهنة المحاماة نظرة تحتاج إلى التدقيق ، فالدستور استخدم عبارة "ويتمتع المحامون جميعاً أثناء تأديتهم حق الدفاع أمام المحاكم بالضمانات والحماية التى تقررت لهم في القانون...."، واستخدام تعبير الضمانات والحماية معاً ينطوى على مبالغة ، بل أن هذين التعبيرين لم يستخدمهما الدستور مع الهيئات القضائية المختلفة. وقد كان من المأمول بدلاً من النص المعيب للمادة 198 من الدستور سالفة الذكر أن يرتفع الدستور ببعض هذه الضمانات وينص عليها في صياغة محكمة في صلب الدستور؛ غير أنه لم يفعل.


الفصل الثالث

رفع الدعوى الجنائية وانقضاؤها في الدستور

أولاً: رفع الدعوى الجنائية
- الادعاء المباشر في الدستور: نصت المادة 70 من دستور سنة 1971 على أنه: "لا تقام الدعوى الجنائية إلا بأمر من جهة قضائية، فيما عدا الأحوال التى يحددها القانون". ويقرر هذا النص القاعدة الأصولية والتى تجعل إقامة الدعوى الجنائية من جهة قضائية كقاضى التحقيق وقضاء الإحالة قبل إلغائه والنيابة العامة؛ غير أن دستور سنة 1971 استثنى من هذه القاعدة الحالات التى يحدد القانون ، ومن بين هذه الحالات الادعاء المباشر. وعندما صدر دستور سنة 2012 ألغى نص المادة 70 سالف الذكر ، ونصت المادة 173 على أن " تتولى (النيابة العامة) التحقيق ورفع ومباشرة الدعوى الجنائية عدا ما يستثنيه القانون، ...". وقد أبقى دستور سنة 2014 النص السابق مع تعديل طفيف ، إذ نصت المادة 189 من الدستور الحالى على أن "وتتولى (النيابة العامة) التحقيق وتحريك ومباشرة الدعوى الجنائية عدا ما يستثنيه القانون".
غير أن دستور سنة 2014 قد أشار صراحة إلى الادعاء المباشر فى موضعين: الأول هو أن كل اعتداء على الحرية الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة للمواطنين وغيرها من الحقوق والحريات العامة التى يكفلها الدستور والقانون، جريمة لا تسقط الدعوى الجنائية والمدنية الناشئة عنها بالتقادم، وللمضرور إقامة الدعوى الجنائية بالطريق المباشر(المادة 99 فى فقرتها الأولى). والموضع الثانى نصت عليه الفقرة الثانية من المادة 100 بقولها "ويكون الامتناع عن تنفيذها (الأحكام) أو تعطيل تنفيذها من جانب الموظفين العموميين المختصين، جريمة يعاقب عليها القانون، وللمحكوم عليه فى هذه الحالة حق رفع الدعوى الجنائية مباشرة إلى المحكمة المختصة. وعلى النيابة العامة بناء على طلب المحكوم له، تحريك الدعوى الجنائية ضد الموظف الممتنع عن تنفيذ الحكم أو المتسبب فى تعطيله". والمادتان السابقتان تتفقان مع المادتين 79 ، 80 من دستور سنة 2012.
-تقدير خطة الدستور: فى تقديرنا أن خطة الدستور الجديد، ومن قبله دستور 2012 –فيما يتعلق بالادعاء المباشر- هى خطة محل نظر وتوجه إليها سهام النقد من عدة أوجه: فمن ناحية فإن إجازة نص المادة 99 الادعاء المباشر فى جرائم الاعتداء على الحرية الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة وغيرها من الحقوق والحريات العامة التى يكفلها الدستور والقانون ، هو نص يتسم بالعمومية البالغة ويتعذر تحديد نطاقه؛ بل إن أغلب النصوص الجنائية سواء الواردة فى قانون العقوبات أو فى غيره من القوانين تتصل بشكل أو بآخر بالحرية الشخصية أو بإحدى الحريات العامة أو حرمة الحياة الخاصة. فعلى سبيل المثال فإن كافة الجرائم التى تقع مع الموظفين العموميين أو رجال الضبط وتنطوى على مساس بهذه الحريات يمكن رفع الدعوى المباشرة عنها، وهو ما سيترتب عليه اتساع نطاق الادعاء المباشر اتساعاً كبيراً على نحو قد يعرض الموظفين العموميين لخطر الدعاوى الكيدية التى تستهدف تهديدهم وإجبارهم على عمل معين أو الامتناع عنه. مما يجعل هؤلاء الموظفين يحجمون عن القيام بأعمالهم، ولا سيما تلك التى يباشرون فيها سلطة تقديرية، مخافة تعرضهم للمثول أمام القضاء الجنائى بمجرد رفع صحيفة الدعوى المباشرة، وهو ما سينعكس سلباً على حسن أداء الوظيفة العامة. وسوف يترتب على نص الدستور تزايد عدد الدعاوى المباشرة أمام القضاء زيادة كبيرة ، فهذه الدعاوى لا تخضع لرقابة قضائية فى رفعها ، وإنما يعود رفعها إلى مشيئة المدعى بالحق المدنى.
وفى تقديرنا أن لجنتى إعداد دستور 2012 ، 2014 لم تستفيدا مما قضت به المحكمة الدستورية العليا المصرية ، ولا مما يسود الكثير من التشريعات الجنائية المقارنة: فالمحكمة كانت قد قضت بأن نص المادة 232 من قانون الإجراءات الجنائية والذى يحظر الادعاء المباشر ضد الموظفين العموميين أو أحد رجال الضبط لجريمة وقعت بسبب أو أثناء تأدية وظيفته يتفق مع الدستور، وقد أوردت المحكمة فى حكمها الاعتبارات التى تجعل هذا الحظر ملائماً ومنسجماً مع القواعد الدستورية، ولو أن لجنة إعداد الدستور قد اطلعت على هذه المبررات لما كان نص المادة 99 قد أتى بهذا الاتساع.
ومن جهة أخرى ، فإن خطة التشريعات الجنائية المقارنة تتجه إلى التضييق من نطاق الادعاء المباشر قدر الإمكان، وذلك بالنظر إلى ما يحيط هذا الطريق من طرق تحريك الدعوى الجنائية من عيوب، ولو كانت لجنة إعداد الدستور قد اطلعت على خطة التشريعات الحديثة لكانت قد اختارت نظاماً تشريعياً جديداً يحقق التوازن بين حق المضرور فى تحريك دعواه وبين حماية المتهم من الاتهام الكيدى والمتسرع.
ومن ناحية ثالثة فإن نص المادة 99 سالفة الذكر يعيبه كذلك أن الكثير من صور الاعتداء على الحقوق التى ذكرها هى من الجنايات، والتى تستوجب إجراء تحقيق ابتدائياً قبل إحالتها إلى القضاء. وقد ظنت لجنة إعداد الدستور أن هذه الجرائم هى من الجنح التى يجوز تحريك الادعاء المباشر فيها؛ غير أن هناك العديد من الجرائم التى تنال من الحرية الشخصية ومن الحقوق والحريات العامة تعتبر من الجنايات. ومن لم يكن من الملائم إطلاق النص على النحو السابق ، فالنصوص ينبغى أن تصاغ بحذر ومرونة.
ويؤخذ على خطة الدستور كذلك أنه قد تطلب فيمن له الحق فى الادعاء المباشر أن تكون له صفة المدعى بالحق المدنى ، وهذه النظرة فى تقديرنا قاصرة ، ولا تتفق مع خطة الكثير من التشريعات: فهذه التشريعات تجعل للمجنى عليه كذلك دوراً فى الرقابة على أعمال التحقيق الابتدائى ، ومن ثم فإن قصر الحق فى رفع الادعاء المباشر على المدعى بالحق المدنى يعوزه النظرة إلى الدعوى الجنائية باعتبار أنها مملوكة فى المقام الأول للمجتمع، وما إجازة هذا الادعاء المباشر إلا بقصد كفالة العدالة ومواجهة تقصير سلطات الاتهام فى تحريك الدعوى الجنائية وتحقيق العدالة. وهذه الاعتبارات قد جعلت الكثير من التشريعات المقارنة تتجه صوب المجنى عليه ، وليس المدعى بالحق المدنى ، ومثال ذلك قانون الإجراءات الجنائية الألمانى الذى يجيز للمجنى عليه أن يتجه إلى القضاء بهدف إجبار النيابة العامة على رفع الدعوى الجنائية.
ويؤخذ على خطة الدستور أيضاً ما نصت عليه المادة 100 التى تجعل الامتناع عن تنفيذ الأحكام القضائية أو تعطيل تنفيذها جريمة إذ نصت على أن "وللمحكوم له فى هذه الحالة حق رفع الدعوى الجنائية مباشرة إلى المحكمة المختصة".  وقد فات لجنة إعداد الدستور أن الدعوى التى يرفعها المضرور أمام القضاء الجنائى ليست الدعوى الجنائية ؛ بل هى الدعوى المدنية ، وينتج عن رفع  هذه الدعوى المدنية تحريك الدعوى الجنائية بقوة القانون. وما نص عليه الدستور ينقصه الإلمام بطبيعة الدعوى المباشرة التى لا تجعل للمضرور سيادة على الدعوى الجنائية. ويلاحظ من وجهة أخرى أن المادة 100 من الدستور نصت على أن للمحكوم له حق رفع الدعوى الجنائية مباشرة ، ولم تستخدم تعبير المضرور الذى استخدمته المادة 99 سالفة الذكر. وسيترتب على هذه الصياغة التى تعتبر فى تقديرنا محل نظر أن يصبح للمحكوم له حق رفع الدعوى الجنائية مباشرة أمام القضاء الجنائى، وبصرف النظر عن كونه مدعياً بالحق المدنى ، أو أنه رفع دعواه المدنية أمام المحكمة الجنائية. وهذه النتيجة ربما لا تلتقى مع قصد لجنة إعداد الدستور ؛ غير أن صياغة النصوص تؤدى إليها.
- الجرائم المتعلقة بالأعمال الفنية والأدبية والفكرية: نصت المادة 67 من الدستور في فقرتها الثانية على أنه: "ولا يجوز رفع أو تحريك الدعاوى لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية أو ضد مؤلفيها إلا عن طريق النيابة العامة، ولا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التى ترتكب بسبب علانية المنتج الفنى أو الأدبى أو الفكرى، أما الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو التمييز بين الموطنين أو الطعن في أعراض الأفراد فيحدد القانون عقوباتها". وبموجب هذا النص أصبح الاختصاص بتحريك أو رفع هذه الدعاوى قد أصبح محتجزاً للنيابة العامة وحدها ولا يشاركها فيه أحد، ومن ثم فلا يجوز الادعاء المباشر في هذه الجرائم. غير أنه على الرغم من حظر الادعاء المباشر في هذه الجرائم ؛ إلا أن الادعاء مدنياً في حال قيام النيابة بتحريك أو رفع الدعوى الجنائية جائز، وذلك وفقاً لنص الفقرة الأخيرة من المادة 67 سالفة الذكر التى تجيز للمحكمة إلزام المحكوم عليه بتعويض جزائى للمضرور من الجريمة، إضافة إلى التعويضات الأصلية المستحقة له عما لحقه من أضرار منها.
وفى تقديرنا أن نص المادة 67 من الدستور سالف الذكر محل نظر ، ذلك أن قصد واضع النص هو تقييد حق المدعى بالحق المدنى لتفادى الكيد والتشهير وتجنب رفع الدعاوى التى تفتقر إلى الدليل. غير أن النص بهذه الصياغة لم يسلب المدعى المدنى الحق في رفع دعواه ؛ بل وقد قد سلب القضاء كذلك سلطة تحريكها، فقاضى التحقيق ومحكمة الجنايات في حالة التصدى لا يملكان تحريك الدعوى الجنائية في هذه الحالة. ويؤخذ على نص الدستور كذلك أنه لم يميز في استثناء رفع أو تحريك الدعوى بين الجرائم التى تنال من الأعراض أو التمييز بين الناس أو التحريض على العنف وبين غيرها من الجرائم: فنص الدستور قد قصر تحريك أو رفع الدعاوى على النيابة العامة في جميع الأحوال. غاية الأمر أنه ميز بين جرائم العنف والتمييز والطعن في الأعراض في ذات الفقرة عندما لم يجز لمحكمة الموضوع أن توقع عقوبة سالبة للحرية إلا في الجرائم الثلاثة السابقة دون غيرها من جرائم ترتكب بسبب علانية المنتج الفنى أو الأدبى أو الفكرى. ويؤخذ كذلك على نص الفقرة الأخيرة من المادة 67 من الدستور قولها أن المحكمة تحكم بتعويض جزائى للمضرور من الجريمة بالإضافة إلى التعويضات الأصلية المستحقة له عما لحقه من أضرار منها. وهذه العبارات التى استخدمها الدستور تثير التساؤل عن معناها: فسياق الفقرة السابقة يدل على أن واضعى النص يميزون بين التعويض الجزائى عن الأضرار الناجمة عن الجريمة ، وبين التعويضات الأصلية المستحقة له عما لحق المضرور من الجريمة من أضرار ، وهذان التعويضان في تقديرنا هما شيء واحد ، فكلاهما في حقيقته تعويض مدنى عن ضرر ناجم من الجريمة ، أياً كان صورة هذا الضرر أو قدره. كما أن تعبير "التعويض الجزائى" ليس له مدلول مستقل عن التعويض المدنى أو عن تعبير "التعويضات الأصلية" الذى استخدمه الدستور. وفى تقديرنا أنه لم يكن من الملائم أن يستفيض نص الدستور في هذا الموضع ؛ بل كان يكفيه فحسب أن يقرر حق المضرور في الادعاء مدنياً أمام المحكمة الجنائية لاقتضاء التعويض عن الضرر الذى لحقه. 


ثانياً: قضاء الإحالة في الدستور
- تطور قضاء الإحالة فى النظام الإجرائى المصرى: عند صدور قانون الإجراءات الجنائية الحالى أعيد العمل بنظام قاضى التحقيق، وأنشأ الشارع غرفة الاتهام لتكون قضاء الإحالة فى الجنايات وكانت تتشكل فى كل محكمة ابتدائية من ثلاثة من قضاتها. وفى حالة ما إذا كان التحقيق قد باشره أحد مستشارى محكمة الاستئناف ، تشكل غرفة الاتهام من ثلاثة من مستشارى تلك المحكمة( [18]). وبموجب القانون رقم 353 لسنة 1952 خولت النيابة العامة التحقيق الابتدائى ، غير أن الشارع استبقى غرفة الاتهام ، ثم أجرى تعديلاً بالقانون رقم 107 لسنة 1962 ألغى بموجبه غرفة الاتهام وأحل محلها من حيث الاختصاص بالإحالة فى الجنايات "مستشار الإحالة". وقد كان قضاء الإحالة يختص بمراجعة التحقيق الابتدائى فى الجنايات، وتقرير الإحالة إلى محكمة الجنايات أو الأمر بألا وجه لذلك. ويعنى ذلك أن التحقيق فى الجناية كان يجرى على درجتين ، وأن ثمة مرحلة كانت تتوسط بين التصرف فى التحقيق والإحالة إلى قضاء الحكم. وقد كان الشارع يوجب أن يتم سماع أقوال الخصوم أمام مستشار الإحالة ، بعد أن كان جوازياً لغرفة الاتهام ، وأن تسبب أوامره ، ولو كانت صادرة بالإحالة( [19]). 
وقد بدأ إلغاء قضاء الإحالة تدريجياً ، فقد أصدر انتزع الشارع طائفة مهمة من الجرائم من اختصاص مستشار الإحالة وعهد إلى النيابة بإحالتها مباشرة إلى القضاء وذلك بموجب القانون رقم 5 لسنة 1973( [20])، وقانون محاكم أمن الدولة لسنة 1980، وفى النهاية ألغى الشارع قضاء الإحالة كلية بالقانون رقم 170 لسنة 1981، وجعل الإحالة إلى محكمة الجنايات من اختصاص المحقق نفسه، سواء أكانت النيابة العامة أم قاضى التحقيق( [21]). وبصدور دستور 2012 ، 2014 ، فإن نصوصهما قد خلت من نص يشابه نص المادة 70 من دستور 1971 التى كانت توجب أن تكون إقامة الدعوى الجنائية بأمر من جهة قضائية. وإذا كان الدستور الجديد قد نص في الفقرة الأولى من المادة 96 على أن: "المتهم برئ حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة، تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه". فإن هذا النص يناقضه ما نص عليه الدستور ذاته في المادة 189 من أن تتولى النيابة العامة التحقيق والاتهام وتحريك الدعوى الجنائية ومباشرتها أمام القضاء، بالإضافة إلى اختصاصاتها الأخرى. فتركيز السلطات في يد النيابة على هذا النحو الذى أخذ به الدستور يناقض خطة كافة الدساتير والأنظمة الإجرائية المقارنة ، ويجعل الواقع التشريعى للقانون المصرى لا نظير له في النظم الديمقراطية. وما نص الدستور عليه من افتراض البراءة في المتهم ، وأن تجرى محاكمته محاكمة قانونية عادلة ، ما يقتضى أن تكون هناك رقابة قضائية على مرحلة الإحالة ، فلا قيمة لهذه القرينة، ولا لتلك المحاكمة إن اتهم شخص بدون حق وأحيل إلى المحاكمة وكانت الأدلة التى تتوافر قبله لا ترقى لإحالته. ولا قيمة للمحاكمة العادلة إن اجتمعت سلطات القبض والتحقيق والحبس الاحتياطى والاتهام والإحالة والطعن والتنفيذ كلها في يد واحدة. وهو ما يجعل نصوص الدستور من الناحية الواقعية لا قيمة لها.


ثالثاً: انقضاء الدعوى الجنائية بالتقادم

-خطة الدستور: حرص دستور سنة 2014 على النص صراحة على استثناء عدد من الجرائم من نطاق التقادم ، فلا تسقط الدعوى الجنائية الناشئة عنها بمضى المدة. وقد توسع الدستور في نطاق هذه الجرائم ، فلم يقصرها فحسب على الجرائم الماسة بالحرية الشخصية التى كانت الدساتير السابقة تنص عليها ؛ وإنما نص على استثناء طوائف جديدة من الجرائم من الخضوع لأحكام التقادم كما سنرى.
- جرائم التعذيب: نصت المادة 52 من الدستور 2014 على أن: "التعذيب بجميع صوره وأشكاله، جريمة لا تسقط بالتقادم". ويثير هذا التساؤل عن مدى جواز تطبيقه على الجرائم الأخرى التى وردت في باب الإكراه وسوء معاملة الموظفين: وتفصيل ذلك أن الشارع نص في المادة 126 من قانون العقوبات على معاقبة كل موظف أو مستخدم عمومي أمر بتعذيب متهم أو فعل ذلك بنفسه لحمله على الاعتراف .... وإذا مات المجني عليه يحكم بالعقوبة المقررة للقتل عمداً. غير أن الشارع نص فى مواد أخرى لاحقة على جرائم أخرى لا تدخل في مدلول التعذيب بالمعنى الدقيق ؛ إلا أنها تلتقى في علة التشريع معه: ومن أمثلة هذه الجرائم ما نصت عليه المادة 127 ع من تجريم  فعل كل موظف عام وكل شخص مكلف بخدمة عامة أمر بعقاب المحكوم عليه أو عاقبه بنفسه بأشد من العقوبة المحكوم بها عليه قانوناً أو بعقوبة لم يحكم بها عليه، وما نصت عليه المادة 129 ع من تجريم فعل كل موظف أو مستخدم عمومي وكل شخص مكلف بخدمة عمومية استعمل القسوة مع الناس اعتماداً على وظيفته بحيث إنه أخل بشرفهم أو أحدث آلاماً بأبدانهم. فهذه الجرائم لا تندرج ضمن جريمة التعذيب بالمعنى الدقيق الواردة بالمادة 126 ع سالفة الذكر ، وهو ما يثير التساؤل عن مدى تطبيق نص المادة 52 من الدستور على هذه الجرائم؟. فى حقيقة الأمر أن صياغة المادة 52 سالفة الذكر تتسم بالغموض وعدم التحديد، ولذلك فإن تفسيرها يمكن أن يسرى على وجهى النظر: فالقول بأن "التعذيب بجميع صوره وأشكاله جريمة لا تسقط بالتقادم" يمكن أن يبرر القول بأن هذا النص يمكن تطبيقه على الجرائم الأخرى التى تتماثل مع جريمة التعذيب ، باعتبار أنها صورة من صور التعذيب ، من ذلك جريمة استعمال القسوة على سبيل المثال التى تتشابه مع جريمة التعذيب ، فيما عدا أنها لا تتطلب قصداً جنائياً خاصاً كالذى تطلبه الشارع في جريمة التعذيب وهو قصد حمل المجنى عليه على الاعتراف. غير أن صياغة نص المادة 52 يمكن أن يصرف تفسيره على عكس الوجهة الأولى، ذلك أن الشارع قد أفرد "التعذيب" بمدلول خاص لا يطبق على غيره من أفعال. وأن التنسيق بين نص الدستور ونصوص قانون العقوبات يوجب القول بأن الشارع الدستورى لم يرد مد استثناء أحكام التقادم إلى غير جريمة التعذيب بمعناها الدقيق ؛ وإلا لما أعوزه النص على ذلك.
وفى تقديرنا أن صياغة نص المادة 52 من الدستور في الحالتين هى معيبة ، فإذا كان الشارع قد قصر تطبيق النص على جريمة التعذيب بمعناها الدقيق ، فإنه قد فاته أن هناك بعض الجرائم الأخرى التى لا تعتبر تعذيباً بالمعنى الدقيق ؛ غير أنها تتماثل معه في علة التجريم ، ومن ثم يكون نص الدستور غير معبر عن علة استثناء جرائم التعذيب من أحكام التقادم. ومن ناحية أخرى ، فإنه إذا جرى تفسير النص السابق تفسيراً واسعاً ، بحيث أنها تشمل في حكمها الجرائم الأخرى التى تتماثل مع التعذيب ، فإن صياغة المادة هى أيضاً محل نظر ، فلا يجب أن تتسم النصوص الجنائية بالغموض وعدم الوضوح ، ذلك أن من شأن ذلك أن يفتح المجال للتأويل وتعدد التفسيرات، كما أنه كان يجب على نص المادة 52 سالفة الذكر أن تحيل إلى القانون في شأن بيان هذه الجرائم.
- الجرائم الماسة بالحريات وحرمة الحياة الخاصة:   تنص الفقرة الأولى من المادة 99 من الدستور على أن:" كل اعتداء على الحرية الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة للمواطنين وغيرها من الحقوق والحريات العامة التى يكفلها الدستور والقانون جريمة لا تسقط الدعوى الجنائية ولا المدنية الناشئة عنها بالتقادم ، وللمضرور إقامة الدعوى الجنائية بالطريق المباشر".
وهذا النص معيب من وجهين: الأول أن الحقوق والحريات التى ذكرها تكاد تستغرق أغلب الجرائم المنصوص عليها فى القوانين العقابية. وهذه الصياغة المتسعة تفتقر إلى التحديد، وتتعذر على الضبط، ولا تتفق مع أصول الصياغة فى المسائل الجنائية. ومن جهة أخرى، فالدستور لم يميز بين وقوع هذه الجرائم من ممثلى السلطة العامة أم من غيرهم ، وكان من الواجب أن يقتصر النص على الأولين ، باعتبار أن علته تقتضى ذلك.
-جرائم التدخل في شئون العدالة أو القضايا: نصت المادة 184 من الدستور على أن السلطة القضائية مستقلة، تتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، وتصدر أحكامها وفقاً للقانون، ويبين القانون صلاحياتها، والتدخل في شئون العدالة أو القضايا، جريمة لا تسقط بالتقادم". ويؤخذ على النص السابق أن تعبير "التدخل في شئون العدالة أو القضايا" هو تعبير يعتريه الغموض ويفتقر إلى التحديد كذلك، كما أن هذا النص يثير التساؤل عن علة تقرير هذا الاستثناء. فهذه الجرائم –مع التسليم بأهميتها- إلا أنها لا تستقل عن غيرها بأهمية خاصة، فهى شأنها شأن غيرها من الجرائم تنال من مصلحة يحميها القانون. وهناك الكثير من الجرائم التى لم يستثنيها الدستور أو القانون من أحكام التقادم ، وهى مع ذلك تبدو أكثر أهمية وخطورة من جرائم التدخل في شئون العدالة أو القضايا. والشارع الدستورى قد فاته أنه لا يوجد في قانون العقوبات المصرى أو غيره من تشريعات ما يطلق عليه باب التدخل في شئون العدالة أو القضايا. وهو ما سيفتح الباب واسعاً أمام تعدد التأويلات والتفسيرات، ولا سيما وأن الكثير من الجرائم يحمى بها الشارع العدالة في بعض جوانبها ، ولكنها ليست هى الغرض من التجريم، ومن أمثلة ذلك المساعدة على فرار المقبوض عليه أو إيواء الهارب من العدالة أو تشويه الأدلة. ففى حقيقة الأمر ليست هذه الجرائم من جرائم التدخل في العدالة بالمعنى الدقيق ، ولكنها بالقطع تمس في جانب منها حسن سير العدالة. ويؤخذ على نص المادة 184 سالفة الذكر كذلك أن تعبير التدخل في شئون العدالة يغنى عن تعبير "أو القضايا" ، فالعدالة تعبير أوسع نطاقاً من القضايا ، ومن ثم لم تكن صياغة النص موفقة في هذا التكرار الذى لا محل له. وعلى الرغم من أن تعبير "التدخل" يتسم بالغموض ؛ إلا أن أبرز مثال له هو ما نصت عليه المادة  121 ع من قانون العقوبات من أن كل موظف توسط لدى قاض أو محكمة لصالح أحد الخصوم أو إضراراً به سواء بطريق الأمر أو الطلب أو الرجاء أو التوصية يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر أو بغرامة لا تتجاوز خمسمائة جنيه. ويلاحظ على خطة الشارع الدستورى أنه ترك جرائم تتسم بالخطورة وتمس العدالة للقواعد العامة فى التقادم مثل الاعتداء على محكمة أثناء انعقادها أو على قاض بسبب تأدية وظيفته أو غيرها ؛ بينما  نص على تطبيق الاستثناء من أحكام التقادم على مجرد التدخل فى شئون العدالة. وبعبارة أخرى فإنه إذا انصب الاعتداء على العدالة ذاتها، فلا محل لتطبيق الاستثناء من أحكام التقادم ؛ بينما إن اقتصر على مجرد التدخل فى شئونها، كان ذلك موجباً لتطبيقه. ولا يخفى ما فى هذه السياسة التشريعية من تحكم وعدم اتساق فى الحكم.
-جرائم التهجير القسرى التعسفى: نصت المادة 63 على أنه: "يحظر التهجير القسرى التعسفى للمواطنين بجميع صوره وأشكاله، ومخالفة ذلك جريمة لا تسقط بالتقادم". وهذا النص قد ورد ذكره لأول مرة فى الدستور الحال ، وليس له نظير فى الدساتير المصرية المتعاقبة. ولا توجد جريمة حتى الآن فى القانون المصرى تسمى جريمة "التهجير القسرى التعسفى" ، ودعوة الدستور الشارع لتجريم هذا الفعل يثير الكثير من التساؤلات؟ ، ذلك أن لجوء بعض التشريعات المقارنة لتجريم هذه الأفعال يرجع إلى وجود اضطهاد أو تمييز فى مجتمع يسوده الطائفية والانقسام ، والمجتمع المصرى يخلو إلا فيما ندر من هذه الظاهرة، وفضلاً عن ذلك فإن نصوص قانون العقوبات تكفى لأن تنال أفعال المساس بالمال أو الحيازة بالعقاب. والنص على اعتبار هذه الأفعال جريمة لا تسقط بالتقادم يثير هو الآخر التساؤل عن علة استثناء هذه الأفعال-على ندرتها- من الخضوع لأحكام التقادم ، على الرغم من وجود أفعال أشد خطورة تخضع له.
-جرائم المساس بالآثار والإتجار بها: نصت المادة 49 من الدستور على أنه: "تلتزم الدولة بحماية الآثار والحفاظ عليها .... والاعتداء عليها والإتجار فيها جريمة لا تسقط بالتقادم". وإذا كان يحسب للدستور نصه- لأول مرة- على إخراج هذه الجرائم من نطاق التقادم ؛ إلا أن خطته مع ذلك لم تسلم من النقد:
فعلى الرغم من أهمية الآثار وما يمثله المساس بها من اعتداء على التراث الحضارى والثقافى للأمة المصرية ؛ فإن هناك أيضاً الكثير من الحقوق والحريات التى تماثل –إن لم تزد-أهمية عن الآثار ، ورغم ذلك تخضع لمدد التقادم العادية. وهو ما يجعل النظام التشريعى مفتقداً للانسجام، فالشارع يخرج جرائم من نطاق التقادم ؛ بينما يبقى فيه جرائم أكثر خطورة من الأولى ، في حين أن القاعدة الأصولية تقضى بأن القيود الإجرائية يجب أن تتناسب مع جسامة المساس بالحق محل الحماية ، وأن تتفاوت هذه القيود بحسب درجة هذه الجسامة. ومن ناحية أخرى فإن صياغة نص المادة 49 في تقديرنا محل نظر: فالإتجار في الآثار يدخل في مدلول الاعتداء عليها، ومن ثم يكون النص قد انطوى على تكرار لا محل له.
ومن ناحية ثالثة فإن إطلاق النص على إخراج كافة جرائم الاعتداء على الآثار من عداد التقادم هو أمر ينقصه الإلمام بأن الكثير من هذه الجرائم تتسم بالضآلة وقلة الجسامة. وكان من الأوفق أن يقتصر الدستور على تقرير القاعدة العامة التى تقضى باستثناء هذه الجرائم من التقادم ؛ على أن يحيل إلى القانون في شأن تحديد هذه الجرائم. والنص السابق بهذه الصياغة قد بات قيداً على السلطة التشريعية في إخراج كافة جرائم الآثار من نطاق التقادم، وذلك أياً كان نوعها أو جسامتها أو شدة خطورتها. والتوسع على هذا النحو لا يتفق مع أصول السياسة التشريعية التى تنظر إلى الاستثناء من التقادم باعتباره سياسة تجنح صوب التشديد ، وهو ما يجب أن يقتصر على الحالات التى تتوافر فيها موجباته.






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق