الأربعاء، 2 ديسمبر 2015

التشريعات الدستورية للسلطة القضائية ووضع أسس تحقيق العدالة وبناء دولة القانون

التشريعات الدستورية للسلطة القضائية
ووضع أسس تحقيق العدالة وبناء دولة القانون
بقلم الأستاذ الدكتور / رأفت فوده
رئيس قسم القانون العام – كلية الحقوق – جامعة القاهرة
منشور بمجلة الدستورية - العدد الثالث والعشرون – السنة الحادية عشر – أبريل 2013

رغبة منا نابعة من القلب والحب لهذا الوطن آثرنا أن نشارك معكم بهذه الكلمات التى خطها قلبى قبل قلمى ، وأشرف بنشرها بين ضلوع مجلتكم العلمية الراقية والتى لا يدانيها ـ فى الصدق والرفعة ـ عمل آخر . فالكتابة بالنسبة لنا أداة إخراج ما فى النفوس إما من إبداع وإما من هموم وإما من رغبات نريد تداولها ومداولتها مع الآخرين من أجل إشراكهم أو إعلامهم بما يجيش فى صدر مواطن حر غيور على بلد تئن جوارحه لجروحه ويهنأ قلبه بما يصيبه من خير.
          ولأن هذه الورقة تدور حول كيفية تنظيم أهم السلطات فى الدولة ، تلك المنوط بها دستورياً فى كل دول العالم الحر صون وحماية الحقوق والحريات العامة والذود عنها من ناحية وعلى إثر ذلك يُشيَّد صرح العدالة التى هى أساس وجوهر الديمقراطية ، بل والملك من ناحية أخرى . وبالعدالة الناجمة عن تكريس حقوق الإنسان نصاً وروحاً عبر الميثاق المنشئ للسلطات العامة فى الدولة    { الدستور} .
          والنزول بهذه الحقوق والحريات بحالتها دون تزييف أو تحريف أو نقصان أو تعليق على شرط أو مسخ أو نسخ لها إلى أرض الواقع وحيز التطبيق حيث يجدها المواطنون هى كما أراد لها أن تكون المشرع الدستورى ، وعلى النحو الذى أراده أصحاب الحق ومصدر السلطات ، بكل ما سبق تكون دولة القانون .
          وبغير التحام ما ورد بالنصوص الدستورية من حقوق وحريات برغبة وإرادة وهوى ومزاج الشعب لا تقوم دولة القانون ، وإن جاءت السلطات العامة بالانتخاب الحر النزيه ، بل وإن جاءت القاعدة القانونية بمسالمة شعبية عـبر اسـتفتاء أو تزكية من قطاعات شعبية !! 
          والسلطة المشار إليها هنا والتى تقع على عاتقها كوظيفة أولى لها سامية ، مقدسة وجليلة إقامة العدل بين الناس بعضهم وبعض من ناحية وبينهم وبين الحاكم من ناحية أخرى هى ما تسمى بالسلطة القضائية ، فهى النائبة عن المجتمع فى إقامة العدل ، والعدل من أسماء الله الحسنى ومن صفاته الحكم العدل . ومن أوامره وتكليفاته لخلقه الحكم بالعدل ورفع الظلم الذى حرَّمه المولى على نفسه وحرَّمه بين عباده فلا يحق لهم أن يظَّالموا .
          وجميع السلطات فى الدولة بما فيها سلطة الشعب مصدر السلطات ذات صبغة سياسية ، وهمها الأول العمل بالسياسة والبحث عن الوصول للسلطة أو البقاء بها أكبر وأطول وقت ممكن ولذلك تعمل هذه السلطات بالسياسة . والعمل بالسياسة سيوجب اللجوء إلى الحيل والمكر تارة والخداع والنفاق تارة أخرى ، فالذكاء فى الساسة ينقلب إلى دهاء ونفاق ، والصدق فى السياسة له جميع ألون الطيف ، والعدل فى السياسية نسبى ويكاد يقترب من فكرة البغى ، والنور فى السياسية ظلماته داكنة وقراره عميق ومستقره سحب بصر الشعب وطمس الحقيقة .
          والحاكم المختار من الشعب هو رجل السياسية الأول يأتى بوعود ويحكم بالوعيد ويستخدم القانون أداة لإعلاء حكمه تلمسا بفكره الديمقراطية وتمسكا بأهداب فكرة الدولة القانونية . فالدولة القانونية بالنسبة للحاكم هى إعلاء القانون وفرضه على الجميع حتى ولو جاء القانون من فئة شعبية ، ولو شكلت هذه الفئة أقلية مقارنة بشعب الدولة. ودولة القانون بالنسبة للحاكم هى إصدار قرارات ملزمة للجميع أيا كان فحواها ومضمونها وإن جاءت تكريسا للظلم ، فالمساواة فى الظلم المقنن والمسنون بقانون من نواب الشعب يعد فى نظر هذا الحاكم إعلاء لدولة القانون !‍!
ودولة القانون من كل ذلك براء . فمؤسسى دولة القانون فى عصورهم الأولى أرادوا بها دولة تعلو فيها كرامة المواطن ، دولة تتمسك بإنسانية المواطن ، دولة لا مكان فيها لبذرة الظلم والدهاء والنفاق ، دولة لا تمييز فيها على الإطلاق وعلى أى أساس كان هذا التمييز إيجابياً أم سلبياً دولة بها وفرة من الحقوق والحريات ، دولة السلطات فيها خادمة وأمينة على الحقوق والحريات بكل أنواعها وطوائفها ، دولة القانون يصنع فيها لإعلاء قيم الخير والجمال ويجيئ فى فحواه ومضمونه منشئاً لتلك القيم والفضائل . القانون الذى لا يلبى هذه الأهداف وجب إلغاؤه بأثر رجعى وسحبه منذ أول يوم صدر فيه ولا تبقى من آثاره شيئا ، لأن بقاء ولو جزء من هذه الآثار يعكر صفو الوئام والرفاهية والسعادة التى تكرسها دولة القانون .
          ودولة القانون تبيح وتأذن لكافة السلطات الحاكمة أن تعمل بالسياسة ، وبالسياسة تباشر هذه السلطات مهام الحكم فى الدولة بشرط الالتزام بمبادئ دولة القانون السابق الإشارة إليها ، وأى إنحراف عن هذه المبادئ يذهب من قبل المواطنين وأصحاب الشأن إلى سلطة محظور عليها العمل بالسياسة ، ومحصنة من مفاسد السياسة ومن تدخلات رجال السياسة . لرجالها تكوين قانونى خالص يتجردون فى أداء أعمالهم من نزوات الحكم وشهوات الدنيا ، فهم شيوخ الشعب وقوامون على الحق ومقيمون للعدل ومطبقون للقانون بمفهومه السابق على الجميع لا مقصد لهم فى الدنيا بعد توطين العدالة شيئا . رجال زهدوا بتكوينهم العلمى فى زينة الدنيا وزخرف السلطة . هؤلاء يشكلون السلطة القضائية .
          وخلاصة ما سبق وحتى لا نخرج عن موضوعنا ، أنه لا قيام لدولة القانون من غير سلطة قضائية مستقلة عن سائر السلطات فى الدولة . ولأن هذه السلطة تسهر على تطبيق القانون على الجميع وتعيد الحقوق لأصحابها بحيدة ونزاهة واستقلال ، وجب إقرار هذه الحقوق والحريات أولا فى الدستور بصورة واضحة ومحددة وملزمة للسلطات العامة والأفراد كافة ن لأن القاضى يبحث فى الأصل عن الحل العادل فى البنيان القانونى للدولة وعلى رأسه الدستور . وكما قلنا سلفاً فالعبرة ليست بوجود القانون حتى ولو كان صادراً من السلطات الدستورية وبصورة سلمية مشروعة ، وإنما بأن يحقق هذا القانون فى محتواه قيم الدولة القانونية والتى يمكن إجمالها فى تكريس الحقوق والحريات للمواطنين .
          وحتى يتحقق هذا الهدف ولكى نكون بصدد دولة القانون المقيمة لأسس العدل وجب لزوما وحتما ، ودون مواربة، ودون البحث فى الظروف وفى التاريخ والجغرافيا الأخذ فى الاعتبار ما يلى :-
أولا: نطاق تقدير المشرع الدستورى
          المعروف أن الدستور هو اسمى القواعد القانونية فى الدولة وهو المرجع النهائى لها ، وترتبط هذه القواعد به برابطة تبعية عضوية من ناحية وموضوعية من ناحية أخرى . وبدون هذه الرابطة لا وجود لدولة القانون . وتتحقق هذه الرابطة ويكون للدستور هذه المكانة أيا كانت طريقة وضعه والجهة المصدرة له طالما أنه جاء جامدا ومكتوباً لا ينال منه المشرع العادى عند صناعته للقوانين العادية .
          فقاعدة التدرج بين القواعد القانونية فى الدولة ركن ركين من أركان الدولة القانونية وإلا انقلبت كل سلطة بأعمالها لدولة داخل الدولة وتفتت بذلك عصب الدولة القانونية وتعرض الشعب لبطش كل سلطة فى الدولة دون رقيب أو حسيب .
          وإذا كان للدستور هذا السمو وتلك المكانة وأنه يعلو ولا يعلى عليه ، وهو المرد النهائى لسائر القواعد القانونية ، فإنه ينبغى العلم بأن الدولة القانونية الحقه تلزم المشرع الدستورى ـ حال وضعه للدستور ـ بقيم ومبادئ وقواعد وأحكام تحد من حريته وتقلل من نطاق وتقديره عند وضعه للقواعد الدستورية .
          والقول بغير ذلك يعد بل وخطيئه، وآثار ذلك هدم لدولة القانون بل وطمس لمعالمها المتعارف عليها بين شعوب الأمم المتحضرة . فمثلاً لا يملك المشرع الدستورى بحجة سموه وعدم خضوع الدستور لرقابة القضاء أن يهدم مبدأ المساواة بين الناس !! القرآن والانجيل والزبور وإعلانات حقوق الإنسان تقول جميعاً إن المواطنين يولدون أحراراً ومتساوون فى الحقوق والوجبات ، ولا تمييز بينهم إلا نادرا وأسمى تتمثل فى المصلحة العامة ( المادة الأولى من الإعلان الفرنسى لحقوق الإنسان 1789 ) .
          ولا يملك المشرع بحجة سموه وعدم خضوع أعماله لرقابة القضاء ان يقر مبدأ المساواة فى إحدى مواده ( م /33 الدستور الحالى ) ، ثم يأتى فى مادة أخرى ( م/6) ويقرر أن هذا المبدأ يطبق على النحو المبين فى الدستور . ويأتى فى مواد أخرى من الدستور ويقوَّض مبدأ المساواة ويهدمه لفئات عديدة من الشعب دون مبرر من مصلحة عليا لا تقوم دولة القانون إلا بالتأكيد عليها وتحقيقها . فيحرم من كان قد حمل جنسية دولة أخرى من حق الترشح لرئاسة الدولة ( م/134) ويحرم كذلك من أن يكون عضوا فى الحكومة (م/156) ، وتعطى فئة معينة 50% من مقاعد مجلس النواب دون وجه حق ، بل أن المصلحة العليا العامة تلفظ هذه المحاباة لمضارها الوخيمة على العمل التشريعى (م/229/2) ولو كان ذلك لدورة واحدة . وأى مساواة تحرم جماهير من أبناء الشعب من مباشرة الحقوق السياسية وتجعلها مواطنين من الدرجة الثانية لأن منهم من كان قد شغل منصب سياسى معين أو تشريعى حتى ولو جاء الحرمان لمدة عشر سنوات ( م/232) .
          فدولة القانون هى نتاج كفاح مشترك لشعوب الأرض عبر قرون ليست بالقصيرة ، ضحت هذه الشعوب بالغالى والنفيس حتى تجنى ثمار كفاحها المتمثل فى قيم ومبادئ إنسانية مشتركة تعلى شأن الإنسان ولا يبعد عنها دستور فى أى دولة إلا وقد ضل سبيل دولة القانون . إذ أصبحت هذه القيم والمبادئ تراثا إنسانياً بل وربانيا وهبه الخالق للخلق أينما كانوا وأيا كان النظام السياسى السائد لديهم . وهى تشكل بعدالتها وخيرها قوة إلزام على المشرع الدستورى وأوجبت عليه تضمنيها طى القواعد الدستورية التى يصدرها وإلا تنكب دستوره هوية الدولة القانونية .
          من هذه القيم أيضاً نذكر أن يضمن الدستور الحقوق والحريات للجميع دون تمييز ، وأن يأتى التمييز باسم المصلحة العامة والضرورة فى دفع مقابل الخدمات العامة لغير القادرين مع عدم حرمان القادرين من هذه الحقوق لأنهم يدفعون الضرائب التى ينفق منها على غير القادرين وهؤلاء لا يدفعون شيئا وهذا أمر طبيعى . وبالتالى وجب للجميع التمتع بالحق ، الغنى والفقير لسبق دفع الغنى من ضرائب تمول هذه الخدمة . 
          ولذلك حينما تلتزم الدولة بالرعاية الصحية بالمجان لغير القادرين فقط تكون قد أهدرت الحق فى الرعاية الصحية والتزامها به حيال باقى المواطنين لسبق مساهمتهم فى تمويل هذا الحق لغير القادرين ( م/62) .
          وإلزام المنشآت الصحية بتقديم العلاج فى حالات الطوارئ أو الخطر على الحياة فقط فيه إهدار للحق فى العلاج فى أى وقت دون خطر أو طوارئ طالما كان الجميع متساوون أمام النفقات العامة كل حسب قدرته وطاقته المالية (م/62/3) .
          وإذا كان الحق فى التعليم ذا قيمة دستورية ومجانيا بمراحله المختلفة فى مؤسسات الدولة ، وإلزامياً فى مرحلة التعليم الأساسى (م/58) ، فكيف للدستور الذى اقر هذا الحق على إطلاقه يجيز تشغيل الأطفال قبل تجاوز سن الإلزام التعليمى فى أعمال تتناسب مع أعمارهم ولا تمنع استمرارهم فى التعليم ؟ فالاعتراف بالحق وأصله وإطلاقه يحظر مثل هذا العمل لأطفال غير القادرين الذى لن يؤدى سوى للخروج بالطفل من دائرة التعليم (م/70/3) وتفشى الأمية بين أبناء الفقراء التى التزمت الدولة بتخفيف منابعها خلال عشر سنوات من الآن (م/61) .
          أيضا إذا كانت الكرامة حق لكل إنسان يكفل المجتمع والدولة إحترامها وحمايتها ولا يجوز بحال إهانة أى إنسان أو ازدراؤه (م/31) . فكيف ودون مصلحة عامة عليا يأذن الدستور نفسه للقانون بفرض العمل جبراً على المواطنين ودون ذكر أى مقابل لهذا العمل ولا تقييده بوجود مصلحة عامة (م/64/2) مثلما قيده فى نزع الملكية الخاصة بقيد المنفعة العامة ومقابل تعويض عادل يدفع مقدماً (م/24) ومثلما قيَّد التأميم بإعتبارات الصالح العام ومقابل تعويض عادل (م/29) !! كل ذلك يتنافى فى وقيم وهوية الدولة القانونية!!
          ومن شيم دولة القانون أيضا أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته فى محاكمة قانونية عادلة تكفل له فيها ضمانات الدفاع (م/77) ويكون له حق التقاضى المصون والمكفول له ولغيره (م75/1) ، وأن العقوبة شخصية ولا جريمة ولا عقوبة إلا بقانون ولا توقع العقوبة إلا بحكم قضائى ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون (م/76) ، فكيف بالدستور الذى قرر وأقر واعتراف بهذه المثل العليا فى صلب مواده يأتى فى مواد أخرى من ذات الوثيقة ولا يحترم هذه القيم والمبادئ والمثل ويهدر دولة القانون حينما حرم جماهير غفيرة من الشعب من حقوقهم السياسية دون جريمة وبلا دعوى قضائية وبلا دفاع عن أنفسهم وبأثر رجعى عن أفعال لا تشكل على الإطلاق جريمة قاموا بها قبل نفاذ هذا الدستور ؟
          فهل يملك الدستور أن يهدم الحقوق والحريات التى أقرها واعترف بها وشاعت تراثا إنسانياً لدى الأمم المتحضرة ليس إلا لأنه لا يخضع لرقابة القضاء؟
          ألم يخضع المشرع الدستورى هنا لرقابة الإنسانية والشعوب والأمم المتحضرة وقبل كل شيئ لرقابة الخالق ؟ نعم يستطيع المشرع الدستورى فعل كل ذلك ولكن خارج دولة القانون !!
ثانياً : مفهوم دولة القانون
          على عكس معظم الفقه القانونى بصفة عامة والفقه الدستورى بصفة خاصة فإن لنا مفهوماً شخصياً لدولة القانون يتمثل فى النقاط الآتية :-
1- أن يأتى دستور هذه الدولة معبراً عن إرادة شعبها بنسبة تقترب فيها بنسبة المؤيدين من مجموع هيئة الناخبين وليس فقط الأصوات الصحيحة للحاضرين الذين أدلوا بأصواتهم . ويتحقق ذلك بإشتراط حضور نسبة تفوق 60% من مجموع الناخبين لعملية التصويت من ناحية ، وإشتراط نسبة تفوق 60% من الأصوات المشاركة لإقرار الدستور . ولا يهم هنا الجهة التى وضعت مشروع الدستور .
2- أن يقرر هذا الدستور الحقوق والحريات بمختلف أنواعها للمواطنين دون تمييز ، ولا يكفى الإقرار هنا وإنما ينبغى التزام مؤسسات الدولة وعلى الأخص سلطة التشريع بها بحيث يكون للمواطن الحق القانونى فى المطالبة قضاء بحقوقه وحرياته إن تنكبت طريق الوصول إليه وحيال كافة السلطات فى الدولة .
3- أن يجعل الدستور من السلطات العامة فى الدولة راعية وحامية لهذه الحقوق والحريات ويحظر عليها أى عمل يستأصل الحق أو ينتقص من مكناته ومقدراته .
4- الا يأت الدستور فى طياته بنصوص موزعة بين أجزائه تتعارض مع ما أقره من حقوق وحريات أو تقيد الوصول إليها أو تفرغها من مضمونها كما رأينا فى أولا . لأن المشرع الدستورى ليس مطلقا فى تقرير ما يشاء ، وعدم خضوع الدستور لرقابة القضاء ليس مبرراً يمنحه العبث بحقوق وحريات المواطنين لأنه سيكون حينئذ مقيما لنظم سياسية خارج إطار دولة القانون .
5- ألا يسمح المشرع الدستورى لنفسه أو لغيره بالدخول فى مجال الأخلاق وسرائر المواطنين وعقيدتهم وما هو لصيق بشخصهم وإلا إنقلب لسلطة روحية توحد ما أراد الله فيه إختلافا ، إلا بقدر الذى يمكن المواطنين من الاستفادة بكامل حقوقهم وحرياتهم دون عوائق من سلطة أو من فرد وتحت أى مسمى كان .
6- أن يقر مسئولية الحاكم وكل من إعتلى عرش منصب عام مدنياً وجنائياً وسياسياً أمام قاضى يتبع كلية السلطة القضائية ومحصناً بإستقلال هذه السلطة .
7- أن يوزع أعباء ومسئوليات العمل العام بين السلطات سياسية مستقلة ومتعاونة ومن أجل إعلاء الحقوق والحريات ( ثبت تاريخياً أنه حيث لا فصل بين السلطات لا مجال للحرية أو إحترام القانون ، بل يكون التسلط والاستبداد ، ( د. ثروت بدوى، النظم السياسية 2011، ص 165 )
8- أن يعطى للسلطات الأقرب للمواطنين والهيئات القوامة على مصالحهم ذاتية وإستقلالا عن السلطة المركـزية فى النواحى الإدارية والسياسية والقانونية والمالية .
9- أن يقر تأسيس معظم هذه السلطات عبر اشراك هيئة الناخبين فى إختيار ممثليهم ورقابتهم سياسياً بل ومقاضاتهم إن لزم الأمر .
10- لا يكفى أن يقر الدستور بأن "" سيادة القانون أساس الحكم فى الدولة ، (م/74/1) ، بل ينبغى أن يحظر على صانعى القانون أو القاعدة العامة المجردة أيا كانت مواقعهم تقنين الخروج على القيم والمبادئ والمثل الإنسانية المتعارف عليها بين شعوب الأمم المتحضرة والمقررة أصلا فى كل الكتب السماوية . وأن يلتزم الدستور نفسه بها كما كررنا مراراً فيما قبل .
11- ألا يقر هذا الدستور أى تدخل من أى شكل كان من قريب أو بعيد للسلطات السياسية العامة فى أعمال السلطة القضائية تشكيلاً أو إختصاصاً أو تعليقاً على أحكامها ، وأن يجعل من تنفيذ الأحكام القضائية قاعدة آمرة للجميع متى كانت نهائية وواجبة النفاذ حكاما ومحكومين . وأن تكون جريمة الامتناع عن تنفيذ الأحكام القضائية واجبة النفاذ جريمة جزاؤها الفصل الوجوبى من الخدمة . إن كان مرتكبها من الموظفين العموميين إضافة للعقوبة السالبة للحرية للجميع .
12- أن ينشئ هيئات قضائية مستقلة شكلاً وموضوعاً متخصصة فى الأنزعة المختلفة ، حتى يكون القاضى متخصصاً فيما يحال إليه من دعاوى ومحصنا وغير قابل للعزل طوال فترة خدمته ، وإن جاز محاسبته أمام جهة قضائية عليا ويتم توقيع عقوبة الفصل عليه بعد احترام حق التقاضى والدفاع .
          ويحضرنى هنا قول أ.د ثروت بدوى فى القضاء كعنصر فى الدولة القانونية ـ وان ارتد عنه عملا الآن لأسباب هو يعلمها ولا أعلمها ـ "" الرقابة  القضائية وحدها التى تحقق ضمانة حقيقة للأفراد ، إذ تعطيهم سلاحاً بمقتضاه يستطيعون الإلتجاء إلى جهة مستقلة تتمتع بضمانات حصينة من أجل إلغاء أو تعديل أو التعويض عن الاجراءات التى تتخذها السلطات العامة بالمخالفة للقواعد القانونية .
          واستقلال السلطة  القضائية وتمتعها بالضمانات الكافية لصيانة هذا الاستقلال ، ضروريان لتحقيق رقابة فعالة ومنتجة . ولا شك أن ما يتمتع به القضاء من حصانة واستقلال ، وعلى الخصوص تجاه السلطة التنفيذية ، كفيلان بتحقيق رقابة قوية على الإدارة وباخضاع الحكام جميعاً لأحكام القانون . 
          أما حيث يفقد القضاء استقلاله ، ويكون رجاله من حيث إختيارهم أو ترقيتهم أو ممارسة إختصاصاتهم خاضعين للسلطة التنفيذية ، فإن الرقابة القضائية تفقد معناها ، على الأقل بالنسبة للحكام ، ويصبح مبدأ خضوع الدولة للقانون وهمياً لا وجود له !! ( ولا أدرى على أية أساس أجاز عزل النائب العام ووصف أحكام الدستورية بالبطلان فهل لأن خضوع الدولة للقانون الآن أصبح وهمياً كما يقول !! ) ( مؤلف النظم السياسية ، طبعة 2011 ، ص 162 ، 163 ، دار النهضة العربية ) .
          الخلاصة من العناصر السابقة وغيرها نكون بصدد دولة قانونية يأتى فيها القانون بمعناه الواسع على هدى القيم والمثل والفضائل المشتركة للشعوب الحرة ويفرض هذا القانون على الجميع حكاما ومحكومين ، ويجد المحكومون حقوقهم وحرياتهم فى مأمن من عبث السلطات العامة أيا كان إختصاصها ويتحقق هذا الأمان  لهم بسلطة قضائية مستقلة ومحايدة ونزيهة تصدر أحكامها باسم الشعب وتكون هذه الأحكام نافذة على الجميع حكاما ومحكومين ولا تقبل التأويل أو التعطيل فهى والإلزام القانونى سواء بسواء .
          متى توافر كل ما سبق نستطيع القول بوجود دولة القانون ووجود النظام الديمقراطى ويسود حكم القانون ، وبذلك يسطع نجم الحقوق والحريات الفردية والعامة ، ويعرف كل مواطن ماله وما عليه على قدم المساواة  مع الآخرين ، ولا يخشى المواطن  بأس سلطة عامة ولا جورها ولا استبدادها ، حيث لا مكان لذلك فى دولة القانون الديمقراطية . إذ لا تلازم أصلا بين وجود دستور وقيام الحكم الديمقراطى ( أ.د ثروت بـدوى ـ المرجع السابق ، ص 156 ) ولا يتحقق هذا التلازم إلا باكتمال ما ذكرناه من عناصر وبذلك تكون السلطة مقيدة وتمارس وفقاً للأوضاع الديمقراطية .
ثالثاً: تنظيم الدستور للسلطة القضائية وأسس تحقيق العدالة 
          لتحقيق العدالة المجردة والتى لا تحتاج لوصف مؤكد لها أو دالاً على مضمونها وجوهرها أو اتجاهها فى دولة القانون ، ينبغى على المشرع الدستورى حال تنظيمه للسلطة القضائية أن يضع نصب عينيه الأحكام الضابطة الآتية :-
1- أن مجرد وجود السلطة القضائية لا يعنى قيام العدالة وتحقيق دولة القانون التى   يسود فيها القانون وتحمى فيها الحقوق والحريات العامة بعد إقرارها دستورياً.
2- أن كفالة حق التقاضى وجعله مصونا للناس كافة قد يتحول إلى وهم وسراب وذر للتراب فى العيون أما سلطة قضائية فاقدة لضمانات وجودها وتمارس عملها تحت إرهاب الحكام أو تهديد المحكومين .
3- أن تحصين أى عمل صادر عن أية سلطة عامة تشريعية أو تنفيذية أو شعبية من رقابة القضاء هو هدم لدولة القانون وتكافؤ الفرص ومخالف للقيم والمثل العليا المشتركة للإنسانية ، ونافى لقيام فكرة الديمقراطية ، ولو جاء ذلك التحصين بنصوص دستورية ، فمبادئ الديمقراطية والقيم الإنسانية العليا التى ذكرناها سلفاً تمثل قيوداً على إرادة المشرع الدستورى . وما أقرته المادة (211) من عدم جواز الطعن على نتائج الاستفتاء أو الانتخابات الرئاسية بعد إعلانها يتنافى وقيم دولة القانون .
4-  أن الدستور ان كان لا يخضع لرقابة القضاء فهو لا يكون كذلك ولا يعترف به ولا بقيمته السامية إلا إذا جاء من الشعب وعلى هوى الشعب متفقاً مع مبادئ الأمم المتحضرة ، على الأخص ـ إضافة لما سبق ذكره ـ فيما يتعلق بتنظيم السلطة القضائية التى هى ـ لا غيرها ـ الأمينة على دولة القانون وجوداً وإستمراراً بأحكامها الملزمة للكافة والتى لا تقبل التأويل أو التعطيل أو حتى مجرد التعليق عليها من سلطة عامة أخرى .
5- أن تبقى فكرة القاضى الطبيعى للخصومة أمر لا مفر منه لأنه صنوان الدولة القانونية . "" فخضوع الدولة للقضاء ، أو إمكان مقاضاتها أم القضاء ورضوخها لأحكامه شأنها شأن الأفراد ، يكون عنصرا من عناصر الدولة القانونية بغيره يغدو ومبدأ خضوع الدولة للقانون وهمياً أو نظرياً "" أ.د ثروت بدوى ، المرجع السابق ، ص 151 . والقاضى الطبيعى يتحدد بالآتى :-
          أ:- على أساس الخصوم
          فيحاكم المدنى أمام القضاء العادى والعسكرى أمام القضاء العسكرى.
          والتمييز  هنا لا يقبل أن يكون على أساس ماهية الخصومة ، فيقال أن الخصومة التى  محلها شيئ عسكرى تحال للقضاء العسكرى أيا كان مرتكبها والخصومة التى  محلها شيئ مدنى تحال للقضاء العادى أياً كان مرتكبها !! فدولة القانون تأبى أن يحاكم مدنياً أمام قضاء عسكرى وان تحققت فيه ضمانات القضاء العادى .
          ب ـ على أساس طبيعة النزاع :
          وهنا تأتى فكرة القاضى المتخصص فى أنزعـة معينة ، إدارية ، إقتصادية ، تجـارية ، جنائية ، مدينة ، أحوال شخصية ، دستورية ، عقدية إلخ .
          ولذلك وجب ـ فى الدول القانونية ولسرعة إنجاز العدالة ـ أن تقسم السلطة القضائية على الأقل إلى الهيئات الآتية :-
          القضاء العادى
          القضاء الإدارى
          القضاء الدستورى
          ثم فى داخل كل قضاء يتم التقسيم لوحدات أو دوائر أو محاكم متخصصة دراسة وعملا وتدريبا على نوع الخصومة .
القضاء العسكرى : ويتمتع بذات ضمانات واستقلال القضاء العادى سواء من حيث تشكيله أو من حيث إختصاصاته ، وتكون أحكامه نهائية تخضع لطرق الطعن العادية وغير العادية طبقاً لقواعد إجرائية تتناسب وطبيعة عمل هذا القضاء لسرعة الفصل فى المنازعات . والأهم من كل ذلك الا تخضع أحكامه لتصديق كائن من كان وإلا تحول لجهة استشارية وأصبح المصدق على الأحكام حكما وخصما فى نفس الوقت . فالعدالة واحدة أيا كان مطبقها وأيا كانت الخصومة ، ولذلك وجب توحيد ضماناتها بين القضاء العادى والعسكرى .
          جـ:- على أساس طبيعة الظرف :
          فتكون المحاكم العادية أيا كان نوعها لجرائم ومنازعات الظروف العادية ، وتكون المحاكم  الاستثنائية لجرائم ومنازعات الظروف الاستثنائية .
          وهذا التقسيم الأخير يصطدم ودولة القانون ، ويتنافى والقيم الإنسانية العليا المشار إليها سلفا ، وكان أداة الطغاة المستبدين فى العصف  بحقوق المواطنين بإعلانهم العمل بالطورائ وتقديم الناس لمقصلة المحاكم الاستثنائية بهدف التخلص من المعارضين لهم وترهيب الشعب وتخويفه من التعريض لأعمالهم بالنقد أو الاعتراض .
          فدولة القانون تأبى الاعتراف بالقضاء الاستثنائى حيث لا تقبل هذه الدولة أن تضحى بأصولها ورأسمالها من حقوق وحريات للمواطنين  تحت أى ظرف كان ولأى سبب كان ، وإن كنا فى زمن الحرب أو فى حالات الخطر الداهم ، لأن هذه الأعذار المطاطة هى أداة الطغاة والجبابرة فى قمع كل متحرك وتحويل الحياة إلى مقابر صماء لا تسمع ولا تتكلم بل ولا ترى شيئا . ولنا فى التاريخ القريب الأسوة والموعظة الحسنة ، حيث غابت دولة القانون قرونا طويلة باسم الطوارئ ومحاكم الطورائ !!
6ـ أن ضمانات التقاضى من دفاع وعدم تطبيق القوانين الجنائية بأثر رجعى أو أى قوانين أخرى والمساعدة القضائية لغير القادرين للدفاع عن أنفسهم ، وعدم تحصين اعمال السلطة  العامة من رقابة القضاء ولو لفترة محدودة وأيا كان مسمى هذا العمل ، هذه الضمانات هى جزء لا يتجزأ من تنظيم السلطة القضائية ومكمل لأسس تحقيق العدالة فى دولة القانون .
          وعلى ذلك إجازة الأثر الرجعى للقوانين الضريبية فى المادة (223/2) من الدستور أيا كانت الأغلبية البرلمانية اللازمة لذلك يجعل أموال المواطنين  فى خطر وحقوق الملكية الخاصة فى مهب الريح . ولا يملك المشرع الدستورى فى دولة القانون أن يقضى بما يتنافى وطبائع الأمور لمجرد أنه مشرع دستورى لا يخضع لرقابة القضاء . فالعدالة تأبى وتنفر من الأثر الرجعى للقوانين متى كانت ضارة  ضرراً محصناً أما القوانين النافعة نفعاً محصناً فلا بأس بها وبأثرها الرجعى .
7ـ أن المشرع الدستورى رغم سموه وإعلاءّ للفكر الديمقراطى القائم على العدل والإعتراف بالحقوق والحريات لا يملك صفات الخالق فيحيى ويميت !! وعليه فهو لا يملك إحياء ما حكم القضاء بإعدامه من مؤسسات أو مجالس لأن فى ذلك إهدار لحجية أحكام القضاء حياله وهو أصلا الذى قال فى كل دول العالم "" تصدر الأحكام وتنفذ باسم الشعب وإمتناع الموظف العام عن تنفيذها أو تعطيل تنفيذها جريمة يعاقب عليها القانون (م/79 من الدستور ) ، فكيف به يحلل لنفسه ما حرّمه على الكافة حينما أقر بقيام مجلس الشورى الحالى بعمل السلطة التشريعية (م/230) وحينما حصن الجمعية التأسيسية بإعلانات دستورية وحينما عزل رجال القضاء المعينين بالذات بنصوص دستورية !! فكل هذه الممارسات تتعارض وأركان دولة القانون السابق ذكرها .
8ـ ان التدخل فى الأعمال المنظورة أمام القضاء يعد جريمة توجب العزل لمرتكبيها سواء أكان هذا التدخل بقصد توجيه أحكام القضاء أو تعطيل صدورها أو منع صدورها . وهذا حرام مطلق فى دولة القانون والحرمة هنا على الكافة بما فيها المشرع الدستورى لأنه مقيد بقيم ومبادئ ومثل دولة القانون والنظام الديمقراطى .
          فكما قالت المادة (168) من الدستور بأن التدخل فى شئون العدالة  أو القضايا  جريمة لا تسقط بالتقـادم ، فهى جريمة حتى على المشرع نفسه ، وإلا نقلب المشرع أيا كان نوعه لحاكم مستبد يصنع القانون للغير ولا يخاطب به نفسه ، وذهب مبدأ سيادة القانون أدراج الرياح .
9ـ ان تشكيل الهيئات القضائية يجب أن يظل بعيدا عن تناول السلطات الأخرى فى الدولة ، لأن استقلال القضاء الذى هو ركيزة من ركائز العدالة والديمقراطية  ودولة القانون قد يندحر من هذا الباب الخطر .
           إذ يجب ترك السلطات العليا  فى القضاء تتولى شئون أمرها بنفسها تعييناً وترقية وتأديبا ، والا يكون لرئيس الدولة سوى التصديق على ما سبق تقريره من قبل هذه السلطة .
          وإن جاز لرئيس الدولة مثل هذا التصديق على التعيين فينبغى الا يملك على الاطلاق سلطة العزل أو الفصل لرجال السلطة القضائية وإنما يكون مجازاتهم أما دوائر السلطة القضائية نفسها بعد حظر جزاء العزل حيالهم.
10ـ أن يترك لكل هيئة قضائية الحرية الكاملة فى إختيار عدد الكافى ، الملائم ، المناسب لطبيعة عملها، وبهذا تصطدم المادة (233) حينما قدرت عدد أعضاء المحكمة الدستورية بإحدى عشر عضوا وهى تحتاج لأكثر من ذلك سواء على مستوى المحكمة أو هيئة المفوضين إنجازاً للقضايا المتراكمة  أمامها .
          والمعروف أن مثل هذا النص جاء استبعاداً لأشخاص معينة باسمائها وأوصافها الأمر الذى يعد إنحرافاً دستورياً بسلطة التشريع مضاهاة بقيم ومثل الدولة  القانونية .
11ـ وجوب الفصل بين الهيئات القضائية التى تختص بالفصل فى المنازعات بأحكام نهائية باته ، والجهات الأخرى المعاونة للقضاء فى أداء عمله حيث هذه الجهات يمكن بسهولة تنظيمها بقيود أقل وطأة من تلك المتعلقة بالهيئات القضائية الحاكمة ( أى الفاصلة بأحكام نهائية فى النزاع ) . وجعل الهيئات القضائية  الحاكمة  لها سلطة إشراف على الجهات المعاونة  حتى تتحقق وحدة الجهاز القضائى
12ـ يحظر بتاتا الإستعانة برجال القضاء الجالس فى أى عمل لدى السلطات  السياسية الأخرى بأجر أو بدون أجر ، ولا يجوز ندبهم حتى ولو جاء الندب كاملاً ، لأن مصير الندب الإنهاء وبعدها سيعود رجل القضاء لمنصة القضاء فيواجه أمامه بخصوم كان يعمل ـ فترة الندب ـ تحت إمرتهم وبالتالى يكون هناك سببا لجرحه وعدم صلاحيته للفصل فى النزاع .
          وعلى ذلك ما قررته المادة (170/2) من الدستور يتنافى واستقلال القضاء ويفتح ثغرة خطيرة فى إغراء رجال القضاء بالعمل لدى سلطات سيادية حتى وان قال النص ( بما يحفظ استقلال القضاء.) فالعبرة ليست بالقول وإنما الواقع يتنافى وفكرة الإستقلال هنا .
13ـ وجب إلزام المشرع العادى بعرض مشاريع القوانين المتعلقة بالهيئات القضائية  الحاكمة قبل إقراراها على هذه الهيئات وجعل رأيها ملزماً لحد ما .
14ـ وأخيراً يجب الا يترك للمشرع العادى تحديد آثار الأحكام القضائية النهائية فهذا من صميم عمل القاضى الذى أصدر الحكم ، لأن المشرع هنا يقوض الأحكام القضائية ويحول عمل الهيئة القضائية إلى استشارة عديمة الأثر ، خاصة الأحكام العينية كدعوى الإلغاء والدعـوى الدستورية . ( وهذا ما خرج عليه الدستور فى المادة 178/2) . فهذه الأحكام بطبيعتها عينية، وينبغى ترك السلطة التقديرية للمحكمة لتحديد نطاق آثار حكمها بما يقيم العدالة ويتماشى وضوابط دولة القانون .
          فمثل هذا النص إنتقاماً من مواقف المحكمة الدستورية العليا القضائية والتى جاءت مطبقة للقانون والدستور وتمثل إنحرافاً دستورياً لسلطة التشريع . إن آمنا بأن المشرع الدستورى ذات سلطة مقيدة أو مجال التقدير فيها محدد بعدم الخروج على أسس دولة القانون فى دول العالم  الحر الديمقراطى .
          وأن الرقابة السابقة على القوانين  ليست برقابة قضائية بالمعنى  الفنى الدقيق ، وإنما هى استشارة على عجالة يتم بشأنها استطلاع رأى المحكمة الدستورية فى فترة وجيزة (45يوماً) فى قانون قد تتجاوز مواده المئات . إذ لا تتوافر ضمانات التقاضى هنا ولا تنعقد الخصومة الدستورية بمعناها المتعارف عليه ، ولا يوجد هنا أصلا من يبرز أوجه عوار هذا القانون أى الخصم
          وقسم التشريع  فى مجلس الدولة هو المختص أصلا  بهذا النوع من العمل لكى يعاون المشرع فى تجنب العوار الدستورى .
          فالرقابة اللاحقة لدستورية القوانين هى الوحيدة التى تدخل فى مدلول الرقابة القضائية وما عداها فى رقابة سياسية غير مجدية فى دول العالم النامى حديث العهد بالديمقراطية والذى يحن أكثر للعودة للشمولية والاستبداد . ولذلك قررت فرنسا عام 2008 العودة للرقابة اللاحقة على القوانين .
          ولا ندرى لماذا اختار الدستور المصرى القوانين الانتخابية لإبعادها عن مجال الرقابة اللاحقة ، هل لأنها تتعلق بتداول السلطة وهو لا يريد ان يتم التداول لمن وضع الدستور فى عهده ؟ ولماذا حظر هذه القوانين للرقابة اللاحقة ؟
ولماذا جعل من عدم رد المحكمة الدستورية خلال 45 يوم إجازة للقانون لا رفضا له ؟
ولماذ لم يضع آلية تضمن أن المشرع سيلتزم بقرار المحكمة الدستورية حينما ترى أوجه عوار دستورى فى القـانون المعروض  عليها ، إذ يقول النص "" وجب إعمال مقتضى قـرارها "" ومن يملك مراقبة ذلك ؟ لا أحد!!.
وعليه فإن تنظيم المحكمة الدستورية العليا فى الدستور جاء على خلاف قيم ومثل دولة القانون ، واضعا الديمقراطية فى وضع محيط به الشكوك ، ومطلقا العنان فى القوانين المتعلقة بتداول السلطة للمشرع العادى حتى يضمن رئاسة الدولة وحكومتها ومجلسيها فى البرلمان لفترات غير محددة عن طريق التدخل بهذه القوانين فى تحديد الدوائر الانتخابية ، عملية التصـويت ، الرقابة عليها ، إلى غير ذلك من المسائل  التى توجـه هيئة الناخبين لاتجـاه معين ولن يكـون هنالك غيره !! ( المواد من 175 ـ 178 من الدستور )
الخلاصة :
أتمنى بما وفقنى إليه الله عز وجل أن أكون قد وفقت فى عرض ما تعلمته مدى حياتى فى دول العالم الحر وعلى نفقة الدولة المصرية ونعلمه منذ ثلاثين عاماً لطلابنا وما أرى فيه خيرَّ للوطن والمواطن وإعلاءّ لشأن الحقوق والحريات فى بلد ضحت برجالها وشبابها بثورتها على الظلم والاستبداد ، وأن بصل هـذا لأهل القرار . راجياً الأجر من الله .
          ونأسف لعدم إتاحة الفرصة من الوقت لمزيد من البحث والتأصيل ،،،




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق