الاثنين، 30 نوفمبر 2015

حكم القانون فى مواجهة الإرهاب (3/4)

حكم القانون فى مواجهة الإرهاب  (3/4) 
بقلم الأستاذ الدكتور / أحمد فتحى سرور
أستاذ القانون الجنائى - رئيس مجلس الشعب
منشور بمجلة الدستورية - العدد الثاني عشر – السنة الخامسة – أكتوبر 2007


حكم القانون فى مواجهة الإرهاب  (3/4) 

الفصل الثالث

التوازن بين المحافظة على الأمن وحماية حقوق الإنسان

ـــــــــــــــــــــــ

26- الأصل العـام:
إذا كان الإرهاب بعواقبه الوخيمة يلقى تحديات سياسية وأمنية واقتصادية، فإن التحديات القانونية لمواجهة الإرهاب تبدو هامة وحاسمة في ظل عصر سادت فيه قيم دولة القانون، والديمقراطية وحقوق الإنسان، وأصبحت هذه القيم جزءاً من الضمير العالمي.
ومن هنا احتلت مواجهة جريمة الإرهاب جانبا مهما من مسئوليات النظام القانونى متى تتم المواجهة من خلال التوازن بين متطلبات مكافحة الإرهاب في منع الجريمة أو العقاب عليها أو ضبط الجناة، وبين متطلبات حماية حقوق الإنسان. فبغير الثقة في النظام القانونى وسيادة القانون يكون الكفاح ضد الإرهاب ناقصا. وكما قيل، فإن سلاح الإرهاب يجب أن يكافح بسلاح العدالة، وأن الفكرة الفاسدة يجب مكافحتها بفكرة صالحة، ولا يجوز أن يعالج الضرر بضرر مثله، ويجب حماية القانون بالقانون.
ومن هنا، فإن المواجهة الشاملة للإرهاب لا يمكن أن تكون بمنأى عن دولة القانون، ومبادئ حقوق الإنسان. وهو ما يجعل التحديات القانونية في مواجهة الإرهاب ركنا ركينا في المواجهة الشاملة للإرهاب على اختلاف أنواعها وأبعادها وهو ما دفع المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أن تصدر أحكاما قاطعة وحاسمة لضمان احترام حقوق الإنسان عند مكافحة الإرهاب.
وعلى الجانب الآخر، فإن من حق الدولة، بل من واجبها أن تواجه الإرهاب استخداما لحقها في الدفاع عن سيادتها وأمنها واستقرارها والدفاع عن أرواح وسائر حقوق مواطنيها؛ وذلك باعتبار أن مواجهة الإرهاب تهدف أساساً إلى حماية حقوق الإنسان.
27- رفض التحيز للاعتبارات الأمنية على حساب حماية حقوق الإنسان:
     نجد أن الصدمة التى أحدثتها هجمات 11 سبتمبر للأمريكيين قد دعت إلى اتخاذ تدابير استثنائية لمكافحة الإرهاب. إن المشكلة الحقيقية والخطيرة تتعلق بشرعية التدابير الأمريكية ضد أفراد يؤمنون بالعمل الإرهابى أو يشتبه فى قيامهم به وعلى طريقتها، قامت الولايات المتحدة بإحياء الحكمة القديمة لسان جوست (Saint - Just) الذى أسس نظرية الرعب التى تقول : "لا حرية لأعداء الحرية" والتى يمكن ترجمتها بطريقة أخرى: "سأرهب الإرهابيين"،وهى العبارة المشهورة لوزير داخلية فرنسى أسبق قالها فى الثمانينيات. وفى هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى ثلاثة نماذج   [58]
•  سجن قاعدة جوانتنامو على جزيرة كوبا حيث يتم احتجاز أسرى الحرب فى أفغانستان وتركهم دون محاكمة أو مساعدة قضائية لفترات غير محددة ( ولا يزال عدد من السجناء محتجزاً هناك). ولقد تم البحث عن حجج قانونية واهية مثل مفهوم" أسير ميدان المعركة" أو " المقاتلون الأعداء غير الشرعيين" لتجنب منح هؤلاء السجناء وضع " أسرى الحرب" المنصوص عليه فى الاتفاقيات الدولية أو وضع المشتبه بهم فى نظر القانون الأمريكى، وهو وضع تعتبره السلطات الأمريكية يميل إلى حد كبير لصالح المتهم.
•      سجن أبو غريب والمعاملة الشائنة وعمليات التعذيب التى تعرض لها العديد من السجناء العراقيين. لقد اعتبرت هذه الممارسات بمثابة مبادرات فردية قام بها حراس السجن العسكريون الذين دافعوا عن أنفسهم متذرعين بتلقيهم أوامر غير مكتوبة بتحطيم السجناء نفسيا بغرض الحصول على المعلومات. ويعبر مايكل وايزر عن غضبه قائلا ان " الحكومة الحالية فى واشنطن لا تهتم كثيراً بمسألة الضمير الأخلاقى والالتزام بمبدأ المعاملة بالمثل فى قراراتها "  [59]
•  " السجون الطائرة " و" السجون السرية" لوكالة الاستخبارات المركزية. لقد تم اللجوء إلى هذه الوسيلة بهدف التأثير على التوازن النفسى للسجناء وتسهيل استخدام التعذيب فى بعض البلدان الحليفة سواء دون علمها أو نتيجة لتعاونها مع الولايات المتحدة.
إن هذه التجاوزات للنظام القانونى الذى قامت الدولة نفسها بوضعه تطرح سؤالاً جوهرياً حول إمكانية تكييف الرد لكى يتلاءم مع الاعتداء وكيفية اتخاذ تدابير قمعية فى إطار سيادة القانون.
لقد وصل الأمر إلى أن دعا البعض إلى المطالبة باستخدام التعذيب كوسيلة مشروعة و " تافهة " من وسائل القوة حتى أن أستاذ القانون فى جامعة هارفارد الأستاذ Alen Dervhawitj لم يتردد فى الكتابة قائلاً ان " نتيجة التحليل البسيط لحساب التكلفة والعائد فيما يتعلق باستخدام التعذيب الذى لا يفضى إلى الموت تبدو واضحة ولا تحتاج إلى مناقشة، إن القيام بمعاقبة أحد الإرهابيين المذنبين بعقوبة لا تفضى إلى الموت إذا كان يخفى معلومات لازمة لمنع وقوع عمل إرهابى أفضل من أن يسقط عدد كبير من القتلى الأبرياء [60]. وهذا الرأى تؤيده المدرسة الإسرائيلية حيث أجازت المحكمة العليا استخدام درجة معينة من العنف للحصول على المعلومات من الفلسطينيين الذين يؤمنون بجدوى الأعمال الإرهابية  [61] إن درشوفيتز يؤمن بالفكر القانونى القاضى بأن استباق وقوع العمل الإرهابى عن طريق تقنين قدر معقول من التجاوزات الضرورية أفضل من أن نجد أنفسنا تحت وقع حالة طارئة وشعور بالصدمة نتيجة لوقوع العمل الإرهابى ونضطر عندئذ إلى اللجوء إلى بعض التجاوزات" المفرطة"! لم تقم الولايات المتحدة بمواجهة التحدى القانونى الذى أطلقه درشوفيتز، فقد فضلت اختيار طريق " اللاشرعية " من خلال وضع عملية إدارة السجون خارج إطار القوانين العامة. ومن ثم، فإن العنف الذى يمارس فى السجون – حتى وإن كان عنفا غير جسدى- يخرج عن نطاق القانون والقضاء.
فى مواجهة تنظيم القاعدة، قيل بأن الولايات المتحدة ردت على بن لادن بأن قامت بوضع نفسها على مستوى واحد معه. فعن طريق ممارسة العنف بصورة غير قانونية، فقدت أمريكا ميزتها النظرية باعتبارها الضحية وفشلت فى مراعاة السلوكيات الأخلاقية التى ناضل المجتمع الدولى من أجلها منذ عدة سنوات
وفى هذا الصدد، ينبغى علينا مواجهة الحجة الرئيسية لهؤلاء الذين يؤيدون استخدام التعذيب ، فربما إذ يسمح التعذيب باكتشاف ثلاثين قنبلة فى مقابل فقدان قدر من الشرف ولكنه سوف يخلق فى نفس الوقت خمسين إرهابياً جديداً" يتسببون من خلال ارتكاب أعمال إرهابية أخرى – وفى سقوط عدد أكبر من الضحايا الأبرياء [62].
إن الحرب التى يشنها علينا الإرهاب يجب التصدى لها عن طريق استخدام الأدوات والطرق القانونية ... عن طريق تطبيق حكم القانون. 
    28- دعائم النظام القانونى:
ويهمنا بادئ ذي بدء أن نقرر أن النظام القانونى لا يقرر الحقوق والحريات بغير توازن فيما بينها وبين المصلحة العامة ولا يجادل أحد في أن الضمانات التي توفرها الشرعية الدستورية لا تطبق بذاتها عند زيادة الأخطار، وذلك باعتبار أن أهمية المحافظة على النظام العام المعرض للخطر تبدو أكثر دقة في الظروف الاستثنائية عنها في الظروف العادية، مما يجعل التوازن بينه وبين الحريات أمرا دقيقا . ولهذا أكد المجلس الدستوري في فرنسا سنة 1982 أن حماية النظام العام هو هدف ذو قيمة دستورية يجب التنسيق بينه وبين سائر المبادئ أو الأهداف ذات القيمة الدستورية [63]. وتؤدي الضرورة والتناسب دورا هاما في حكم التوازن داخل النظام القانونى بين الحقوق والحريات وبين المصلحة العامة.
وفي ضوء ما تقدم، فان مواجهة الإرهاب لابد أن تعبر عن موقف متكامل يتفق مع حكم القانون بما في ذلك مبادئ القانون الدولي ويحمى حقوق الإنسان.
وإذا كانت مواجهة الإرهاب تقتضي الانضمام إلى الاتفاقيات الدولية الخاصة بالإرهاب، فإن هذه المواجهة لا تكتمل أيضا بغير الالتزام بالمواثيق الدولية لحقوق الإنسان.
كما أن قرار مجلس الأمن سنة 2001 بشأن الإرهاب لا يعنى إقرار هذه المواجهة بالمخالفة لحقوق الإنسان ، ذلك أن ممارسات هذا المجلس أدمجت اعتبار حقوق الإنسان مع اعتبارات حماية الأمن . ولما كانت تدابير مواجهة الإرهاب قد تمس ببعض حقوق الإنسان فقد نادى المقرر الخاص باللجنة الفرعية لحماية حقوق الإنسان بمراعاة مدى احترام حقوق الإنسان عند تقييم تدابير مواجهة الإرهاب [64] ويتطلب إدماج حماية حقوق الإنسان فى اعتبارات المحافظة على الأمن ، وجوب احترام مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات ، واحترام مبدأ اليقين القانونى فى نصوص التجريم والعقاب .
وقد أكد إعلان القاهرة يومى 8 و 9 من يوليه سنة 2006 الذى صدر فى أعقاب المؤتمر الدولى للإرهاب الذى نظمه مجلس الشعب المصرى فى هذا التاريخ على أنه من واجب كل دولة وكذلك المجتمع الدولى بأسره الرد على التحدى الجماعى لمكافحى الإرهاب فى إطار مبادئ دولة القانون واحترام حقوق الإنسان.
وفي هذا الصدد نشير إلى أن المحكمة الدستورية العليا في مصر قد اتخذت المستوى الذي تلتزم به الدول الديمقراطية في قواعدها القانونية وفي احترام حقوق المواطنين وحرياتهم معيارا وضابطا لرقابتها الدستورية. وقد وصل بها الأمر تطبيقا لهذا المبدأ إلى عدم الوقوف عند معنى الحرية الشخصية التي كفلها الدستور بل اشترطت ألا تخل التشريعات بالحقوق التي تعتبر وثيقة الصلة بهذه الحرية الشخصية رغم عدم ورودها صراحة في نصوص الدستور المصري، ومنها ألا تكون العقوبة الجنائية التي توقعها الدولة بتشريعاتها مهينة في ذاتها أو محضة في قسوتها [65]، أو متضمنة معاقبة الشخص أكثر من مرة عن فصل واحد [66]،  وألا يكون النص العقابي غامضا بحيث يخفي مضمونه على أوساط الناس باختلافهم حول فحواه ومجال تطبيقه [67].
29- معيار الضرورة والتناسب:
يحقق معيار الضرورة والتناسب التكامل بين مقتضيات المحافظة على الأمن والنظام العام وحماية حقوق الإنسان.
وقد استظهر إعلان الثورة الفرنسية لحقوق الإنسان والمواطن هذا المعيار في مادته الثامنة إذ نصت على أن التشريع لا يمكن أن يفرض سوى عقوبات ضرورية على وجه الدقة واليقين.
وقد انعكس هذا المعيار في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (سنة 1948)، الذي لم يسمح مطلقا باستخدام القسوة أو الوحشية أو الحط من الكرامة الإنسانية في العقوبات، ولم يسمح بالاعتداء على الحقوق الأساسية أو التعسف في التدخل فيها (المادتان 5 و8 من الإعلان).
كما جاء العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 16 ديسمبر سنة 1966 فأكد مبدأ عدم خضوع أحد لعقوبات قاسية أو غير إنسانية أو حاطة بالكرامة (المادة 7)، ولم يجز المساس بحرية أحد ما لم تكن هناك أسباب تدعو إلى ذلك وفقا للإجراءات المنصوص عليها في التشريع (المادة 9).
وقد أكدت الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان (1950) ضابط الضرورة، إذ أوضحت المواد من 8 إلى 11 من هذه الاتفاقية في مجموعها أن ممارسة الحقوق والحريات يمكن أن تخضع لشروط أو قيود أو جزاءات ينص عليها القانون، مما يعد تدابير (ضرورية) في مجتمع ديمقراطي، لحماية الأمن الوطني ووحدة الكيان الإقليمي للدولة، أو للمحافظة على الأمن العام، أو الدفاع عن النظام، أو منع وقوع الجريمة، أو حماية الصحة أو الأخلاق، أو حماية حقوق الغير في مواجهة إفشاء الأسرار الخاصة، أو لضمان استقلال سمعة وحيدة القضاء (المادة 10/2). وتطبيقا لذلك، قضت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بأنه يمكن للمشرع أن يضع القواعد التي تنظم ممارسة حرية نقل الأفكار والآراء وأن يضع جزاءات جنائية على مخالفتها "بقصد ضمان فاعليتها أو التوازن بينها مع غيرها من القواعد أو المبادئ ذات القيم الدستورية".
وبالإطلاع على الدستور المصرى، يتضح أنه في مجموعه ينبع عن فكرة الضرورة الاجتماعية والتناسب فيما يتعلق بالمساس بالحقوق والحريات. فالمادة 41 من هذا الدستور لا تجيز تقييد حرية أحد بأى قيد إلا بأمر تستلزمه "ضرورة التحقيق وصيانة أمن المجتمع". كما أن المادة 42 من هذا الدستور تحظر تقييد حرية أحد إلا بما يحفظ كرامة الإنسان. وواقع الأمر، فإن مبدأ التناسب الذي لا تقوم الضرورة في التجريم إلا بمراعاته، يتمتع في ذاته بذات القيمة الدستورية التي تتمتع بها سائر الحقوق والحريات والمصلحة العامة، لأنه من خلال احترام هذا المبدأ يتم احترام كافة القيم الدستورية التي نالت حماية الدستور بطريقة منطقية متوازنة.
ولا شك في أن المحكمة الدستورية العليا يقع عليها عبء مراقبة مشروعية الضرورة والتناسب في التضحيات التي تتحملها القيم التي يقوم عليها النظام الدستوري. فإذا أقدم المشرع على إحداث عدم تناسب ظاهر لا يتفق مع الأهداف والمقاصد التي استهدفها الدستور من وراء حماية الحقوق والحريات وسائر القيم التي ينص عليها، تعرض للقضاء بعدم دستورية القاعدة التي أخلت بضوابط الضرورة والتناسب المطلوب. فالسلطة التقديرية للمشرع في تحديد الضرورة والتناسب في التجريم والعقاب ليست مطلقة، وإنما تحدها الغايات التي استهدف الدستور تحقيقها، لأن السلطة التشريعية لا تمارس اختصاصها إلا في حدود الدستور. فالضرورة والتناسب يكونان معا معيارا دستوريا يتعين الالتزام به.
وحقيقة الأمر، أن الدستور إما أن يعبر عن أحكامه بقواعد محددة تتقيد بها إرادة المشرع، وإما أن يلجأ إلى وضع مبادئ تحدد الغايات التي يجب تحقيقها من وراء نصوصه، وتستنبط هذه الغايات من مجمل نصوص الدستور. ومن واجب المحكمة الدستورية العليا أن تبلور المضمون القاعدي لهذه المبادئ التي تحدد مقاصد المشرع الدستوري، وتراقب المشرع العادي في ضوء احترامه لهذا المضمون. وبالتالى تكون رقابة المحكمة الدستورية العليا للمشرع في تقديره للتناسب هى رقابة مشروعية دستورية وليست محض تدخل في سلطته التقديرية [68]، وذلك باعتبار أن مقاصد الدستور وغاياته وإن تجلت في ثنايا الدستور كمبادئ عامة، إلا أن المحكمة الدستورية بحكم رسالتها تضفي عليها مضمونا قاعديا يأخذ وضعه الأسمي في هرم القواعد القانونية المتدرج، فيتقيد المشرع العادي به فيما يضعه من قواعد. إلا أن الإخلال يجب أن يكون واضحا ظاهرا جليا يكشف بقوة هذا الوضوح عن انتفاء الضرورة أو عدم التناسب في التجريم والعقاب، بل وينطق به دون أن يحتاج الأمر إلى مراجعة في السلطة التقديرية للمشرع والتي تقوم على اعتبارات الملاءمة في اختيار أفضل الوسائل لتحقيق المقاصد التي توخاها المشرع الدستوري. وكما تقول المحكمة الدستورية العليا، فإن الجزاء الجنائي لا يكون مخالفا للدستور إلا إذا اختل التعادل بصورة ظاهرة بين مداه وطبيعة الجريمة التي تعلق بها، ودون ذلك يعني إحلال المحكمة لإرادتها محل تقدير متوازن من السلطة التشريعية للعقوبة التي فرضتها [69]. ويعد الإخلال بالتناسب ظاهرا إذا كان من شأنه أن تفقد الحقوق والحريات جوهرها ومحتواها لدى المشرع، ففي هذه الحالة يبدو جليا مدى الإخلال بالمقاصد التي استهدفها الدستور. 
وقد أكدت المحكمة الدستورية العليا في مصر أنه كلما كان الجزء مقررا لضرورة، ومتناسبا مع الأفعال التي أثمها المشرع أو منعها، متصاعدا مع خطورتها – كان موافقا للدستور [70].
ويرجع ذلك إلى أن التوازن بين الحقوق والحريات، وسائر القيم الدستورية المتمثلة في حقوق وحريات الغير أو في المصلحة العامة؛ يجب أن يتم وفقا للضرورة الاجتماعية والتناسب. وكلاهما من واد واحد؛ فالضرورة لابد أن تكون بقدرها. ومن هنا جاء التناسب [71]، ولا تناسب إلا بالقدر الضرورى. وهكذا فإن ضابط الضرورة والتناسب، يحكم مبدأ أو نطاق تدخل المشرع لتقييد الحقوق والحريات بالقدر اللازم للتوازن مع المصلحة العامة وسائر القيم التي يحميها الدستور.
وقضى المجلس الدستوري فى فرنسا بعدم دستورية نص المادة 421/1 من قانون العقوبات التي اعتبرت من أعمال الإرهاب مجرد مساعدة أجنبي على دخول البلاد أو التنقل أو الإقامة بها على وجه غير مشروع؛ وذلك على أساس أن المشرع جرم هذا السلوك بذاته بناء على هذا الوصف، رغم أنه قد لا تكون له علاقة مباشرة مع العمل الإرهابي الذي قارفه هذا الأجنبي، دون إخلال بإمكان اعتبار هذا الفعل اشتراكا في أعمال الإرهاب، أو إخفاء للمتهم بالإرهاب أو اشتراكا في جمعية إرهابية إذا توافرت الشروط التي يتطلبها القانون لقيام هذه الجريمة. وقد أسس المجلس الدستوري قضاءه على عدم توافر شرط الضرورة في التجريم والعقاب في هذه الحالة [72]، وانتهى المجلس إلى أن المشرع قد مارس تقديره دون تناسب ظاهر "Disproportion manifeste"، على أساس أن التجريم تحت وصف الإرهاب لا يتعلق بأعمال مادية تمس مباشرة أمن الأموال والأشخاص وإنما تتعلق فقط بمساعدة أشخاص في وضع غير مشروع، وأضاف المجلس الدستوري أن وصف الأفعال محل التجريم لا يؤدي فقط إلى تشديد العقوبات بل يؤدي إلى خضوعها إلى إجراءات أكثر شدة مما ينص عليه القانون العام. وذهب المجلس الدستوري في حالة أخرى إلى أنه لا يجوز للمشرع أن يضع عقوبات غير ضرورية [73]. وعلق الفقه الفرنسى على ذلك بأنه قبل التحقق من ضرورة العقوبة يجب التحقق من ضرورة الجريمة. وأنه في المثال السابق تتوافر الضرورة عندما يكون فعل مساعدة الأجنبي على دخول البلاد أو التنقل أو الإقامة بها على وجه غير مشروع قد تم عمدا لمساعدة مشروع فردي أو جماعي يهدف إلى إحداث ضرر جسيم بالنظام العام بواسطة الترويع أو التخويف.
نصت المادة الرابعة من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية على أنه في حالة الطوارئ الاستثنائية التي تهدد حياة الأمة في فترة محددة، والمعلن قيامها رسميا يجوز للدول الأطراف في هذا العهد أن تتخذ في أضيق الحدود التي يتطلبها الوضع تدابير لا تتقيد بالالتزامات المترتبة عليها بمقتضى القانون الدولي وعدم انطوائها على تمييز يكون مبرره الوحيد هو العرق، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الأصل الاجتماعى..الخ (الفقرة الأولى)، على أن التدابير الاستثنائية الممنوحة في هذه الظروف يجب أن يبينها التشريع بطريقة واضحة ومحددة لتجنب أى تعسف في تطبيقها ولتحاشى أى غموض حول حقوق الأفراد وواجباتهم [74]. 
ومع ذلك، فإن هذه التدابير الاستثنائية لا يجوز أن تمتد إلى الحقوق "الأساسية" المنصوص عليها في المواد 6 و7 و8/1 و2 و11 و15 و16 و18 من هذا العهد الدولي (المادة 4/2)، أى أنه لا يجوز لأية دولة أن تخالف التزامها بحماية الحق في الحياة (المادة 6)، والحق في عدم الخضوع للتعذيب (المادة 7)، والحق في عدم الخضوع للاسترقاق والعبودية (المادة 8)، والحق في عدم التعرض للحرمان من الحرية بسبب عدم سداد أحد الديون (المادة 11)، والحق في عدم الخضوع لرجعية قانون العقوبات (المادة 15)، والحق في الاعتراف بالشخصية القانونية (المادة 16)، وحرية الفكر والعقيدة والديانة.
ويلاحظ أن هذه الحقوق تعد معياراً دوليا للتوازن المطلوب بين حماية المصلحة العامة، وحماية الحقوق والحريات في الظروف الاستثنائية. ويلاحظ أن تصديق مصر على العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية يجعله في قوة القانون، مع مراعاة أن احترام قواعد هذا العهد يتم في حدود الدستور. فالشرعية الدستورية بوصفها الأساس في تحديد شكل التوازن المطلوب بين حماية المصلحة العامة وحماية الحقوق والحريات في الظروف الاستثنائية، تحمي مختلف القيم التي نص عليها الدستور سواء تمثلت في الحقوق والحريات، أو في المصلحة العامة. وما أشار له العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية من حقوق لا يجوز للتدابير الاستثنائية المساس بها، أمر يجب وضعه موضع الاعتبار عند إجراء التوازن المطلوب مع حماية النظام العام.
30- وسائل مواجهة الإرهاب :
تتم مواجهة الإرهاب في إطار التناسب والضرورة وفقا للوسائل الآتية:
(1) منع الجريمة.
(2) قمع الجريمة.
(3) النظام الإجرائي.
31- (أولاً) منع الجريمة:
تعتبر الوسائل التي تحول دون وقوع جريمة الإرهاب من أهم وسائل المواجهة، وذلك من خلال ما يلي:
(1)  التوسع في تجريم الأفعال التي من شأنها أن تساعد على تحقيق الإرهاب ولو لم يقع بالفعل. وهو ما يسمى بالتوسع في جرائم الخطر، وعدم اشتراط وقوع ضرر فعلي من الإرهاب، من أمثلة ذلك تجريم إنشاء أو تأسيس أو تنظيم الجماعات الإرهابية، أو مجرد الانضمام إليها أو التحضير للإرهاب أو التشجيع عليه أو ترويجه، وتجريم التحريض على الإرهاب ولو لم ينتج أثرا، وتجريم حيازة المفرقعات وغيرها من أدوات الإرهاب، وتجريم تمويل الإرهاب نظرا لما لهذا التمويل من أثر في وقوع الإرهاب، وكذلك تجريم عدم التبليغ عن جريمة الإرهاب ممن يتصل علمه بارتكابها.
وقد توسع قانون العقوبات المصرى في جرائم الخطر التي تعد إرهابا فنص عليها في المادة 86 مكررا بشأن إنشاء أو تأسيس أو تنظيم أو إدارة جمعية إرهابية بالمعنى الذي حددته هذه المادة، والانضمام لهذه الجمعيات أو المشاركة فيها بأية صورة والترويج للأغراض الإرهابية لهذه الجمعيات كما حددتها هذه المادة. كما عاقب على إجبار الأشخاص على الانضمام للجماعات الإرهابية أو منعه من الانفصال عنها (المادة 86 مكررا ب)، وعاقب على الالتحاق بأى جمعية أو هيئة أو منظمة أو جماعة إرهابية أيا كانت تسميتها، يكون مقرها خارج البلاد حتى ولو كانت أعمالها غير موجهة إلى مصر (المادة 86 مكررا). وعاقب على غسل الأموال وفقا للطرق التي حددها القانون رقم 80 لسنة 2003 بشأن مكافحة غسل الأموال.
(2)  الترخيص بالتدابير التي تسمح بكشف الجريمة أو تعمل على عدم وقوعها. وهذا ما عنى بالنص عليه القانون البريطاني بشأن الإرهاب، والقانون الفرنسى الصادر سنة 2006. وقد عنى القانون الأخير بالترخيص بإنشاء نظام الرقابة بالفيديو وفقا للإجراءات التى حددها . ونص على مراقبة التنقلات والاتصالات المتعلقة بالتبادل التليفونى والالكترونى للأشخاص المشتبه فى اشتراكهم فى أعمال إرهابية ، والرقابة على القطارات الدولية وفقا للأوضاع التى حددها القانون والنص على مراقبة الحدود ومنع الهجرة غير الشرعية.
وبالإضافة إلى ذلك يتعين تشجيع الحوار الذي يخلق بيئة ثقافية رافضة للإرهاب.
32- (ثانيا) قمع الجريمة:
يتعين من خلال قانون العقوبات أن يحتوى القانون على الجرائم التي عنيت مختلف الوثائق الدولية الخاصة بالإرهاب بالنص عليها. وقد تضمن مشروع القانون الخاص بمكافحة الإرهاب الذي أعده مكتب فيينا التابع للأمم المتحدة، جرائم خطف الطائـرات ( المادة 1) وجرائم ضد سلامة الطيران المدني (المادة 2)، وجرائم ضد سلامة المطارات (المادة 3) وجرائم ضد سلامة السفن أو المسطحات البحرية (المادة 4)، وجريمة خطف الرهائن (المادة 5)، والجرائم التي تقع ضد الأشخاص المحمية (المادة 6)، والجرائم التي تقع من خلال استعمال المفرقعات والألغام (المادة 7) ، والجرائم المتعلقة بالمواد النووية (المادة 8) وجرائم تمويل الإرهاب (المادة 9)، وجريمة استخدام الأشخاص لارتكاب الإرهاب (المادة 10)، وجريمة إعطاء الأسلحة لاستخدامها في الإرهاب (المادة 11)، والشروع في ارتكاب الإرهاب والاشتراك فيه (المادة 12)، وجريمة التآمر بإنشاء جماعة إرهابية أو تنظيمها، أو التحضير لها أو التحريض عليها (المادة 13) وجريمة تقديم المساعدة أو الدعم لوقوع الإرهاب (المادة 14).
ويتطلب الأمر أن يفرد القانون الخاص بالإرهاب عقوبات جسيمة تتلاءم مع خطورة الإجراءات. وقد أشار مشروع قانون الإرهاب الذي أعده مكتب فيينا إلى عقوبة مصادرة الأرصدة والممتلكات المستخدمة أو المخصصة لأغراض إرهابية (المادة 15) وتجميد الأرصدة والممتلكات التي استخدمت في الإرهاب أو أعدت لذلك (المادة 17)، مع تخويل السلطة المختصة في أن تأمر بأى تدبير مؤقت تحت نفقة الدولة بما في ذلك تجميـد الأرصدة أو الاتفاقات المالية أيا كانت طبيعتها مما يمكن ضبطه، أو مصادر (المادة 18). كما يجوز للسلطة المختصة أن تضبط الممتلكات المرتبطة بالجريمة محل التحقيق وخاصة الأرصدة المستخدمة أو المخصصة لغرض ارتكاب الجريمة أو المستخلصة منها (المادة 19).
وقد نص قانون العقوبات المصري المعدل سنة 1992 على جرائم اختطاف وسيلة من وسائل النقل الجوي أو البري أو المائي، معرضا سلامة من بها للخطر (المادة 88). وعاقب على السعى لدى دولة أجنبية أو جمعية أجنبية وما نحوها أو تخابر معها للقيام بعمل إرهابي في مصر (المادة 86 مكررا (جـ).
ونلاحظ أنه يتعين إعادة النظر في سياسة القانون المصري في تجريم الإرهاب حتى تتفق مع المنهج الذي أخذت به الاتفاقيات الدولية.
33- (ثالثا) ذاتية النظام الإجرائي:
تتطلب مواجهة الإرهاب وضع نظام إجرائي خاص يضمن فاعليتها في إطار احترام حقوق الإنسان. ويراعى أن يؤسس هذا النظام الإجرائي على المبادئ الآتية:
(1)  تحديد المحكمة المختصة وفقا لمعايير الاختصاص التي يحددها القانون طبقا للدستور.
(2)  النص على أحكام خاصة بالإجراءات الجنائية تراعى اعتبارات الضرورة والتناسب عند مكافحة الإرهاب، مع التأكيد على مبدأ حظر التعذيب، والتأكيد على رقابة القضاء.
(3)  التعاون الدولي. فيتعين النص على تدابير التعاون الدولي التي يمكن الالتجاء إليها للتعاون مع الدول الأخرى من أجل تبادل المعلومات ومباشرة التحقيق أو تسليم المجرمين أو المساعدة القضائية.
(4)  إيلاء عناية خاصة بحقوق ضحايا الإرهاب ليس فقط لتعويضهم دون تمييز عن الأضرار التي تصيبهم، بل أيضا لضمان حقوقهم في الوصول إلى الحقيقة وتحقيق العدالة.

يتبعه >>> (4/4) خاتمة , الهوامش

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق